يشير المؤرخ المغربيّ عبدالله العروي في كتابه"مجمل تاريخ المغرب"إلى عدد من الإشكاليات التي تتصل بقراءة التاريخ وكتابته، خصوصاً في المجال العربي. وتعرض إلى عدد من الإشكاليات المنهجية التي تتصل بطبيعة الممارسات التي قام بها مصنفو كتب التاريخ، سواء انتموا إلى المجال المغربي أم كانوا منتمين إلى الرؤية الاستعمارية من المستشرقين. ولم يُلق العروي بالتهم جزافاً، عندما بيّن المغالطات الكثيرة التي تقع فيها قراءة التاريخ قراءة محكومة بظروف نشأتها وبأهدافها المصممة مسبقاً. وأشار إلى مسألة مهمة تتعلق بتصوّر الآخر للعالم الإسلامي أو العربي أو المغربي، إذ تفطن العروي أثناء تدريسه في بعض الجامعات الأميركية، إلى أن المؤرخين هناك، لا يعنّون أنفسهم مشقة تعلم اللغة العربية فضلاً عن اللهجات المحكية المغاربية بل يتوكأون على عصا الكتب الاستشراقية المتوافرة بلغات غربية فرنسية أساساً ويكتفون بها لتكوين فكرة عن المنطقة، وهذا الجهل ينعكس على مستوى التعامل السطحي المتسم بسوء الفهم الكبير تجاه المغرب العربي... ويمكن اعتبار أن هذا الكسل المعرفي العام يعضده قصور الباحثين اللاحقين عما فعله السابقون، حيث إنّ ما جعله الأوائل افتراضات عمل وإمكانات بحث، يصبح عند المتأخرين مسلّمات ومنطلقات جازمة. وهذا الأمر يكتنفه تغاض بين المؤرخين لحقب مختلفة عن الأخطاء التي يقع فيها زملاؤهم، بل وتقديرهم إياهم عالياً ومن دون إعمال النزعة النقدية، وهي ضرورية - كما هو معلوم - في سياق العلوم التي تتخذ من الطابع العلمي الجدلي نسقاً فكرياً، كما هو الحال في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولعلّ ضعف الاهتمام بتدقيق الأصول الاثنوغرافية واللغوية لسكان المغرب، يجعل التأريخ أمراً تقريبياً يخضع للافتراضات التي تغذيها الرؤى الإيديولوجية أكثر من التحقيق العلميّ الموثّق. ويشير العروي إلى اهتمام بعلوم الإحاثة والحفريات الأركيولوجية في تونس، لكنه يستطرد أنّ ذلك ليس"حبّاً في المعرفة"بقدر ما هو واقع لجلب السياح الغربيين، الذين شغفوا بالتاريخ ووثائقه، في نطاق السياحة الثقافية... ويجد قارئ كتاب"مجمل تاريخ المغرب"رؤية ثاقبة للكاتب تتجاوز التعامل المدرسي أو الاستشراقي أو الأكاديمي الضيق أو السجالي ذي الغايات الإيديولوجية، بل هو عمل تغذيه رؤية نقدية صارمة، لا تنأى عن نقد الذات والآخر في آن، فلا يدع مجالاً للمحاباة ولا يغلو في تأييد الفكرة إلا بالقدر الذي تستوجبه قوة الحجة وبراعة الدليل. ونأى العروي عن متابعة التصنيف المدرسيّ الذي يقسم التاريخ إلى حقب ثلاث كبرى، وهي:التاريخ القديم، التاريخ الوسيط، التاريخ الحديث والتاريخ المعاصر. ويؤكد مؤاخذاته على المناهج التاريخية المتوافرة، بأنها"لا تنفع إلا في تحقيق أحداث الحضارات الدخيلة، من فينيقية ورومانية وإسلامية وفرنسية". بل وينقد أفكاراً روّج لها بعض المتخصصين في تاريخ المغرب، كقول بعضهم"إن العهد الحجري الصقيل دام أكثر من اللازم في شمال أفريقيا". وهي رؤية استعمارية توازيها فكرة الغض من قيمة هذه المنطقة على الصعيد الإنسانيّ، إذ يقول تشارلز غالغر، صاحب كتاب"الولاياتالمتحدة وشمال أفريقيا"، 1963:"ليست منطقة المغرب من المناطق التي تنتج بغزارة الأفكار الأصيلة، بدليل أنها لم تنجب سوى ثلاث شخصيات فذة في القديم - أغسطين، قبريان وترتوليان - وثلاث في العهد الوسيط - ابن بطوطة، الأدريسي، ابن خلدون". ويعلق العروي على ذلك:"... من دون أن يتساءل هل نجد هذا القدر في مناطق أخرى كثيرة من العالم؟"وكأنّه يعرّض بتاريخ الولاياتالمتحدة...ولعلّ من أوضح الإشكاليات التي كشفها العروي في ما يتعلق بتاريخ المغرب، تلك المتصلة بدعوى سلبية السكان الأصليين وكونهم مجرد حوامل عارضة لحضارات وافدة على المنطقة. ويقول أصحاب هذه الدعوى:"أمّا إذا أردتم أن تتكلموا عن السكان الأصليين، فلا يمكنكم أن تخرجوا من نطاق قبل وقبيل التاريخ". ويأتي الجواب على لسان العروي، صحيح أنّ المغرب تلقى الحضارة من الخارج، لكن"النقطة المهمة هي أن المغاربة قبلوا بعض المظاهر ورفضوا البعض الآخر".وينتهي عبدالله العروي إلى إقصاء التعميمات"الرعناء"كما يصفها، لأنها تقوم على افتراضات تمّ التغاضي عن كونها كذلك، في ظلّ غياب وثائق ثبوتية، ودراسات لسانية وأركيولوجية دقيقة، وفي ظلّ تجاهل أصحاب تلك الدعوى بحقيقة مفادها أنّ"التطوّر لا يسير على خط واحد مستقيم"، ما يعني إمكان حصول تطوّر متناقض"لا يمنع فيه تأخّر في مستوى معيّن حصول تقدّم في مستوى آخر، بل يتسبّب التأخّر في تقدّم لاحق". لقد بيّن العروي أنّ من أهمّ إشكاليات كتابة التاريخ، قيامه على مفترق طرق الإيديولوجيا والمعرفة، وما يقتضيه ذلك من احتكاك وتقاطع وتصادم في كثير من الأحيان. وليست الكتابة التمجيدية للتاريخ أقلّ ضرراً من الكتابة الاستعمارية المغرضة. ولكن سدّاً للذرائع - كما يقول الفقهاء - يجب أن يتصدّى أبناء المنطقة ذوو التكوين الاختصاصي الموضوعي من تقديم الرؤية الأقرب إلى الموضوعية لهذا التاريخ، الذي يحتاج إلى إعادة كتابة وفق حاجات المجتمع الحاضر، لئلا يبقى عالة على استنساخ مدوّنات مؤرخي التراث أو صياغات الاستعمار القديم والجديد. صابر الحباشة - بريد الكتروني