اجتازت الآلة العسكرية الأميركية - البريطانية الحدود السياسية للعراق، فأطاحت نظامه السياسي، وأفرغت علاقات التوازن الاقليمي القائمة في منطقة الشرق الاوسط - حتى ساعة قيام الحرب - من محتوياتها، وفككت بنيتها، المتكونة منذ العام 1916 بموجب اتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة، ولكنها لم تعد تركيبها بعد. ادخلت الحرب على العراق، والتي انتهت باحتلاله، المنطقة مرحلة جديدة ومختلفة، فتغيرت الخريطة الجغرافية - السياسية للشرق الاوسط كلياً، ما ينعكس بالضرورة على منظومة الامن الاقليمي، باعتبار ان مثل هذه المنظومة، المتخيلة نظرياً، مبنية اصلاً على علاقات التوازن في المنطقة، فأثرت الحرب في المحصلة في اولويات صناع القرار في دول المنطقة المختلفة. لكن انعكاسات الحرب على تركيا، باعتبارها احدى القوى الرئيسة في الشرق الاوسط، تختلف جوهرياً عن الانعكاسات المتوقعة لدول اخرى في المنطقة، نظراً الى العلاقات التاريخية التي ربطتها بالعراق، وخصوصية الموقف الجغرافي لتركيا والتداخل الإثني والحدودي الذي يربط شعوب البلدين، وليس آخراً بسبب الروابط الاقتصادية المتنامية بينهما، وإن كان لتركيا شأنها شأن بقية القوى الاقليمية مصالح دائمة في العراق، ومخاوف مفهومة بعد احتلاله. دار لغط كثير في الاوساط الاكاديمية والاعلامية وحتى الشعبية في المنطقة حول الموقف التركي من الحرب، سواء تأييداً باعتبار ان مواقفها الاعلامية ضد الحرب كانت اقوى من مواقف الكثير من الدول العربية، او تنديداً لأنها تواطأت ضد العراق. وتركيا من الدول القلائل الاكثر استقراراً في الشرق الاوسط لجهة عملية صنع القرار فيها وتأسيس آلياته على قواعد معلومة، وعلى اساس القواعد العلمية الاستراتيجية. وعلى رغم ذلك جاءت نتائج احتلال العراق، في محصلتها سلبية على تركيا سواء لجهة القدرة على استغلال الموقع الجغرافي - السياسي، او من حيث اعتباراتها الخاصة بالأوزان الاستراتيجية في المنطقة. وتحاول هذه الدراسة المنشورة في نشرة "شرق نامه" الفصلية، قراءة الحسابات الاستراتيجية التركية قبل الحرب، والاداء التركي الاستراتيجي خلالها، عبر تفكيك مكوناته الاساسية وتحليلها واعادتها الى السياق الاساسي، وصولاً الى تقدير الوضع الاستراتيجي الجديد لتركيا بعد احتلال العراق، مع الاشارة الى آفاق دور تركيا المقبل في المنطقة وعوامل الضعف والقوة فيه بعد احتلال العراق. فرضت احداث 11 ايلول سبتمبر وما افضت اليه من تغيير في اولويات السياسة الخارجية الاميركية في العالم عموماً، وفي المنطقة الجغرافية المحيطة بتركيا اي في الشرق الاوسط خصوصاً، وكذلك في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، مناخاً دولياً جديداً لا يأبه كثيراً لاعتبارات القانون الدولي وأحكامه او المعايير الكلاسيكية او الليبرالية في ادارة العلاقات الدولية. وإنما يتميز بثقل وطأة قطبيته الاحادية وعدم قدرة التكتلات السياسية الدولية مثل الأممالمتحدة، او الاقليمية مثل الاتحاد الاوروبي على كبح جماح العسكرة المتزايدة في ادارة العلاقات الدولية من طرف الولاياتالمتحدة. وحلل خبراء استراتيجيون مرتكزات التوجه الاميركي نحو العالم الخارجي في السنوات الخمس المقبلة على انه يرتكز الى ثلاثة اعمدة هي: التحديث العسكري والحرب على الارهاب والسياسة النفطية مع دمج العمودين الثاني والثالث كوحدة لا تنفصم. ولما كانت الحرب على العراق تندرج في سياق هذه الاستراتيجية الجديدة والمتمثلة في السيطرة الكاملة على سوق النفط الدولية، ينبغي التأكيد ان اقتصاد النفط سياسي بامتياز، خصوصاً ان العوائد المتحققة من سوق النفط هي في جانبها الاكبر عوائد ريعية، كما ان السعر يتحدد وفقاً لكميات الانتاج، ووفقاً للتفاهمات بين بلاد الانتاج والولاياتالمتحدة. وبالتالي قررت الولاياتالمتحدة اعادة تشكيل تفاهماتها مع النخب الحاكمة في بلاد انتاج النفط، واحتلال منابعه عسكرياً وفقاً لاستراتيجيتها الجديدة نحو العالم. وتأسيساً على ذلك لن تكون الحرب على العراق الاخيرة في المنطقة، وإنما احدى المحطات المهمة من اجل الوصول الى هذا الهدف الكبير. إذاً، كان التصور الرئيسي الحاكم للحرب اميركياً هو استغلال التفوق العسكري الساحق وصولاً الى تحقيق مصالح استراتيجية وإعادة تشكيل المنطقة، بما يستتبعه ذلك بالضرورة من اعادة توزيع للأدوار الاقليمية. وفي ضوء هذه الاعتبارات اكتسب قرار المشاركة في الحرب وحجم هذه المشاركة من المنظور التركي اهمية مضاعفة، لاعتبارات استراتيجية تتعلق بالطموح التركي للحصول على ادوار جديدة وتوكيلات سياسية في معية الوجود العسكري الاميركي في المنطقة، استثماراً للمميزات النسبية للموقف الجغرافي - السياسي. وكان معلوماً ان الإحجام عن المشاركة يؤدي الى تهديد فرص الصعود الاقليمي لتركيا في منطقة الشرق الاوسط، وهز اسس التحالف التركي - الاميركي. كما ان الاهداف المحتملة المقبلة للاستراتيجية الاميركية، مثل ايران ومنطقة آسيا الوسطى، وقضية نقل الطاقة من منطقة بحر قزوين، تتناول كلها مناطق الجوار الجغرافي لتركيا. وتأسيساً على ذلك، كان الموقف التركي من الحرب على العراق، على ما لانعكاساتها من اهمية لصانع القرار التركي، هو ان الحرب في احد وجوهها بداية لمرحلة جديدة من التعاون بين البلدين في الفترة المقبلة. واستناداً الى هذه الخلفية يمكن ان ننطلق من فرضية اساسية وهي ان تركيا لم تكن في وارد صوغ تحالفات دولية وإقليمية جديدة لمواجهة الحرب على العراق، بل في وارد استثمار امكاناتها الجغرافية والسياسية والبشرية والعسكرية، لضمان الحصول على افضل النتائج من الحرب، اوتحجيم الخسائر المتوقعة منها. الوضع الاوروبي وتولي أنقرة اهمية كبيرة لأوروبا التي تراها انقرة امتدادها الجغرافي والاقتصادي والحضاري، اذ كان الالتحاق بأوروبا حلماً راود الساسة الأتراك منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. ولأجل الوصول لهذا الهدف قطعت تركيا اشواطاً بعيدة حتى تفي بشروط الالتحاق بالاتحاد. الا ان الاخير رفض ان يفتح آفاقاً للسياسة التركية، حين حدد العام 2005 موعداً للبدء في مفاوضات الانضمام غير الملزمة. ويتأسس الرفض الاوروبي على مجموعة من العوامل المعلنة مثل عدم تطبيق انقرة معايير الحريات السياسية الاوروبية في ما يتعلق بالأقليات، والمعايير الاقتصادية الخاصة بالموازنة، وغيرها من الشروط. اما الشروط غير المعلنة والتي تلعب دوراً اكبر في النفور الاوروبي من هذا الانضمام فهي التباين الثقافي بين الاتراك والاوروبيين، والبعد الديموغرافي لتركيا ذات السبعين مليون مواطن، ما يجعل دخولها الاتحاد كابوساً لكثير من الدول الاوروبية الصغيرة، بسبب الاختلال السكاني المترتب على هذا الدخول. وعلى رغم عوامل النفور تعي اوروبا جيداً الفوائد والمزايا الاستراتيجية التي تمثلها انقرة لأوروبا، اذ ان انضمام أنقرة يسمح بتوحيد القارة الاوروبية بكامليتها الجغرافية، كما ان تركيا هي مفتاح الطريق من غرب اوروبا ووسطها الى روسيا في الشرق، اذ كان التوجه نحو الشرق وما زال قدر اوروبا لوجود المياه في غربها. ولتركيا من المنظور الاوروبي فوائد استراتيجية اضافية، اذ بانضمامها يكون الساحل الشمالي للبحر المتوسط منضوياً بكامله تحت لواء الاتحاد، كما يسمح للقارة بأن تمد حدودها حتى الشرق الاوسط، على ان تكون تركيا في الوقت نفسه منطقة عازلة بين اوروبا والشرق الاوسط. وعلى رغم كل هذه المزايا الاستراتيجية لم تفلح تركيا في إقناع الدول الاوروبية بقبولها عضواً في الاتحاد، لسبب جوهري هو ان بوصلة التحالفات الدولية لأنقره تتجه على الدوام نحو الأطلسي، حيث الولاياتالمتحدة. وبالتالي تقع المميزات التركية الاستراتيجية في دائرة النفوذ الاميركي وليس الاوروبي. وبدا لصانع القرار التركي، الذي حسم خياراته الاستراتيجية لمصلحة واشنطن اولاً وأوروبا ثانياً، ان من الاوفق لمصالحه الاستمرار في خياراته الاميركية مع اضافة شرط على واشنطن، هو ضرورة استحصال قرار من مجلس الامن يجيز الحرب، قبل ان تشارك تركيا فيها. الوضع الداخلي حكم الوضع السياسي الداخلي في تركيا في فترة التحضير للحرب عامل اساس هو التصادم القائم بين المؤسسة العسكرية وحكومة حزب العدالة والتنمية. وكان واضحاً قبيل الحرب ان المؤسسة العسكرية التي احتكرت لنفسها تفسير الاحلام القومية وتحقيق المصالح العليا للدولة، لا تستطيع في ظل الظروف الدولية والاقليمية الانقلاب على الانتخابات الاخيرة ونتائجها كما فعلت في الماضي. واذا كان خبراء الاستراتيجية والنظم السياسية حددوا اهداف الدولة، اي دولة، في ثلاثة عناصر رئيسة هي: البقاء، السيادة، والتنمية الاقتصادية، فإن النموذج التركي يرى في العلمانية صنواً لبقاء الدولة التركية في مواجهة التنافرات الطائفية الداخلية، وأساساً لقدرة تركيا على الوصول للحرية والسيادة على اراضيها. وبهذا المعنى تصبح المؤسسة العسكرية قيماً ووصياً على الاهداف العليا للدولة التركية، وحكماً بين الاحزاب التركية المختلفة وبعضها بعضاً، وقابضة على خيوط اللعبة السياسية. طالب العسكر، على لسان الفريق اول حلمي اوزكوك رئيس اركان الجيش التركي، الحكومة والبرلمان بسرعة الموافقة على استخدام الاراضي التركية في الحرب ضد العراق، لأن وضع تركيا بعد الحرب في حال المشاركة سيكون افضل. اما حكومة حزب العدالة والتنمية، فلم تطرح تعريفاً جديداً او تغييراً في المصالح الوطنية التركية، اذ ان هذه الاخيرة بحسب قواعد اللعبة تقع في دائرة اختصاص المؤسسة العسكرية. رفض البرلمان التركي، بغالبيته المؤيدة للحكومة، ومدفوعاً بالرأي العام، طلب الحكومة الاول بفتح الاراضي والاجواء امام القوات الاميركية، اعتقاداً بأن ذلك سيدفع واشنطن الى تلبية الشروط التي اتفق عليها العسكر مع الحكومة. وبسبب رغبة الحكومة في تولي اردوغان رئاستها، وهو الممنوع بقرار محكمة من ذلك، اجلت الحكومة تقديم الطلب الثاني الى البرلمان بعد الانتخابات الفرعية في منتصف آذار مارس، حتى يدخل من بابها رئاسة الوزارة، وهو ما حدث في 15 آذار، لكن واشنطن كانت حسمت امرها وقررت التوجه الى الجبهة الجنوبية. الوضع الاقتصادي كان العامل الاقتصادي وارداً بطبيعة الحال في حساب العائدات التركية والاحتمالات المتوقعة من الحرب، التي تؤثر في قطاعات اقتصادية عدة، اذ يعتبر خبراء الاقتصاد التركي ان احدى المشكلات الاساسية التي تواجهها بلادهم هي العجز المتفاقم في الميزان التجاري الذي وصل عام 2002 الى 75،15 بليون دولار. وإضافة الى ذلك تقدر خسائر التجارة الخارجية التركية مع العراق بحوالى ثلاثة بلايين سنوياً، كما ان العراق كان ولا يزال المرشح اكثر من غيره في المنطقة لتلقي المزيد من الصادرات التركية، بسبب حجم سوقه الكبيرة نسبياً مقارنة بدول آسيا الوسطى مثلاً، وموارده من النفط التي تؤهله ليكون هدفاً لزيادة الصادرات التركية. وكان متوقعاً ان تثير العمليات العسكرية في العراق قلق السياح والمصطافين الاوروبيين، فيحجموا عن زيارة المنطقة تخوفاً من الحرب وتداعياتها، اذ ان تركيا هي احدى مناطق الجذب السياحي في المنطقة، ويشكل قطاع السياحة رافداً مهماً من روافد دخلها القومي. وقدر مسؤولون أتراك حجم الخسائر المتوقعة من الحرب في قطاع السياحة بما بين ستة وسبعة بلايين دولار. كما ان الاعتبار الاكيد كان انه لو شاركت تركيا في الحرب وسمح لها بالتمركز في كركوك والموصل لكان في هذه المنطقة الغنية بالنفط تعويضاً عن الخسائر بسبب فقدان عوائد خط كركوك - يومورتاليك لنقل النفط العراقي. اما الاعتبار الاقتصادي الاضافي فكان متلخصاً في حقيقة ان الديون التركية لا يمكن كبح جماحها من دون قروض جديدة من صندوق النقد والبنك الدوليين. لكن مثل هذه القروض لا تتم الموافقة عليها من دون ضوء اخضر اميركي. اي ان هذه المساعدات تتطلب من تركيا موقفاً سياسياً يضمن تأييد الولاياتالمتحدة. وبمعنى آخر كانت النخبة التركية تعلم ان توجهات سياستها الخارجية وديناميكية اقتصادها ومستقبل نموه تعتمد في الاساس على واشنطن في شكل كبير خصوصاً بسبب ازماتها الهيكلية الاقتصادية. ومعطوفاً على الاعتبارات السابقة امكن التكهن ببند اضافي هو زيادة الإنفاق العسكري في حال اندلعت المعارك، التي تستتبع بالضرورة انتشارات عسكرية تركية وتموضعاً جديداً للقوات على طول الحدود التركية - العراقية. وليس آخراً امكن حساب الزيادة الطارئة المتوقعة في سعر النفط، بسبب تعطل محتمل لخطوط انابيب نقله. وتأسيساً على كل هذه العوامل قدر رجال الاقتصاد الاتراك خسائرهم المتوقعة من الحرب بحوالى 15 بليون دولار. الموقع الجيو - سياسي للموقع الجغرافي التركي تأثير طاغ في الدوائر الاستراتيجية العليا وفي صناع القرار، اذ لتركيا موقع يمكن وصفه في العلوم الاستراتيجية بأنه Eckmacht، اي قوة اقليمية ذات موقع استراتيجي معتبر. وتتحكم جغرافية تركيا العبقرية في الممرات البحرية في البوسفور والدردنيل، اي الموصلة بين آسيا وأوروبا، اضافة الى اطلالتها الممتازة على البحر الاسود والامتداد الواسع لشواطئها الجنوبية على البحر المتوسط. ويمكن رؤية الخريطة التركية كشريحة افقية، وضعتها الجغرافيا باقتدار، بين القارات الثلاث اوروبا وآسيا وعلى مشارف افريقيا، اذ لا يفصلها عنها سوى البحر المتوسط. وموقع تركيا الجغرافي متعدد المواهب، فهي تطل باقتدار على منطقة البلقان، كما يضع موقعها منطقة بحر قزوين بامتياز تحت السيطرة الجغرافية، ويحبس روسيا عند حدود البحر الاسود، بعد ان تمنع عنها مياه البحر الابيض المتوسط الدافئة. والموقع الجغرافي التركي اضافة الى كل ذلك يمثل الشريحة الشمالية للشرق الاوسط، ويتماس مع الحدود الشمالية لكل من سورية والعراق والشمالية الغربية لايران، في تمازج استثنائي بين المياه واليابسة. ولكل ذلك لعب الموقع الجغرافي الدور الاكبر في دخول تركيا حلف "ناتو"، فشكلت جبهته الجنوبية الشرقية، واستطاع الحلف من طريق موقعها الجغرافي الضغط على الاتحاد السوفياتي السابق - ومن بعده روسيا - وموازنة نفوذه في القوقاز. واضافة الى العوامل الجغرافية خص التاريخ تركيا بروابط مع دول جوارها في البلقان والشرق الاوسط والقوقاز، ما يضفي اهمية مضاعفة على مميزاتها الجيو - استراتيجية التي تستطيع التأثير في جيو - سياسية الدول المجاورة. كما ان النموذج المجتمعي الذي تتبناه يشكل عاملاً اضافياً لأهميتها السياسية، اذ يشكل نموذجاً المذكور عامل جذب للدول المستقلة حديثاً عن الاتحاد السوفياتي السابق ودول الشرق الاوسط، ويجعل من تركيا نقطة متقدمة لتصدير القيم الغربية الى المنطقة، وبديلاً علمانياً للتطرف خصوصاً بعد احداث 11 ايلول. وبعد اكتشاف القدرات الكامنة لبحر قزوين وثرواته الهائلة من النفط والغاز، كانت تركيا جسر الطاقة الانسب بين بحر قزوين الغني بالنفط والعالم الغربي، نظراً الى القيم السياسية والمجتمعية التي تمثلها في المنطقة، ما اضفى على كل عوامل قوتها الجغرافية والسياسية والحضارية اهمية مضاعفة. العامل الكردي تلخصت سياسة تركيا تجاه الاكراد في العراق قبل الحرب في تعيين خطوط حمر لا يمكن السكوت عن تجاوزها، ورتبتها في اولوياتها الاستراتيجية كالآتي: أولاً منع قيام دولة كردية على اي جزء من الاراضي التي يعتبرها الاكراد كردستان التاريخية، تلك التي تشمل شمال العراق وغرب ايران وجنوب شرقي تركيا، واعتبار ذلك خطاً احمر لا يمكن قبوله تحت اي ظرف. وثانياً الحيلولة دون انشاء فيديرالية في العراق بين العرب والاكراد، وأيضاً منع قيام منطقة حكم ذاتي للاكراد هناك كخطوة ثالثة، وان امكن ايضاً منع الاكراد من دخول كركوك. وبالتوازي مع هذه الخطوط الحمر التركية عملت انقرة على ترقية التركمان سياسياً وتنظيمياً ليشاركوا في حكم العراق، كما ربطت وتربط علاقاتها مع الدول الاخرى على اساس الموضوع الكردي. من هنا يمكن تصور ان العامل الكردي كان حاضراً بقوة في الحسابات الاستراتيجية لأنقره قبل الحرب على العراق. الخيارات والأثمان يمكن تقدير ان الخيارات التركية المطروحة امام صانع القرار قبيل الحرب كانت خمسة: 1- تكوين جبهة معارضة للحرب. 2- الامتناع عن المشاركة وعدم التعاون. 3- المشاركة بالحد الأدنى. 4- المشاركة في شكل كامل وبشروط تحقق المصالح التركية العليا. 5- المشاركة من دون شروط. يعني الاحتمال الاول ان صانع القرار التركي في صدد تغيير تحالفاته الدولية جذرياً، وهو ما يتطلب عمليات سياسية واقتصادية معقدة وطويلة الاجل نسبياً، ويتطلب الانضمام الى تحالف او اصطفاف جديد، يحقق لتركيا المزايا المتحققة لها بتحالفها الحالي مع واشنطن، وذلك امر بعيد الاحتمال بسبب النظام الدولي السائد. أما في ما يتعلق بالخيار الثاني، فكانت الاتصالات الاميركية مع تركيا بهدف التنسيق لفتح الاراضي والاجواء التركية مؤشراً على الاصرار الاميركي على شن الحرب، وبالتالي فاحتمال المناورة السياسية لم يكن مطروحاً لدى الساسة الاتراك كاحتمال للتحركات الاميركية. من هنا توجب على صانع القرار التركي حساب العوائد المتحققة من عدم المشاركة. وهي التي تساوي الصفر بل وتسحب من رصيد تركيا الاستراتيجي. وبعد قرار البرلمان التركي الاول برفض المشاركة في الحرب وفتح الاجواء والاراضي، تبنت تركيا خيار المشاركة بالحد الادنى فسمح برلمانها باستخدام الاجواء والقواعد التركية، متوخية في ذلك اعتباراً مهماً، وهو الاحتفاظ بمقومات الدور الذي أرادت ان تحتفظ به، وهو دور وكيل القوة العظمى في المنطقة. ويتوازى هذا الاعتبار مع هدف آخر هو الحيلولة قدر المستطاع دون استفادة واشنطن من الميزة الجغرافية التركية في شكل يلغي قدرة صانع القرار التركي على استثمار الامكانات الجيو - سياسية لبلاده. كما يحفظ هذا الاحتمال لأنقره الحد الادنى من الروابط مع الولاياتالمتحدة. وربما انطلقت التقديرات التركية من فرضية ان فترة المعارك ستطول حتى دخول القوات الاميركية بغداد، وبالتالي يمنح هذا الاحتمال لصانع القرار التركي فرصة البقاء في الملعب الاستراتيجي، في حال تغيرت الاولويات الاميركية، ومن ثم المفاوضة من جديد على الخطوات المقبلة. ويمكن اضافة مزية اخرى لهذا الاحتمال من المنظور التركي وهي عدم الابتعاد كثيراً عن المواقف الاوروبية، وبالتالي ترك الباب موارباً امام انضمام تركي ناجز للاتحاد الاوروبي في وقت قريب. كما لعبت العوامل الداخلية التركية دوراً في ترجيح كفة هذا الاحتمال، لأنه كان بمثابة نقطة التوازن التي اتفقت عندها رغبات حكومة حزب العدالة والتنمية مع مثيلاتها لدى المؤسسة العسكرية. لكن قيادة حزب العدالة والتنمية تأخرت في اتخاذ قرار بالموافقة على السماح للقوات الاميركية على الاراضي التركية لاعتبارات داخلية ايضاً، حيث كان الرأي العام التركي يقف في معظمه ضد الحرب. وتمحور الموقف التركي حتى نهاية شباط فبراير 2003 حول الخيار الرابع، اي المشاركة في شكل كامل وفتح القواعد الارضية والجوية امام القوات الاميركية، وبمشاركة القوات التركية في شكل غير مباشر في الحرب مقابل حزمة من الطلبات تلبي رغبات صانع القرار التركي. وكانت الطلبات او الثمن المطلوب مقدماً كالآتي: المطالبة بتمركز القوات التركية بين خطي العرض 36 و37، وألا يقل تعداد أفراد الجيش التركي في العراق عن 70 ألف مقاتل، وأن يكون انتشار القوات التركية خلف القوات الاميركية، والحصول على ضمانات باستبعاد الاكراد من حكم شمال العراق، والمشاركة في تقرير مصير العراق، والحصول على 15 بليون دولار في صورة مساعدات تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية. وبتقليب النظر في معاني او دلالات المطالب التركية السياسية والعسكرية والاقتصادية، توخى صانع القرار التركي ان يضع الموصل الغنية بالنفط تحت السيطرة العسكرية التركية، والحصول بالتالي على جزء كبير من ثرواتها النفطية بعد انتهاء الأعمال العسكرية، فضلاً عن ضمان موقف تركي متقدم في السباق الإقليمي في المنطقة. ويلاحظ ايضاً ان التمركز عند خط العرض 36 يكون بعيداً عن مدينة تكريت العراقية، وهي المدينة المهمة جداً عشائرياً وطائفياً للنظام العراقي السابق والتي كان متوقعاً ان تقاوم بضراوة، والابتعاد بالتالي عن الاصطدام بها وببغداد الواقعة الى الجنوب من تكريت. ولم يكن متصوراً لصانع القرار التركي ان يكون له دور عسكري في بغداد، إذ ان تعريف المصالح الوطنية والامتداد الإقليمي التركيين لا يتجاوز شمال العراق في المدى المنظور. كما يمكن ملاحظة ان الانتشار خلف القوات الأميركية يعفي العسكر الأتراك من خسائر معداتية وبشرية. اما شرط الحصول على ضمانات باستبعاد الأكراد من السيطرة على شمال العراق فيراعي الهواجس الأمنية التركية من طفور لدور الأكراد في العراق عموماً وشماله. اما مطلب المشاركة في تقرير مصير العراق فيحقق لتركيا نفوذاً إقليمياً عالياً عز عليها طوال تاريخ الجمهورية ولم تستطع تحقيقه منذ اتفاقية سايكس - بيكو. كما توخى صانع القرار التركي تحديد مبلغ 15 مليار دولار كتعويض عن الخسائر الاقتصادية المحتملة ان يكون التعويض في حدوده القصوى. وهكذا يتضح ان المطالب التركية كانت في سقفها الأعلى، ولو تحققت لكانت ستذهب في تاريخ الجمهورية التركية كأكبر مكاسب استراتيجية منذ تأسيس الجمهورية. أما المشاركة في شكل كامل ومن دون شروط فلم تكن احتمالاً واقعياً، لأن صانع القرار التركي، ومهما كانت توجهاته، يعي الثقل الإقليمي لتركيا، مما لا يمكنه بالتالي من ان يعطي خدمات من دون مقابل. النتائج والمستقبل كان الارتباط الموضوعي بين المصالح التركية ومثيلاتها الأميركية اكبر من ان تستطيع حكومة العدالة والتنمية تجاهله او إنكاره، وبالتالي كانت مسألة التعاون مع واشنطن تكاد تكون محسومة سلفاً، ولكن التفاوض كان حول الثمن المطلوب تركياً. حزب العدالة والتنمية كان متناغماً الى حد كبير مع المصالح التركية العليا المتلخصة في ضرورة الخروج من الحرب بأفضل النتائج، او اقل الخسائر. وعلى ضوء تحليل العوامل السابقة يتضح ان الخيارات التركية تمركزت موضوعياً على الاحتمالين الثالث والرابع فقط، أي احتمال المشاركة في الحد الأدنى او المشاركة بشروط تلبي المصالح الوطنية التركية. لكن تركيا طلبت ثمناً كبيراً لتعاونها، وأكبر ربما مما ينعكس في موازين القوى، وماطلت، في وقت كان النسر الأميركي يتحين الفرص للانقضاض على طريدته. وإذا كان التوقيت، كما هو نظرياً، عاملاً حاسماً في اتخاذ القرارات - اية قرارات - فهو طاغ في تأثيراته على سير الأمور في المعارك. ولما طالت المساومة وبدت اكثر من الاحتمال الأميركي، تم نقل مسرح العمليات الرئيس الى الجنوب، وخسرت تركيا الصفقة. وعند خسارة هذا الاحتمال نزلت انقرة درجة اخرى واعتمدت خيار التعاون في الحد الأدنى وقد طارت من يديها ورقة المساومة الاستراتيجية على مكانتها الجيو - سياسية. وتميز الأداء السياسي التركي ايضاً بسيادة تقديرات مغالية للمكانة الجغرافية التركية، مفادها الاعتقاد بأن واشنطن لن تدخل الحرب من دون تركيا، فثبت ان السياسة التركية ما زالت رهينة تصوراتها المفرطة في التفاؤل عن حجمها الإقليمي والدولي. فأنقرة وإن تخطت مرحلة مهمة في طريقها للصعود الإقليمي بالانضمام الى حلف الناتو وبتعاونها العسكري مع اسرائيل، إلا ان الأدوار الإقليمية لا يمكنها تخطي الغطاء الدولي الذي يحدد سقف هذه الطموحات ويعين هامش المناورة الى حد كبير. وأثبتت الأحداث خطأ الرهان بأن واشنطن لن تدخل الحرب من دون أنقرة. وإذا كان من الممكن القول ان القيمة الاستراتيجية لتركيا لن تتراجع بسبب ذلك، او ان العلاقات مع الولاياتالمتحدة المبنية منذ عقود على الأساس العسكري لن تتأثر، فإن ذلك يعني على الأرجح ان واشنطن، وهي القوة العظمى الوحيدة تقيس حساباتها وفق المعايير التركية الإقليمية، وهو ما لا يستقيم منطقياً. ادت الحرب على العراق واحتلاله نتيجة لذلك الى تغير الوضع الستاتيكي في المنطقة، والذي كانت تركيا قاست عليه مقاساتها وأوزانها ونسجت عليه خيوط سياستها الإقليمية. وبعد احتلال العراق نشأ موقف ديناميكي جديد، لا تستطيع تركيا التحكم بإيقاعه، خصوصاً بعد موقفها البين في الحرب واهتزاز ثقة البنتاغون، الحليف الأساس للمؤسسة العسكرية التركية، في صلاحية تركيا كشريك اقليمي. ويمكن القول باطمئنان اذاً ان هناك شيئاً ما تغير في وزن تركيا الاستراتيجي قياساً الى مرحلة ما قبل الحرب ومقارنة بالنظام الإقليمي الذي قام في المنطقة وقتذاك. اما عن الدلالات الاستراتيجية للموقع الجغرافي التركي بعد الحرب على العراق، فيكفي ان يتم استدعاء كلمة انجيرليك - وهي القاعدة العسكرية التركية الأشهر، والرمز الاستراتيجي التركي الممتاز منذ عشرات السنين - الى الأذهان، لنكتشف ان واشنطن لم تدرجها في اولويات المعارك العسكرية اثناء سعيها للحرب، مقارنة بحرب تحرير الكويت مثلاً، وهو ما يؤكد ان هذا التغير الحادث في مكانة الرموز الاستراتيجية التركية، انما هو سلبي ومتراجع. وأثبتت الحرب على العراق، من منظور العلاقات الأميركية - التركية، ان واشنطن دشنت سابقة تاريخية حتى الآن في تاريخ العلاقات بين البلدين، عندما دخلت الحرب الواقعة على حدود حليفتها الإقليمية، من دون هذا الحليف. وتعد هذه السابقة مؤشراً خطراً على تطور الدور التركي المقبل في المنطقة عموماً، وفي منطقة بحر قزوين خصوصاً وتأثير ذلك في إمكان ان تصبح تركيا معبراً لطاقة بحر قزوين، الذي يؤهلها اكثر في طريق الصعود الإقليمي. وعلى رغم التدهور النسبي في القيمة الاستراتيجية التركية في منطقة الشرق الأوسط، إلا ان هذه القيمة ما زالت مستمرة في البلقان والقوقاز والبحر الأسود والمضائق البحرية. لكن عدم التمكن من استخدام هذه القيمة او تسييلها، كما حدث في العراق، يخلق نتائج خطرة، فالقيمة الاستراتيجية يجب ان تكون متغيرة بصورة دائمة. لم تحقق تركيا مكاسب اقليمية من الحرب على العراق واحتلاله، ويكفي للتدليل على وطأة هذه النتيجة، ملاحظة ان أنقرة لم تنجح في الحصول على فوائد استراتيجية على رغم تراجع النفوذ الإيراني، واختفاء النظام السياسي العراقي، لأنها فقدت قدرتها على المبادأة في العراق. كما ان الحال قبل الحرب كان مريحاً نسبياً لأنقره من حيث الموضوع الكردي، على رغم الوجود الموضوعي de facto لمنطقة الحكم الذاتي اثناء حكم نظام صدام حسين. وما يبعث على قلق تركيا بعد احتلال العراق هو احتمال قيام دولة كردية، او شبه دولة، والارتداد سلباً بالتالي على الأناضول، بسبب تعاظم دور الأكراد في العراق بعد احتلاله والإطاحة بنظامه السابق. ويزيد في الطنبور نغمة ان الأكراد دخلوا كركوك بعد الحرب، وعينوا محافظاً كردياً هناك وقلبوا بالتالي سلّم الأولويات التركي تجاه الموصل والأكراد. ولو أضفنا حادثة خطف ثلة من العسكريين الأتراك هناك من القوات الأميركية وإطلاقهم بعد فترة الى هذا السياق، لوجدنا اصراراً اميركياً على منع انقرة من الحصول على فوائد لم تدفع ثمنها سابقاً. ويكفي للتدليل على خسائر تركيا الاستراتيجية المقارنة بين وجود قواتها الحالي في شمال العراق، والذي يعتبر وجوداً رمزياً من الناحية العسكرية، بقدرتها السابقة غير المحدودة على دخول شمال العراق عندما ترى ان ذلك موات لأهدافها، وهو ما فعلته كثيراً طوال التسعينات. كانت كركوك خارج منطقة الحكم الذاتي الكردي المقامة منذ عام 1991، والآن هي تحت سيطرة عسكرية كردية كاملة وبمحافظ كردي، في شكل لا يخفى من اشكال السيادة. اثناء المفاوضات الأميركية - التركية كان المطروح هو شروط وأثمان، وكان التفكير يدور حول المشاركة في تقرير مستقبل العراق، والآن ينشغل صانع القرار التركي بأسئلة مثل: كيف يمكن ضمان عدم قيام دولة كردية في شمال العراق؟ وكيف يمكن منع الأكراد مستقبلاً من السيطرة على نفط كركوك والموصل؟ ولأن جار تركيا الجديد هو الولاياتالمتحدة، فقد ترتب على ذلك بالضرورة فقدان تركيا لدور الوكيل للمرة الأولى منذ عصر الحرب الباردة، فضلاً عن قدرة التهديد بالمبادأة وهي من المحددات الأساسية للأوزان الاستراتيجية والإقليمية. ويمكن اضافة عوامل خسارة اخرى مثل الانتعاش المحتمل في دور الأكراد العراقيين وتهديده المباشر للأمن القومي التركي. وحتى اذا لم تكن للدولة الكردية قيامة بسبب الظروف الإقليمية والداخلية الكردية، فإن وجود الأكراد عسكرياً في شمال العراق، بهذه الكيفية وعلى هذه المساحة من الأرض يشكل تهديداً للأمن القومي التركي، ناهيك في حال سيطرة الأكراد على نفط كركوك والموصل. وأقصى ما تناور عليه السياسة التركية الحالية هو منع الأكراد من الحصول على نفط كركوك، لأن ذلك ليس ضرورياً لتحجيم تطلعاتهم القومية فقط، بل ايضاً لربطهم اقتصادياً بتركيا، وبالتالي منع اختلال التوازن داخل العراق كجزء من فضاء تركيا الاستراتيجي. * كاتب مصري. والنص جزء من دراسة تنشر قريباً في فصلية "شرق نامه" التي تعنى بشؤون ايرانوتركيا وآسيا الوسطى.