بعد اغتيال الوزير بيار الجميل المأسوي وما سبقه من انتكاس جلسات التشاور في لبنان، وتصريح الرئيس نبيه بري بوقوع يمين الطلاق غير البائن، وما أدى اليه أو تسبب فيه من استقالة وزراء"حزب الله"وحركة"أمل"، وصلت الأمور الى حد يشبه الانفجار السياسي الذي يخشى أن يتطور أو يترجم الى انقسام في الشارع وانفلات أمني، إن لم نقل انفجاراً لا يمكن التكهن بالمدى الذي قد يؤدي اليه لا سمح الله. اللبنانيون بسائر فئاتهم وانتماءاتهم يتسمرون أمام شاشات التلفزيون بشتى ميولهم او انتماءاتهم السياسية أو الطائفية أو الحزبية، يستمعون الى الأنباء أو التنظيرات علهم يجدون فيها ما قد يطمئنهم ولو ببصيص من أمل للخروج من هذا النفق المظلم وهذه الأزمة الطاحنة التي تعود بهم الى أجواء الحرب الأهلية تنذكر ما تنعاد أو كما يقول هؤلاء الطيبون من أهل لبنان: وماذا بعد؟ أو"هالبلد رايح لوين؟"بكلمات بسيطة لكنها معبرة وصادقة تعكس هواجس الناس وقلقهم على مستقبل البلد وبالتالي مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. حسناً، ما هو الحل للخروج من هذا النفق المظلم؟ الكل يتساءل ولا من مجيب، وإن أجاب فبكلمة واحدة:"الله يستر". الرئيس بري قال ان هذا الطلاق الذي وقع هو طلاق غير بائن، أي يمكن الرجوع عنه، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال أو محور هذا النداء الذي أجزت لنفسي ان أنسبه الى الشعب اللبناني الشقيق، وتجرأت بتوجيهه الى حكماء العرب الذين يتطلع اليهم هؤلاء الطيبون علهم يصنعون"المعجزة"كما استطاعوا أول مرة خلال مؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، وتمخض عما عرف باتفاق الطائف الذي أضحى دستوراً للبنان. كنت كتبت مقالاً عام 1981 في عنوان:"لبنان: مطلوب حكومة نقاهة"، كتبته من وحي التأزم الذي كان سائداً آنذاك لتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة الراحل شفيق الوزان، ولم أجد حلاً لتلك الأزمة الحادة سوى اقتراح تشكيل حكومة"نقاهة"، أي من فريق"التكنوقراط"اللامنتمين الى أي حزب سياسي، من رؤساء جامعات وعمداء كليات وشخصيات محايدة، من رجال أعمال وفكر وإعلام غير مسيسين إضافة الى السيدة فيروز سفيرة لبنان الى النجوم كوزيرة للفنون والآداب، والأستاذ الكبير وديع الصافي كوزير للمغتربين والمهجرين"على سبيل إشاعة جو من التفاؤل بعودة السلام". كان ذلك قبل ربع قرن وحدث ما حدث حتى اتفاق الطائف. كنت منذ أيام أتحدث مع صديق وسياسي بارز حول هذا الاقتراح، وكان رد فعله بإمكان هذا الحل آنذاك، ولكن أين نجد الآن من هو غير مسيّس أو غير منتم الى حزب سياسي أو تكتل، ناهيك عن الاعتبارات الطائفية المعقدة؟ ووافقته على ملاحظته هذه، فالظروف تغيرت والحال غير الحال، إلا انني ما زلت أدعو الى ضرورة توفير الأجواء المناسبة لهذه الفترة المهمة من"النقاهة"للجسم السياسي اللبناني بسائر فئاته وأعضائه، لاستعادة تمام العافية بعد الشفاء من سرطان هذا الانقسام والفرقة ولكي يعود لبنان كما كان... عشاً للبلابل وللورد والريحان وأحلى مزهرية، تا ترجع البسمة عاشفاف قسيت ونسيت طعم الضحك والهنا... قولوا: ان شاء الله. نعم، المطلوب صدمة كهربائية لطيفة تدغدغ حواس اللبنانيين يستفيقون بعدها على وجه جديد للبنان، وأجواء جديدة كادوا ينسونها من تتابع الأزمات وتلاحقها، كي يعود لبنان الحلو، لبنان الميجانا والعتابا، لبنان الأرز وجبل صنين، لبنانطرابلس وعكار وصيدا وصور، لبنان بعلبك وزحلة والباروك، لبنان"أم الدني"بيروت، لبنان الحرف، لبنان الأدب والشعر والزجل، لبنان فيروز ووديع والشحرورة، لبنان جبران وسعيد عقل، لبنان الحلو"الغنوج"حماه الله. لبنان عهدة بيد أبنائه المخلصين، لبنان يناشدكم أيها الحكماء العرب كي تمدوا له يد العون الأخوي النبيل المنزه عن الأغراض الذاتية، كي تعيدوا الوفاق والوئام والسلام الى ربوعه والى"بيت الزوجية"الذي تصدع، وإن أبغض الحلال عند الله الطلاق، لنحفظ هذا الكيان العزيز من المخاطر التي لا سمح الله تدهمه ولات ساعة مندم. أخيراً، أحب أن أؤكد للأخوة في لبنان ان اخوتكم في الوطن العربي معكم في الضراء كما هم معكم في السراء، فلستم وحدكم في هذه المحنة. ليس من باب التمنيات الطيبة فحسب، بل عملياً، سواء على الصعيد السياسي أو المالي حيث قام اخوتكم في الدول العربية الشقيقة بترجمة تضامنهم الأخوي بالاتصالات الحثيثة والمساعي الخيرة لتطويق تداعيات العدوان الصهيوني الغاشم على مسار الوحدة الوطنية، ودعم الجهود الديبلوماسية والسياسية لوضع حد لهذا العدوان الغادر، ومن ثم التوصل الى القرارات الصادرة عن مجلس الأمن لردع إسرائيل عن مواصلة عدوانها. أما الدعم المالي فقد بادرت الدول العربية القادرة الى تقديم دعمها العاجل لمساعدة لبنان في تجاوز تلك الأزمة التي تسبب بها العدوان الإسرائيلي الغاشم، سواء بالمساعدات المالية أو العينية أو المستشفيات الميدانية والمنازل الجاهزة والمواد الغذائية والأدوية والكتب المدرسية، إضافة الى ما تعهد به بعض الدول العربية الشقيقة لإعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الصهيونية، ودونما أي منٍّ أو تفاخر، تصدرت المملكة العربية السعودية قائمة هذه المساعدات جنباً الى جنب شقيقاتها التي قامت بما يمليه عليها الواجب الأخوي منذ الأيام الأولى للعدوان، علاوة ما قامت به المملكة من جهود حثيثة لتطويق التداعيات السياسية التي نجمت عن هذا العدوان الغاشم. تشهد على ذلك تلك الجهود والتحركات المكثفة التي قام بها سفير خادم الحرمين الشريفين الدكتور عبدالعزيز خوجه بتوجيه من القيادة الرشيدة في المملكة، التي لا يزال يتابعها لدى القيادات اللبنانية الحريصة على لبنان ووحدته الوطنية واستقراره، بالتعاون والتنسيق مع زملائه من السفراء العرب الغيورين على مصلحة لبنان واستقراره، لا سيما سفير مصر الصديق حسين ضرار الذي يمثل الاهتمام الذي توليه القيادة المصرية للوضع في لبنان. باقة ورد بيضاء نهديها للبنان الحبيب في طور النقاهة، مع أطيب التمنيات بتمام الشفاء. "صديق لبنان" * السفير السعودي السابق في لبنان