يمنّي رئيس تحرير مجلة"الهلال"المصرية مجدي الدقاق نفسه في أن تكون"الوثيقة الخطرة"التي"تتفرّد"المجلة في نشرها ضمن عددها الجديد تحت عنوان:"أمين الريحاني جاسوس أميركي"بمثابة"قنبلة فكرية وثقافية ضخمة". ويسمّي الدقاق الريحاني في مقدمته بپ"بطل الوثيقة"وقد حمل الغلاف صورته مرفقة بپ"التهمة"التي كيلت له جزافاً. ولم يخف الدقاق ان الوثيقة التي"تفضح"أمر الريحاني كان نشرها هو نفسه عام 1980 في ملحق صحيفة"الثورة"في اليمن، مبرراً نشرها الآن وفي"الهلال"في كونها لم تلق أي صدى حينذاك ولم تثر أي سجال. ولا يخفي طموحه المعلن الى اثارة الضجة حول هذه الوثيقة معلناً فتح صفحات"الهلال"لأي مقال أو ردّ، وكأن كل الغاية من نشر"الوثيقة"إحداث صخب إعلامي، يبدو ان المجلة تحتاج اليه كل الاحتياج، بعدما أصابتها"الشيخوخة"وأضحت من صحافة الماضي. العنوان الذي حمله غلاف"الهلال"قاسٍ جداً ونافر ومخجل ولا يليق بأي كاتب مهما كان حجمه. فالجاسوسية تهمة"تقنية"وذات بعد جرميّ ولا يمكن إطلاقها إلا على"العملاء"الذين يُفتضح أمرهم ويدانون. ترى، أليس عيباً إطلاق هذه"التهمة"على كاتب كبير في حجم أمين الريحاني؟ هل قرأ مجدي الدقاق وأستاذه الذي حصل على الوثيقة المؤرّخ المصري محمد أنيس كتب أمين الريحاني ولا سيما"تاريخ نجد الحديث"1927 وپ"ملوك العرب"1924 قراءة حقيقية؟ ثم هل يجوز نشر"وثيقة"توفي مالكها محمد أنيس وكان حصل عليها بدوره من محمد مرسي عبدالله الذي كان مقيماً في الإمارات؟ الأسئلة كثيرة وما نشرته"الهلال"لا يجيب عنها. فالوثيقة لم ينشر لها أي أصل بخط الريحاني ولا باللغة الانكليزية، ولم تنشر حتى صورة لصفحة من صفحاتها، ولم يُشر الى مترجمها الى العربية ولا الى مرجعها الوثائقي... ولعل مَن يقرأ هذه"الوثيقة"يستعيد للفور المادة التي احتواها كتاب"تاريخ نجد الحديث"وهو يؤرّخ الحقبة الأولى من القرن العشرين سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وقد يكون ما ورد في"الوثيقة"جزءاً مما ورد في كتاب الريحاني ولكن بعدما أعاد كتابته بالعربية. وإن سمّت"الهلال"أمين الريحاني جاسوساً، فإن مالك"الوثيقة"محمد أنيس يسمّيه"جاسوساً من نوع متميّز"، وتبريره ان انخراط الريحاني في شبكة"الجاسوسية"حصل في أميركا نفسها. ويفترض ان هذا"الانخراط"تمّ بعد فشل الريحاني طالباً في دراسة القانون وفن التمثيل. وفات المؤرّخ المصري الذي اعتمد في كتابته عن الريحاني مرجعين قديمين لم يبقيا الآن مصدر ثقة روفائيل بطي وجورجي نقولا باز أن الريحاني كان له من العمر في تلك الفترة اثنتان وعشرون سنة، وأصيب بمرض حال دون مواصلته الدراسة في جامعة نيويورك، فنصحه الطبيب بالعودة الى وطنه للاستشفاء والنقاهة. ليس المجال متاحاً هنا لاستعراض سيرة الريحاني، لكن القارئ الحصيف يدرك ان المعلومات التي سيقت في"الوثيقة"أو"التقرير"لا تحمل جديداً، بل هي عادية جداً باعتراف المؤرخ المصري محمد أنيس نفسه، وهو يشير أيضاً الى أن"وزارة الخارجية البريطانية تعرف هذه المعلومات من زمن بعيد". والسؤال الذي لا جواب شافياً له هو: هل تحتاج الولاياتالمتحدة الأميركية الى كاتب"ثوري"وپ"إصلاحي"مثل أمين الريحاني لتوكل اليه مهمة"التجسس"؟ وأي تجسس هذا؟ وعلى من؟ ألا يكفيها ما أرسلت من مبعوثين ومستشرقين وخبراء الى المنطقة ليرفعوا اليها تقارير دقيقة خصوصاً حول النفط؟ لم أقرأ يوماً في كل ما قرأت للريحاني وعنه انه خبير نفطي لا سيما في مطلع القرن المنصرم. ولو قرأ المؤرخ المصري محمد أنيس كتب الريحاني واطلع على فكره لما تجاسر عن الكلام على"شرف"الريحاني وضميره وعلى قيامه بپ"إنارة"الطريق للادارة الأميركية في العالم العربي. هل يستطيع الريحاني حقاً أن يؤدي مثل هذا الدور، هو الذي لم يُجدِ قيادة الدراجة فوقع عنها ومات في قريته الفريكة؟ لست أدافع عن أمين الريحاني، فهو لا يحتاج إليّ ولا الى أحد كي يدافع عنه، ما دامت كتبه البديعة والمتنوعة خير شاهد على حقيقته وعلى الثورة الاصلاحية والفكرية التي دعا اليها. ولا أدافع عنه انطلاقاً من موقف"إقليمي"، فهو كان عربياً أكثر مما كان لبنانياً ولم يفهم لبنانيته إلاّ في سياقها العربي. كان الريحاني بحق رجل الوعي والتحرر، ثار على التقاليد العمياء وعلى الجهل والتعصب. وكان كاتباً تقدمياً ولو على طريقته، داعياً الى اليقظة والى نبذ الطائفية والى الاعتقاد بالله والأخوّة البشرية. وحض العرب على التعاون والتكاتف لتحقيق النهضة الاجتماعية. وكم حلم بإقامة مدنيّة جديدة في الشرق العربي توفّق بين العقل والإيمان، متأثراً بالثورة الفرنسية التي وضع عنها كتاباً عام 1908. ليت مجلة"الهلال"تأنّت في كيل التهمة الرهيبة للريحان، فهي لم تسئ اليه مقدار ما أساءت الى نفسها والى ماضيها الجميل. فالأسلوب"الفضائحي"الفارغ لا يليق بها ولا بكتابها ولا بمؤسسها جرجي زيدان. ولو كانت محقة في تهمتها لكانت نشرت"الوثيقة"بصورتها الأصلية وقرأتها في ضوء أعمال الريحاني نفسها. ما أسهل إطلاق التهم... وما أصعب تأكيدها.