"ماما، لماذا تحوّل عمو جبران إلى شجرة؟". يسأل الولد الصغير ممسكاً بيد أمه أمام الأشجار المتلألئة أضواءً في وسط بيروت وقد أسدل الليل ستاره فهجع تحت ظلاله الأحياء"الأموات"من موالين ومعارضين. ينظر بعينين متّقدتين إلى عشرات الأشجار الصغيرة التي حملت أسماءً سمعها من أفواه الكبار. يقرأ لها الأسماء ببطء متباهياً بقدرته على هجاء الحروف:"ررفيق الحررريري، بباسل ففليحان، سسمير قصصير، ججوورج حاوي، جببران تتوييني، بيار الججميل". إنّه في الخامسة. لا يفقه من الحياة إلا ما يراه على التلفزيون أو يتلقّفه من أحاديث والديه همساً أو صبحيات الجيران الزائرين عند انبلاج ساعات الفجر الأولى. البهجة لا تعرف إليها سبيلاً هذه السنة. لماذا لا تناديها فرحة الأعياد التي طالما انتشلتها من رتابة حياتها اليومية؟ شيء ما في داخلها يتلاشى، كأنّ قلبها توقّف عن الخفقان مع أوّل دويّ انفجار في ذلك اليوم التعيس من 14 شباط فبراير المنذِر بغضبٍ وشيك. لم تزينْ بيتها، شعرت بعجزها عن لملمة أشلائها المتناثرة في شجرةٍ لن تعكس ألواناً حيّة. جارها"أبو وليد"لم يزيّن شرفته كعادته كلّ سنةٍ أيضاً:"كيف تنبض جدراني بالحياة وقد نطق الموت بحكمه؟". شرح لها أمس وهو يرتشف فنجان قهوته المرّة بهدوءٍ لم ينلْ منه إلا في هذه الأيام العصيبة. ليست وحدها من يستبدّ بها ألم يعتصرها حتى الفناء. شوارع بيروت وأزقتها النابضة بمباهج الحياة استُبدِلت بلافتات وجوهٍ حصدها حلم"الوطن". تجول بنظرها في أرجاء"الوسط"فيمرّ أمام عينيها شريط الأحداث العاصف: أشلاء متفحمة... أعلام ممدودة... حناجر صادحة... حشود مستنكرة وأخرى مزمجرة... فسيفساء رسمتها أنامل الموت والحياة... إنّها بيروت... بيروتنا... أيقنت فجأةً أنّها لا تولد إلا من رحمٍ ممزوجٍ بلوعة الدم وبهجة الحياة...هل حكمت عليها بالموت هي أيضاً؟ هل نال الجلاد مُراده منها؟ نغم يتعالى في الفناء أيقظ خواطر في ذهنها:"لا ما خلصت الحكاية، مش هاي هي النهاية...". قهقهات الأطفال الذين يلعبون بخفةٍ حول الشجر تبثّ الروح في قلبها على دفعات. ترى الوجوه أكثر نبضاً الآن. تكاد تسمع ضحكات الوجوه المتردّدة أصداؤها بين أوراق الشجر الأخضر. لاح في عينيها وميض يقظةٍ وتناهت إلى مسامعها دقات قلبها المدوّية. "ماما، لماذا تحوّل عمو جبران الى شجرة"؟ يلحّ الولد اللجوج وقد تمسّك بكمّها تمسّك الغريق بخشبة الخلاص. "لأنه يحب الحياة... مثلنا". ردّت وقد افترّ ثغرها عن ابتسامة. إرادة الحياة تنبض في حناياها مجدداً. طبعت على وجنتيه قبلةً، وحانت منها التفاتة إلى قدميها المدبرتين بها إلى أدراجها. رأتهما جذوراً ممتدّة تبحث عن ديارٍ تُغرس فيها.