التساؤل الأوروبي الملح: أين تنتهي أوروبا؟ كيف ترسم حدود القارة؟ ليس سؤالاً مدرسياً وجغرافياً بحتاً. ويطرح السؤال في صدد خطوات توسيع الاتحاد الأوروبي كلها. فسبق تداوله في أثناء مناقشة المسألة الأوروبية الشرقية، وانضمام دول شرق أوروبا الخارجية من الطوق الشيوعي، ثم في صدد البلقان، واليوم في حال تركيا. وتتداخل في المناقشات والخلافات التصورات التاريخية وإلفة الجوار ودور الأقليات المهاجرة والمستوطنة بالاعتبارات الاخلاقية مثل تسديد"دَيْن"الشيوعية أو البلقنة والمطامح السياسية نشر الديموقراطية في القارة كلها، وبالمصالح الجغرافية السياسية المحلية مثل تمسك رومانيا بمولدافيا المجرية السكان، والمصالح الإقليمية رعاية جوار آمن في اطار مشترك. ولا يخفى أثر الشكوك في نوايا عدوانية مبيتة أو ظاهرة. فتنبه بلدان ترشح نفسها الى عضوية الاتحاد الأوروبي، وينظر الاتحاد الى ضمها بحذر أو تردد، مثل أوكرانياوجورجيا، تنبه الى محاذير تقسيم أوروبي جديد يطلق يد روسيا في جوارها الأوروبي أو القوقازي. ومناقشة مسائل الحدود، عموماً، تبعث مخاوف أسطورية. فرسم الحدود يتصل غالباً باستقرار جبهات كانت الى وقت بعيد أو قريب خطوط حرب. وعلى هذا تنسب الروايات، التاريخية والأسطورية معاً، رسم الحدود الى الطبيعة أو السلاطين العظام، أو الى قوى خفية جبارة، وفي أحوال"هندسية"ينسب الرسم الى الرياضيات نفسها. فيناقش البابا الكاثوليكي جواز إغفال هوية أوروبا المسيحية في مقدمة الدستور المقترح. وينكر على تركيا أوروبيتها، وهي اقتحمت في 1453 دائرة مسيحية تقليدية، وأخرجت منها مجتمعاً أو كياناً لازم صورة أوروبا الوسيطية. وأما الطبيعة فكان ل"يدها"أثر لا يخفى في حدود دول أوروبا. ف 32 في المئة من هذه يقع على أنهر وبحيرات، و 24 في المئة على ذرى جبال، و 23 في المئة رسمت رسماً هندسياً. ويستقل 21 في المئة من حدود الدول الأوروبية عن تقسيمات الجغرافيا البشرية. وتمتاز حدود الدول الأوروبية بدخول 50 في المئة منها تحت باب الاعتبار التاريخي. وعليه، فالحيز أو الفضاء الأوروبي شديد التقسيم والتناثر، وطبعه السعي في مطابقة حدود الأمم مع حدود الدول بطابعه. فلم تزد نسبة الحدود التي ترك أمر رسمها الى الحسابات الهندسية عن 5 في المئة. واضطلعت الحروب بدور راجح في الرسم على هذا النحو. فتخلفت عن هذه الحال ملازمة"الحدود"أصداء سلبية. ولا تنفك حدود الدول الأوروبية، الى اليوم، يتعاظم تقسيمها وتناثرها فالمقارنة بين أوروبا وبين الصين أو الهند أو الولاياتالمتحدة الأميركية، حيث لا يظهر نازع الى التوحيد، تقلل فرادة البناء الأوروبي وتجبها. فلا يدعو أحد الولاياتالمتحدة الى الاضطلاع بتوحيد شمال أميركا، من كندا شمالاً الى كوبا جنوباً، تحت لواء الديموقراطية والرخاء. فأوروبا وحدها من بين القارات مدعوة الى"رسالة"مثل هذه. وترتب على هذا، منذ 1989 وانهيار المعسكر السوفياتي، جمع الدول الأوروبية المتفرقة في اطار مكاني أو جغرافي واحد ومشترك. فغلبت السمة الجغرافية والمكانية السمة التاريخية والزمنية. وحل التوحيد الجغرافي محل التوحيد أو الجمع التاريخي. وحل محل تجاوز خلافات الماضي وتناحره ومخلفاته السياسية والثقافية، تجاوز التفاوت الاقتصادي والتشريعي القانوني في حيز متصل لا تزن خلافات السياسة والتاريخ والثقافة والمعتقد في كفته، ولا ترجح كفة على أخرى. فالدوائر حول الاتحاد الأوروبي هي إما"دائرة أصدقاء"رومانو برودي الايطالي، أو دائرة جوار آمن وقريب على ما يحلو للأوروبيين الحسبان، أو دائرة شركاء قرينة على تحفظ مهذب. وآخر الدوائر وأبعدها هي دائرة أطراف ينبغي نشر الاستقرار فيها، على شاكلة البلقان، ورعايتها. ويخالف منطق الدوائر المكاني المعيار الذي نصبه"آباء"الاتحاد الأوروبي، وأنشأوا الاتحاد في ضوئه، ونزولاً عليه، وهو معيار التغلب على النفس، أي على منازعات الماضي على مثال فرنسي وألماني نهض علماً على نهج أوروبي. فالمعيار الاتحادي الجاري من صنف آخر، وهو يتناول الاختيار السياسي والاجتماعي البعيد، مثل الهيئات الدستورية وائتلاف الجماعات والمجتمعات المتباينة في كنف دول لم تمهد حوادث التاريخ الى التأليف في ما بينها. ويضم الاتحاد، منذ 2004 أمماً يتفاوت تماثلها الداخلي والأهلي، ويقع بعضها على أطراف القارة. ويستثني هذا الوصف أمتين كبيرتين هما روسيا وتركيا. فالأمتان لا ترضيان الطرفية، وترى كلتاهما نفسها مركزاً أو وسطاً وحاضرة. فالمسألة التركية، على هذا، لا تختصر في الفرق الديني والمكاني والاقتصادي، بل تتقدم هذه العوامل والوجوه كلها مسألة قبول النخب التركية تقاسم السيادة الذي يشترطه الاتحاد على أعضائه فروسيا ترفض رفضاً قاطعاً هذا الشرط. ويؤدي توسيع الاتحاد الأوروبي، وما يترتب عليه من نقل خبرات ومساعدات وفتح أسواق وتسكين خلافات ومشاحنات، دوراً إصلاحياً وتحكيمياً راجحاً وفاعلاً. وهو يحفز كلتي الجهتين، الاتحاد من جهة أولى والدول التي تطلب العضوية من جهة أخرى، على تلبية الشروط المقررة. فيتوسل الاتحاد بشروط التوسيع الى الاصلاح والتحكيم في الأزمات. وتتوسل الدول بالشروط هذه الى الحصول على الأمن والسيادة تحت جناح الاتحاد. ويبدو الوعد بالدمج الأداة الوحيدة القمينة ببسط السلام في البلقان، وتمهيد خلافات دوله وعداواتها الموروثة، على ما يذهب اليه خافيير سولانا ممثل الاتحاد الأعلى لشؤون الأمن والعلاقات الخارجية. ويفضي السعي في الأمن الى منطق ترابط وتداعٍ إقليميين. فالدولة التي سبقت الى العضوية ترى أن ربط جارتها بالهيئات التي تحتكم هي اليها، وأسهمت في إقرار سننها وقوانينها، يعود عليها، وعلى جارتها، بالمنفعة والفائدة. فلولا حصول توحيد ألمانيا، في 1991، داخل الاطار الأوروبي، ومن طريقه، لتعذر اعتراف الدولة الألمانية الواحدة بحدودها المشتركة مع بولندا، على نهري الأودير والنايس من غير عواقب وذيول تذكر ضمت الحدود البولندية أراضي انتزعها"السوفيات"من ألمانيا قسراً غداة الحرب الثانية. فعلى المثال الفرنسي ? الألماني، وسابقته الحسنة، أيدت برلين دخول بولندا الاتحاد الأوروبي وأيدت بوداست المجرية بوخارست الرومانية. ولم تحل المنازعات القديمة على الأقلية المجرية في رومانيا دون المساندة. وعلى المنوال نفسه، رعت النمسا تيسير المفاوضة مع سلوفينيا، ويسّر البلدان مفاوضة كرواتيا. ولعل خير مثال على التفاعل الجغرافي السياسي الأوروبي هو تعاون جورج باباندريو اليوناني واسماعيل جيم التركي على تقريب الترشح التركي من الأذهان والمصالح الأوروبية. ويُذكر أن ست دول من عشر دخلت الاتحاد الأوروبي في 2004، وجازت عتبته، لم تتمتع بكيان دولة قبل 1991. فهي أمم صغيرة من غير دولة. ولم يشفع لها شعورها القومي المتوقد، ولا شفعت لها هويتها القومية واللغوية الفريدة، بامتلاك كيان وسيادة. وآذن انضمام دول البلطيق الثلاث الى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي معاً بتحصينها من محاولات جارها الشرقي فرض سيادة ضعيفة عليها. وتدعو أصوات أوروبية، مأذونة كثيرة، الى مساندة السيرورات الديموقراطية المتنازعة شأن أوكرانيا، وحماية الدولة من محاولات الانشقاق شأن جورجيا، وتقوية البناء الوطني شأن أرمينيا، بواسطة عضوية الاتحاد الأوروبي وضماناته وحصاناته. والحق أن المضيق من بحر البلطيق الى البحر الأسود وبحر قزوين، وشبه جزيرة البلقان بينهما، مؤلف من دول وأمم تأخرت بلورتها السياسية والكيانية المستقلة. فهي بمنزلة أطراف الاتحاد الأوروبي وضواحيه وحزامه. وكان معظمها، في أوقات متفرقة من تاريخها، تخوم أبنية امبراطورية جامعة، وأجزاء امبراطوريات مترامية. وينفرد غرب أوروبا بتبكير أبنية الدولة فيه، وبإنشاء أطر ثابتة ومستقرة رعت رسو التمثيل القومي والوطني على دلالات ومعانٍ سياسية، وأدت الى نضوج مفهوم المواطنة أو المواطنية وركيزته. وفي الحيز بين ألمانياوروسيا وايطاليا وتركيا، بقيت المجتمعات بمنأى من ثورة التنوير الفكرية والثقافية، وأتى ضعف كيان الدولة واضطرابه، في الحيز نفسه، ثبات التصورات القومية الإثنية والثقافية للانتساب الوطني السياسي. وُحمل هذا على العبارات اللغوية والدينية، وهي كثيرة ومتنازعة في الدائرة الجغرافية والتاريخية هذه. ولعل مشكلات كوسوفو والبوسنة ومقدونيا وصربيا، الى تلك المتخلفة عن الدول"القطبية"، من إرث هذا التاريخ. عن ميشال فوشيه جغرافي، مستشار سابق في وزارة العلاقات الخارجية الفرنسية، وسفير سابق في ليتوانيا، "إسبري" الفرنسية ، 11 / 2006