قد يبدو الكلام عن الأزمة الثقافية في فلسطين مستغرباً في ظرف الاحتقان السياسي الحاصل في الأراضي الفلسطينية بسبب تصادم برنامجي المقاومة والتسوية، وفي ظرف الحصار الاقتصادي الدولي الذي يمارس على الشعب الفلسطيني، وفي ظرف العدوان الإسرائيلي اليومي على الأرض والإنسان. لكن الظروف المعقدة التي تمر بها الحالة الفلسطينية ظروف ملازمة لهذه الحالة بسبب بقاء الاحتلال الذي يعتبر حجر الزاوية في توصيف أية أزمة تمر بها الحالة الفلسطينية بنسب متفاوتة. ومن الظلم للثقافة في فلسطين أن نظل نخفي حال واقعنا الثقافي الذي تمارس عليه ضغوط ثقيلة لا يملك أدوات مواجهتها. ان أزمة الثقافة في فلسطين جزء من أزمة الثقافة العربية عموماً لكنها تختص بأنها ثقافة قابلة للتجدد والحياة بحكم بقاء الدافع الملتهب الاحتلال. من المعروف في الشأن الثقافي أن التوصيف فيه يجمع تشابهات كبيرة بين المفردات الجغرافية المتبعثرة. وسنحشد ها هنا جوانب الأزمة الثقافية الفلسطينية، غير غافلين عما حققه المبدع الفلسطيني في مجالات الثقافة كافة من إنجازات على رغم المعاناة الكبيرة التي تلمّ به. تتلازم المنظومة الفكرية في الوضع الفلسطيني مع التنظيم السياسي، وفي ظل تعدد المدارس السياسية نشأت استقطابات حادة بين هذه المدارس تعتمد على فكرة قديمة تدور على انتزاع عناصر النخبة بكل وسيلة لضمها إلى التنظيم، ما تسبب بحالات تزوير فاضحة لشخصية المثقف والمبدع حيث جرى تضخيم من يستحق ومن لا يستحق، كما جرى إهمال متعمد بل إسقاط وتحجيم لمن يمتلك الأهلية والموهبة المبدعة لعدم اتفاقه مع التنظيم الأوفر مالاً ونفوذاً، ولم تستطع التيارات الصغيرة تقديم نماذجها نظراً الى ضخامة المنافسة لدى التنظيمات النافذة. ليس غريباً على المتابع للوضع السياسي وتداعياته الاقتصادية أن يجد أسباب انهيار نصف المؤسسات الثقافية الفلسطينية الثلاثمئة في مناطق السلطة الفلسطينية بسبب ضعف التمويل أو انعدامه، بينما يعاني معظم النصف الآخر من وضعٍ متردٍ في النشاطات والفاعليات والمشاريع لهذا السبب. ولذلك نجد بعض هذه المؤسسات يعتمد على برامج المنظمات الأجنبية غير الحكومية من خلال العمل على تنفيذ برامجها ذات الأجندات الخاصة. وفي التقرير الربعي الثاني الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2006 نقف على حقيقة خطيرة وهي أن موازنة الثقافة الرسمية لا تتجاوز 2 في الألف من موازنة السلطة، بينما لم تتعد حصة الثقافة في موازنة 2003 0.39 تنفق في معظمها على مرتبات الموظفين والمصاريف الجارية، كما تنعدم أي مخصصات للبنى التحتية الثقافية أو مشاريع أنشطة وطنية. ونتيجة لهذه الظروف القاسية قدم اتحاد الكتاب الفلسطينيين في مناطق السلطة استقالته لغياب الموازنة وعدم قدرته على دفع إيجار المقر. وسبق ذلك تعليق مجلة"الكرمل"الشهيرة عن الصدور من دون إعلان توقيفها، وهي يترأس تحريرها الشاعر محمود درويش، وتوقفت مجلة"أقواس"الصادرة عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله. وتعاني مجلة"الشعراء"وضعاً اقتصادياً متدهوراً دفعها الى طلب المساندة من منظمات عربية ثقافية أملاً بالحصول على بعض المساعدة، بينما توقفت مجلة"دفاتر ثقافية"الصادرة عن وزارة الثقافة لانعدام التمويل. أما الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين وفروعها خارج فلسطين فهي تعاني حالة اقتصادية خانقة تسببت في توقف النشاطات والفعاليات ورعاية المثقفين، وتعتمد في تسيير بعض شؤونها الإدارية على ما تقدمه بعض الفصائل كمساعدات لها. ويعاني المثقف الفلسطيني معاناة إضافية حيث كان يجمع لنفسه وأهله لقمة عيشه، ويترك ما تبقى - إن تبقى - لينشر شيئاً في كتيب أو في إصدار ضعيف الإخراج، وصار بعضهم يبيعون إنتاجهم لهذا الثري أو ذاك من طلاب الشهرة الكاذبة. المثقفون المبدعون الذين هم عصب الحياة الثقافية لا يكادون يستفيدون أيضاً من المردود المادي لأي إنتاج ثقافي يقدمونه، لضعف القدرة الاستثمارية في هذا المجال، أو ضياع حقوقهم المادية. ولا تتمتع أعمالهم بأي امتيازات ضريبية أو تشجيعية. أما القطاع الخاص الفلسطيني فدوره هامشي جداً في دعم الثقافة ومنابرها، مع أنه كان لبعض المؤسسات المالية الخاصة مساهمات مهمة في دعم الحياة الثقافية حيث أنشأت منظمات ثقافية أهلية ومنحتها عليها موازنات مقبولة لأغراض تجمع بين الدعاية والالتزام الوطني. هكذا تشهد فلسطين حال انهيار مؤسسية للعمل الثقافي الفلسطيني بسبب الظروف الاقتصادية الخانقة التي أصابت المؤسسات الفلسطينية والمثقفين في آن واحد. وفي المقابل فإن تقنية الاتصالات أتاحت للعديد من الأدباء الفلسطينيين الشباب أن يبنوا منابر لهم عبر الشبكة العنكبوتية، وقاموا ببناء منابر للمواهب الكبيرة من أسلافهم لا سيما ذوي القربى منهم. وهناك مئات المواقع الفلسطينية الشخصية التي تفتقر الى الكثير من الدعم لكنها تشبه الخروج من الرماد في ما يشبه التحدي. في ظل تصارع المدارس والأفكار وتأثرها الكبير بالرؤى السياسية غابت الاستراتيجيات الثقافية، وطرائق التعامل مع المحيط العربي والدولي، وكيفية استيعاب المستويات الثقافية الفلسطينية في الجغرافيات المختلفات، وكيفية التعامل مع واقع الاحتلال، والتكيف التصاعدي مع أسلوب التصعيد الاحتلالي، وكيفية التعاطي مع إشكالية المواطنة الإسرائيلية لدى فلسطينيي 48 ودعم الثقافة لديهم بما يعزز هويتهم، وكيفية مواجهة التطبيع الثقافي في ضوء اتفاقات تفرض عليك التطبيع، وتكرسه المؤسسات الدولية والغربية الممولة. ولم تفلح المؤسسات الرسمية في منظمة التحرير أو في السلطة الفلسطينية أو في الفصائل في وضع إستراتيجية موحدة للثقافة في فلسطين، وإنما صدرت رؤى ثقافية عامة أو خاصة لا تشكل بناء تخطيطياً لاستراتيجية واجبة. وباتت الحاجة ماسة إلى إعادة بناء القيم الثقافية للهوية الفلسطينية الوطنية والضوابط العامة لها بعد الهزة العنيفة التي أصابتها عقب أوسلو، وهو الأمر الذي لم تبذل فيه جهود كافية من المؤسسات المعنية. وفي استعراض للمادة الثقافية المعروضة في وسائل الإعلام الفلسطينية نلاحظ أثر غياب الرؤية في البرامج غير المدروسة وغير الخاضعة لتخطيط أو ترتيب للأولويات الثقافية أو التزام بخطة للتنمية الثقافية، وكثير منها أقرب إلى العشوائية والارتجال، ويعرض ما هو متاح سهل من دون بحث أو تعب في إعداده فتخرج مادة متواضعة فقيرة المضامين، غير قادرة على تسجيل الحضور فضلاً عن المنافسة. وفي الوقت الذي تشتد الحاجة إلى منظمة التحرير الفلسطينية ودائرة الثقافة فيها فإننا نجد المنظمة بدوائرها معطلة تماماً، وهناك غياب تام لدائرة الثقافة التي لا يُعرف رئيسها أو يسمع به الناس - إن كان موجوداً - ولا توجد لها موازنة معروفة أو مؤسسات يمكن للمثقف الفلسطيني أن يقصدها. تقع المراكز الثقافية والمؤسسات الداعمة لها في بعض المدن الرئيسة مثل رام الله وغزة بينما تعاني مدن كبيرة وقرى كبيرة حرماناً شبه تام من هذه الإمكانات. ولا تمارس السلطات البلدية في هذه المرافق ما يتوجب عليها فعله لرفد النشاط الثقافي وتفعيله لغلبة الحاجة المعيشية، وما يترتب على اجتياحات الاحتلال ومفاسده الدائمة. ومع أن ما يقارب 300 مؤسسة تنتمي الى القطاع الثقافي تم الترخيص لها، فإن نصفها لا يعمل ونصفها الآخر يتهدده الإغلاق لضعف التمويل، ولا توجد مسارح مؤهلة إلا مسرح"القصبة"في رام الله، وعدد من المسارح الصغيرة في الضفة والقطاع، تحتاج الى الكثير من التأهيل، ولا توجد دور عرض مؤهلة أو فرق وطنية ممولة في مجالات المسرح أو الفنون. ولا توجد أكاديميات ثقافية أو تختص بالإبداع، كما تندر مراكز المخطوطات إذ لا توجد سوى إدارة للوثائق والمخطوطات بلا تمويل ولا كادر سوى مدير يعتمد على مبادرته الشخصية، وتتبع هذه الإدارة وزارة الأوقاف. قد يظن القارئ أننا نشخص الجانب السلبي من الواقع الثقافي الفلسطيني وهو ما أردناه حقاً، لأن سلبيات هذا الواقع أكبر من إيجابياته. وما يصنع ثقافة الشعب الفلسطيني الآن هو السياسة التي تتحرك بها القوى التي تتعامل مع المحيط من حولها تأثراً وتأثيراً. ويرسم الثقافة أيضاً إنتاج شعبي ملحمي يصنعه الشعب في سياق المواجهة المستمرة مع الاحتلال، كما تصنعه أيضاً لغة الدم الصهيونية التي تحدد مسار الفلسطيني نحو المواجهة لنيل الحرية واسترداد الحقوق. والمفروض الآن أن يتحرك المثقف الفلسطيني في إطار مبادرات شخصية خلاقة وأن يبدع أسلوبه في اختراق الحصار ومواجهة الواقع المؤلم.