لن يكون بالإمكان الحديث عن الأزمات التي تمر فيها بلدان المنطقة من دون الوقوف عند ظاهرة تراجع مشاريع التغيير الكبرى التي حملت اسم الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرر الوطني المتأثرة بالفكر الاشتراكي. فحركة التحرر الوطني هذه، بمكوناتها المختلفة، ساهمت بتوليد عناصر تفككها وانهيار مشروعها، لكونها ساهمت في توليد الاستبداد، وصارت ضحيته. ولا يتعلق الأمر من الناحية التاريخية بالمرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة العالمية المسماة اشتراكية التي كانت مرتبطة به وبنموذجه المعمم للاشتراكية. فهذا التراجع كان قد بدأ قبل ذلك التاريخ بعقود. ولهذا التراجع الذي شهدته أحزاب التغيير باسم الاشتراكية، في بلدان المنطقة، أسبابه الداخلية. ولعل أبرز هذه الأسباب، في تقديرنا، يعود إلى صعوبة الأوضاع في هذه البلدان، التي نتجت من جراء سيادة أنظمة الاستبداد فيها. يضاف إلى ذلك سبب بنيوي في هذه الأحزاب ذاتها تمثل في كونها عجزت عن تأصيل ذاتها في البيئة المحلية لبلدانها، ونهج قسم منها سياسة الالتحاق بسلطات الاستبداد باسم الاشتراكية. ولم تستطع حماية موقعها المستقل، فتوزعت علاقاتها، في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بنسب متفاوتة، بين الطوائف والمكونات السياسية الأخرى، وبين ولاءات أو تحالفات من أنواع أخرى، وأعطتها تبريرات فكرية وسياسية واجتماعية. الأمر الذي أضعف قدرة هذه الأحزاب والحركات على الإبداع في إنتاج معرفة دقيقة بأوضاع بلدانها، وفي تحديد مهمات واقعية لإحداث التغيير فيها. أما الأسباب الخارجية فتتمثل بنوع العلاقات التي كان يقيمها الاتحاد السوفياتي مع الأحزاب الشيوعية واليسارية ومع حركات التحرر الوطني. فمن المعلوم أنه طغى لزمن طويل نمط فظ من الأبوة من قبل الاتحاد السوفياتي على هذه الأحزاب والحركات، ترافق مع قمع فظ لكل من كان يخالف التوجهات الآتية إليه من المركز الأممي. لكن تراجع هذه المشاريع وتراجع دور أصحابها لم يحصل دفعة واحدة. بل هما كانا يحصلان بالتدريج. وسيكون من الظلم والتعسف أن نهمل الدور الدي لعبته الحركات الشيوعية خصوصاً في فترات سابقة، وكذلك دور الحركات القومية التي تطعمت بالأفكار الاشتراكية، في فترة لاحقة، في مجمل النضالات الوطنية والاجتماعية. وكان هذا الدور متميزاً. غير أن الانقسامات والصراعات التي نشأت بين التيار الشيوعي والتيار القومي حول قيادة النضال، وحول الأهداف المباشرة والبعيدة المدى، وحول أشكال هذا النضال، وحول أمور أخرى، فضلاً عن الانقسامات التي حصلت داخل هذه الأحزاب بسبب فكرها الشمولي وتنظيمها المركزي، سرعان ما بدأت تترك تأثيراتها السلبية على الجميع. ولأن الأفكار والشعارات التي حملتها الحركات القومية كانت طوباوية وكانت المشاعر تحكمها وتحل محل العقلانية في الفكر وفي السياسة، فقد انتهى الأمر بهذه الحركات إلى القيام بمغامرات سياسية كان أخطرها وأكثرها ضرراً على مجمل الأوضاع في عدد من هذه البلدان الحروب العشوائية غير المهيّأة شروط النجاح فيها، مع إسرائيل، وإقامة وحدات قسرية بين بعض البلدان، والقيام بانقلابات عسكرية بهدف التسريع في الوصول إلى مواقع القرار في السلطة. وكان من النتائج الكارثية لكل هذه التطورات المتمثلة بإقامة أنظمة شمولية عسكرية الطابع، والمتمثلة بالهزائم العسكرية في الحروب مع إسرائيل، والمتمثلة كذلك بالقمع الوحشي لكل أشكال الاحتجاج، وباضطهاد الأقليات القومية، كان من نتائج ذلك كله أن انكفأت الجماهير عن مشاريع التغيير بصيغها وسماتها المختلفة، وانكفأت خصوصاً عن أصحابها. وتوفرت بذلك الشروط لنهوض الحركات الأصولية بصيغها المختلفة، لاحتلال الموقع الشاغر في ساحة الصراع حول الحاضر والمستقبل. وباتت أحزاب التغيير الشيوعية وذات التوجه الاشتراكي، بفعل هذه الوقائع الجديدة، أحزاباً هامشية، أو ملحقة بسلطات قائمة، أو ملتصقة بمشاريع سلطات اعتراضية ذات ألوان قومية ودينية سلفية الطابع والمضمون والأهداف. الدور المطلوب من المجتمع الدولي من الواضح أن انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته العالمية قد أحدث تصدعاً كبيراً في الأوضاع الدولية. وكان من النتائج الأولى لهذا الزلزال المدوي أن العالم أصبح أسير قيادة قطب واحد هو الولاياتالمتحدة الأميركية. غير أن هذا التغير الكبير الذي حدث لم يكن وحده المؤشر على تنامي وتعاظم الدور الذي يحتله الرأسمال المعولم في حياة الأمم والشعوب في هذه الحقبة الجديدة من تاريخ العالم. فقد كانت ظاهرة العولمة الرأسمالية قد بدأت تتخذ دورها المهيمن على العالم منذ سبعينيات القرن الماضي، وربما قبل ذلك أيضاً. وكان يتعاظم مع تعاظم العولمة الرأسمالية هذه دور الولاياتالمتحدة الأميركية في سعيها للهيمنة على العالم، وفي إصرارها على التحكم بالمؤسسات الدولية الأممالمتحدة وقراراتها، وعملها الدؤوب للتوسع بما في ذلك بحروب التدخل، فضلاً عن ممارسة أشكال مختلفة من الضغوط الاقتصادية ومنها فرض الحصار على دول وشعوب مختلفة. ورغم أن العولمة هي ظاهرة موضوعية في الأساس تحدث عنها منذ وقت مبكر جداً ماركس في كتابه"رأس المال"وفي كتابات أخرى له حدد فيها أفق تطور ونضوج الرأسمالية، إلا أن للعولمة جانبين يجب التفريق بينهما: الجانب الأول المتمثل بكون حركة الرأسمال تقود موضوعياً إلى توحيد العالم، وإنها تنتج مع تطورها وتعاظم قدرتها على الهيمنة على حركة التطور عناصر مهمة من عناصر صنع التقدم في مجالاته كافة. وهو ما يتمثل خصوصاً بأوتوسترادات المعرفة والاتصالات. الجانب الآخر المتمثل باستخدام هذا الرأسمال المعولم في سعيه للهيمنة على العالم، استخدامه لهذه الإنجازات العلمية الهائلة بأبشع الأشكال توحشاً وظلماً وقهراً، والتدخل في شؤون الأمم والشعوب بما في ذلك بالحروب، والعبث بمحيط الأرض وبفضائها. إن أشكال الظلم والقهر التي مورست ولا تزال تمارس بحق دول وشعوب المنطقة قد خلقت في النفوس أحقاداً عميقة الجذور. ومعروف أن اليأس عندما يبلغ مداه يدفع أصحابه ليس فقط إلى الانتحار، بل كذلك إلى أغرب أشكال الاحتجاج وأكثرها تدميراً. ولعل أكثر ما تعاني منه شعوب هذه البلدان، إلى جانب ما يمارسه الرأسمال المعولم ضدها من قهر وظلم واستغلال، هو ما تمارسه الإدارات الأميركية المتعاقبة من قمع مباشر وغير مباشر لحقوقها القومية والاجتماعية والإنسانية. وهو ما يتمثل خصوصاً في الدعم غير المحدود لإسرائيل وإدارة الظهر لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة. وهي مسألة لا يوليها المجتمع الدولي الأهمية التي تحتلها في أعمق أعماق مشاعر شعوب المنطقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأسباب الأساسية التي قادت وتقود أوساطاً واسعة من الجماهير ومن النخب السياسية والثقافية لتناسي مظالم نظام صدام حسين، ولتأجيل التفكير بمخاطر الأصوليات الدينية، وللتعاطف ليس فقط مع"حزب الله"و"حماس"بل حتى مع بن لادن، إنما تعود كلها إلى هذا الحقد الذي تنامى بصورة قوية جداً ضد الولاياتالمتحدة وضد إسرائيل وضد الحركة الصهيونية العالمية. بل إن جزءاً من الأحقاد بدأ يتجه نحو المجتمع الدولي الذي يبدو عاجزاً عن الوقوف في وجه هذين الشكلين الفظين من التعسف الأميركي والعنصرية الإسرائيلية. ولا تستثنى الأممالمتحدة من هذا النوع من الحقد لعدم قدرتها على تنفيذ قراراتها ذات الصلة بحقوق شعوب المنطقة، لا سيما حق الشعب الفلسطيني المشروع في إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه فلسطين. حلول لا تقبل التأجيل لم تكن مهمة هذا البحث الدخول في عمق القضايا الكبرى التي تواجه بلدان منطقة الشرق الأوسط. ولم تكن مهمته كذلك تقديم حلول لتلك القضايا. الوظيفة الأساسية لهذا البحث، كما حددتها له، تتمثل في إلقاء الضوء على هذه القضايا، وتنبيه المجتمع الدولي إلى ضرورة التعامل معها من خلال معرفتها وفهم تعقيداتها، وذلك بأفق تقديم المساعدة لشعوب المنطقة من خارجها، وباسم الشرعية الدولية، في ايجاد حلول تدريجية لهذه القضايا، إنقاذاً للسلام في المنطقة وفي العالم، وإنصافاً لهذه الشعوب المظلومة من داخلها ومن خارجها، وتمكينها من تقرير مصائرها بحرية ومن دون قسر وظلم وقهر ومن دون تدخل خارجي مباشر في شؤونها. وأسمح لنفسي هنا بتقديم بعض الاستخلاصات التي أحاول أن أحدد فيها بقدر من الوضوح بعض الأمور التي يمكن أن تشكل أساساً لقراءة واقعية تسمح بمعالجة هذه القضايا الكبرى وإيجاد حلول صحيحة وعادلة لها. إلا أنني أود أن أبدأ هنا بالتذكير ببعض بديهيات - أو ما اعتبره بديهيات - في التعامل مع قضايا الشعوب. وفي رأيي فإن ثمة أربعة مستحيلات ينبغي التذكير بها: المستحيل الأول هو فرض السعادة على شعب من خارج إرادته وبالقسر. فإن سلوك مثل هذا الطريق في فرض السعادة على الآخرين من شأنه أن يؤدي إلى عكس ما يبتغى منه في الحالتين: حالة القوى التي تتدخل من الخارج لفرض هذه السعادة على الشعب المعين، وحالة الشعب الذي يراد أن تفرض عليه السعادة من خارجه، وضد إرادته. مثال أفغانستان هو من أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا الأمر، في زمن النظام الشيوعي وفي الزمن الحالي. المستحيل الثاني هو أن تحاول ثورة منتصرة، بالعنف أو بسواه، أن تصدر ثورتها، وأن تصدر مرجعيتها، والايديولوجية العلمانية أو الدينية، إلى أماكن أخرى، سواء بالعنف أو بوسائل أخرى. فهذا الطريق محفوف دائماً بالأخطار. ومثال ما تمارسه الثورة الإسلامية الإيرانية دليل واضح على هذه المخاطر على الطرفين، الثورة الإيرانية ذاتها، والثورات المصدّرة إلى العراق وإلى لبنان، على وجه الخصوص. وعلينا أن نتذكر في هذا المجال ما حصل في أوروبا الشرقية في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدور مباشر من الاتحاد السوفياتي، وأن نتذكر النتائج التي شهدناها في هذه البلدان بعد نصف قرن من الزمان. المستحيل الثالث هو ما حاولت وتحاول أن تقوم به دول قوية عظمى مثل الولاياتالمتحدة الأميركية، أو"أقل عظمة"مثل إسرائيل وسورية. وهو ما تمثل بالتدخل العسكري الأميركي الفظ في العراق، وبالقمع الهمجي الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، وبالتدخل السوري الفظ في لبنان بكل الوسائل لفرض الوصاية على هذا البلد. والمبررات والحجج التعسفية في كل هذه الحالات كثيرة لا تحتاج منا إلى الدخول في تفاصيلها. المستحيل الرابع هو محاولة قمع الحركات الدينية، سواء منها الرجعية والهمجية التي يشكل بن لادن والزرقاوي وأمثالهما نموذجها، أم تلك التي تقاوم بالسلاح دفاعاً عن قضية وطنية عادلة. وهي ما يشكل"حزب الله"في لبنان و"حماس"في فلسطين نموذجها الآخر. فمحاربة الحركات الدينية بنموذجيها، باسم محاربة الإرهاب، من دون ولوج الطريق الصحيح لإزالة الأسباب التي أدت إلى حصول هذه الظاهرة، سيجعل بسطاء الناس، وحتى العديد من النخب السياسية والثقافية، يقفون إلى جانب هذه الحركات ضد تدخل الخارج، ويبررون حتى ما لا يمكن تبريره من أعمال عشوائية وعدمية، من نوع العمليات الانتحارية، التي ترفضها الأديان جميعها، لا سيما الدين الإسلامي. إن التذكير بهذه المستحيلات الأربعة يشكل، كما يبدو لي، المدخل إلى قراءة ما نحن بصدده من وقائع، وإلى استخلاص الدروس الضرورية لمواجهة هذه الوقائع. وفي اعتقادي فإنه لم يعد مفهوماً أن يظل المجتمع الدولي عاجزاً عن حل قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية، وعاجزاً عن أن يفرض على إسرائيل وعلى الولاياتالمتحدة الأميركية الإقرار بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على أرض وطنه التاريخي فلسطين، إلى جوار دولة إسرائيل. وقد أصبح واضحاً أنه كلما تأخرت إسرائيل في حل هذه القضية ازدادت في مجتمعها حالات الكراهية الممهورة بالعنصرية ضد العرب، وازدادت، بالمقابل، حالات الكراهية والتعصب عند عرب فلسطين وعند العرب جميعاً ضد إسرائيل وضد اليهود كشعب وكدين. أما الموضوع النووي الإيراني فله، في نظرنا، وجهان: يتمثل الوجه الأول بحق إيران المشروع، أسوة بسواها من الدول، في تخصيب اليورانيوم من أجل استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية. ويتمثل الوجه الثاني بالسعي المضمر لدى إيران لانتاج قنبلة نووية. وهي تتذرع في ذلك بأن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية، وترفض مراقبة ترسانتها هذه، وتمارس اغتصاباً لحقوق الشعب الفلسطيني، وتتنكر لحقوقه الوطنية، وتحتل الجولان السوري، وترفض بصلافة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. وهي حجج لا تبرر لإيران امتلاك السلاح النووي، لكنها تطرح على بساط البحث قضية تشكل مصدر خطر دائم على السلام يتمثل في الموقف الراهن المتعنّت لإسرائيل في تعاملها مع الشعب الفلسطيني. ولذلك فإننا نعتقد أن معالجة الملف النووي الإيراني يجب أن تنطلق من هذين الجانبين للمسألة، وليس بمعزل عنهما. إن كل ما تقدم من عرض لقضايا المنطقة يتطلب بالضرورة أن تدرك القوى الديموقراطية في أوروبا خصوصاً، وفي بقية بلدان العالم، المعادية للسياسات الأميركية في مجالاتها كافة، أن الطريقة السائدة التي تعلن بها هذه القوى تأييدها لنضالات شعوب المنطقة، لا تسهم واقعياً، لا في مساعدة هذه الشعوب في تحقيق أهدافها، ولا تسهم، في الوقت ذاته، في الحد من هيمنة أميركا على العالم، ومن تدخلها الفظ في شؤون البلدان الأخرى بكل الوسائل بما في ذلك بالتدخل العسكري. لقد حان الوقت كي يجري استخلاص عملي وواقعي لكيفية التعامل مع قضايا الشعوب المقهورة، من جهة، وللتعامل مع هذا النمط المتوحش من التدخل الأميركي في شؤون الأمم والشعوب، من جهة ثانية، وفي التعطيل المتواصل لدور الأممالمتحدة، رفضاً للوظيفة التي أنشئت من أجلها هذه المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من جهة ثالثة. وتبدو لنا، في هذا السياق، كقضية لها الأولوية في الوقت الراهن، الأهمية القصوى للعمل بكل الوسائل لاستعادة الأممالمتحدة دورها الأصلي، خارج أي نوع من أنواع الهيمنة عليها، وجعلها قادرة على تنفيذ القرارات التي تتخذها ويتخذها مجلس الأمن الدولي تأميناً لحقوق الشعوب في تقرير مصائرها. وتحتل، في هذا المجال، أهمية كبيرة قضية العمل من قبل القوى الديموقراطية في العالم لخلق حركة أممية جديدة تحت شعار عولمة إنسانية بديلة من العولمة الرأسمالية المتوحشة. فإن من شأن التوصل إلى تطوير وتدعيم هذه الحركة أن يساهم في جعل الحضارة العالمية الآخذة في التكون حضارة إنسانية، يعززها التفاعل الديموقراطي الحقيقي بين ثقافات أمم العالم وشعوبها. أما في ما يتعلق بشعوب المنطقة فإن المهمة الأولى المتعددة الجوانب المطروحة أمامها إنما تتلخص في قدرة هذه الشعوب على التخلص من الأنظمة الشمولية، القومية والدينية، والتحرر من كل أشكال الاستبداد القديمة والجديدة، التي تهيمن على هذه المنطقة وتحول دون دخولها في تحولات العصر الكبرى. وتبرز، كمهمة أساسية في هذا الاتجاه، قضية بناء الدولة الحديثة، الدولة الديموقراطية، وتحرير المجتمع من كل آثار الاستبداد، والعمل على وضع خطط مدروسة، لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية تحرر الإنسان الفرد في هذه المنطقة من كل العبوديات التي فرضت ولا تزال تفرض عليه، سواء باسم الهويات التي يراد إبقاؤها كما هي من دون إغناء وتجديد، أم باسم الدين، الذي تنزع منه قيمه الإنسانية، ويجري إدخال تشويهات وخرافات عليه تتناقض مع قيمه هذه. وقد يكون في بعض ما هو مطلوب من القوى الديموقراطية في هذه البلدان، ومنها قوى دينية مستنيرة، أن تدخل في شكل من الأشكال بإجراء إصلاح ديني له جذور حقيقية في تاريخ الإسلام، وفي حركة النهضة العربية التي سادت في القرن التاسع عشر، وقمعت من داخل هذه البلدان ومن خارجها. إلا أن ما هو مهم، بالمقابل، هو أن تبذل القوى اليسارية، الشيوعية والاشتراكية والقومية ذات التوجه الاشتراكي، أقصى الجهد لاستعادة دورها القديم في شكل جديد معاصر، وأن تتحرر من كل الأنماط السابقة في الفكر وفي السياسة وفي أشكال العمل وفي أشكال التنظيم، التي ساهمت في إضعافها وتهميشها. تلك هي بعض الأفكار التي أردت أن أستخلصها من هذا البحث. وهي قضايا كبرى بالغة التعقيد في منطقة تاريخها مليء بالأحداث الكبرى، ومستقبلها ما يزال يحبل بمثل هذه الأحداث الكبرى أيضاً. وجميعها أحداث لم تنتج سوى التدمير الذاتي، فضلاً عن كونها أدخلت المنطقة والعالم في حالات من الخطر الحقيقي المتواصل على السلام العالمي. * كاتب وسياسي لبناني ينشر هذا المقال في العدد الثالث كانون الأول 2006 من مجلة "Fondation" التي تصدر في باريس