بن مشيبه متحدثاً لوزارة الحرس الوطني‬⁩    متقاعدو أبوعريش الأكثر حراك اجتماعي    مدينة الصين تجذب زوار موسم جدة    مناظرة بايدن تركت الديمقراطيين بين شكوك الدعم    الربيعة يدشن البرنامج الطبي التطوعي للأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي لمتضرري زلزال سورية وتركيا    «واتساب» تستخدم الذكاء الاصطناعي في «تخيلني» (Imagine Me) لإنشاء صور شخصية فريدة    2024 يشهد أكبر عملية استيلاء على أراضي الضفة الغربية    وزير الخارجية يصل إسبانيا للمشاركة في اجتماع المجلس الأوروبي    الإيطالي ستيفان بيولي مدربًا جديدًا لنادي الاتحاد    الهلال يعلن عن رحيل محمد جحفلي    إحباط تهريب 90 كيلوجرامًا من القات    جامعة القصيم تعلن مواعيد التقديم على درجتي البكالوريوس والدبلوم    مجلس جامعة الملك خالد يعقد اجتماعه الحادي عشر ويقر تقويم العام الجامعي 1446    المفتي يستقبل آل فهيد    ارتفاع عدد قتلى حادث التدافع بشمالي الهند إلى 121    ضيوف الرحمن يغادرون المدينة المنورة إلى أوطانهم    بدء المرحلة الثانية من مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية    أمير جازان يتسلّم تقريرًا عن أعمال إدارة السجون بالمنطقة    الوفاء .. نبل وأخلاق وأثر يبقى    جيسوس يوجه رسالة لجماهير الهلال    الحرارة أعلى درجتين في يوليو وأغسطس بمعظم المناطق    السجن 7 سنوات وغرامة مليون ريال لمستثمر "محتال"    مجمع إرادة والصحة النفسية بالدمام وبصيرة ينظمان فعاليات توعوية عن أضرار المخدرات    الدكتور السبتي ينوه بدعم القيادة غير المحدود لقطاع التعليم والتدريب في المملكة    "التأمينات" تعوَض الأم العاملة عند الولادة 4 أشهر    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى 11595 نقطة    الأمير سعود بن نهار يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية اليقظة الخيرية    موسكو تسجل أعلى درجة حرارة منذ 134 عاماً    «الموارد البشرية» تفرض عقوبات على 23 صاحب عمل وإيقاف تراخيص 9 مكاتب استقدام    جامايكا تستعد لوصول إعصار "بيريل"    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس غرفة الخرج    محلي البكيرية يناقش الأمن الغذائي للمنتجات الزراعية وإيجاد عيادات طبية    تحسن قوي بالأنشطة غير النفطية في يونيو    السواحه يبحث مع زوكربيرج التعاون بالذكاء الاصطناعي    بدء أعمال الصيانة ورفع كفاءة وتطوير طريق الملك فهد بالدمام اليوم    الأمان يزيد إقبال السياح على المملكة    بناء محطة فضائية مدارية جديدة بحلول عام 2033    اتحاد القدم يعين البرازيلي ماريو جورجي مدرباً للمنتخب تحت 17 عاماً    تجسيداً لنهج الأبواب المفتوحة.. أمراء المناطق يتلمسون هموم المواطنين    «كفالة»: 8 مليارات تمويل 3 آلاف منشأة صغيرة ومتوسطة    يورو 2024.. تركيا تتغلب على النمسا بهدفين وتتأهل إلى ربع النهائي    البرتغاليون انتقدوا مهنيتها.. «قناة بريطانية» تسخر من «رونالدو»    وصول التوأم السيامي البوركيني الرياض    ازدواجية السوق الحرة    أمير الشرقية: مشروعات نوعية ستشهدها المنطقة خلال السنوات المقبلة    90 موهوبًا يبدأون رحلة البحث والابتكار    التعليم المستمر يتابع سير الحملات الصيفية لمحو الأمية بالباحة    أزياء المضيفات    أمير القصيم ينوه بعناية القيادة بالمشروعات التنموية    التراث يجذب الزوار في بيت حائل    تأثير التكنولوجيا ودورها في المجتمع الحديث    الحج .. يُسر و طمأنينة وجهود موفقة    طه حسين في المشاعر المقدسة 2-1    هنّأ رئيس موريتانيا وحاكم كومنولث أستراليا.. خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    "التخصصي" يجري 5000 عملية زراعة كلى ناجحة    أمير القصيم يكرّم عدداً من الكوادر بالشؤون الصحية في المنطقة    "الطبية" تعالج شلل الأحبال الصوتية الأحادي لطفل    نائب أمير مكة يرأس اجتماعاً لمناقشة التحضير للحج القادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع الدولي وقضايا الشرق الأوسط الكبرى . جذور قديمة للأحداث المعاصرة 1 من 2
نشر في الحياة يوم 02 - 12 - 2006

تكثر الأحداث الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، وتتكرر بوتائر متسارعة. وتتخذ هذه الأحداث أشكالاً مختلفة، إما في حروب مع الخارج، أو في حروب أهلية، أو في احتلال دول كبرى لدول صغيرة، أو في صيغة تدخل دول مجاورة كبيرة بشؤون دول مجاورة صغيرة. كما تتخذ شكل انقسامات حادة وصراعات بين أهل البلد الواحد حول مشاريع وهمية، تستقوي كل مجموعة منهم بقوى خارجية. فيتحولون جميعهم بفعل استقوائهم هذا بالخارج، من دون أن يدروا، إلى أدوات تستخدمها هذه القوى الخارجية في الصراعات القائمة بينها حول مصالحها السياسية والاقتصادية في هذه المنطقة. ويكاد المجتمع الدولي يعجز عن اللحاق بهذه الأحداث وبالتطورات التي تنتج عنها، بل إن أقساماً واسعة من القوى السياسية والاجتماعية في بلدان الغرب تجد نفسها منساقة إلى اتخاذ مواقف حائرة، مترددة، في ما يشبه العجز عن فهم أصل المشكلة وعن فهم أشكال التعبير عنها. ويزيد من هذين الحيرة والتردد في مواقف هذه القوى ما نشهده من بروز ظواهر تكاد تستعصي على الفهم، وعلى التفسير العقلاني. ألا تشير إلى هذه الإشكالية، على سبيل المثال لا الحصر، ظاهرة الأصولية المتفاقمة المسماة إسلامية في جميع بلدان المنطقة وفي امتداداتها؟ علماً أن هذه الظاهرة هي متعددة في أنواعها، وفي استهدافاتها، وفي طبيعة القوى التي تنتمي إليها. ذلك أنه سيكون من الخطأ الفادح الدمج، مثلاً، بين"حزب الله"في لبنان، وبين ابن لادن في أفغانستان والزرقاوي في العراق. فللإسلام، وللعقيدة الدينية الإسلامية بالنسبة إلى كل من هذين النوعين من الأصولية، فهم وتفسير مختلفان. والأهداف المعلنة والمضمرة لكل منهما، والأشكال المتبعة في عملهما السياسي المسلح، هي أيضاً مختلفة. وهو ما يمكن تمييزه بوضوح، عندما تتوفر الموضوعية في قراءة الأحداث وفي تفسيرها. غير أنه سيكون من الخطأ الفادح ألا نرى في الظاهرة ذاتها، مع اختلاف أشكال التعبير عنها، ما هو مشترك بينها في الأساس. وقد دلت على ذلك ردود الفعل على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة في الدنمارك، وردود الفعل على البرنامج الكوميدي في تلفزيون"ال بي سي"اللبناني الذي اعتبر مسيئاً لأمين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله. تضاف إلى ذلك ردود الفعل على محاضرة رأس الكنيسة الكاثوليكية التي استشهد فيها بأقوال قديمة تتعلق بالإسلام وبالفتوحات الإسلامية. الأمر الذي يؤكد أن ما هو مشترك بين هذه الأشكال المختلفة للظاهرة، وهو أساسي، إنما هو الحذر، إن لم نقل الرفض، للآخر المختلف، حتى في الدين ذاته. هذه الظاهرة بأشكالها المختلفة ما تزال خارج الفهم، أو محدودة الفهم، في الغرب. وما زال التعامل معها من قبل بعض الدول، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية، ومن قبل القوى السياسية والاجتماعية في الغرب بشكل عام، يتخذ طابع ردود أفعال تتراوح بين العداء المطلق لها وإلصاق صفة الإرهاب بها، وإعلان الحرب عليها، وبين الاعتراض الكلامي عليها في محاولة تفسيرها من دون بذل الجهد الكافي في البحث عن جذورها في كل من التاريخ القديم والحديث للمنطقة، وبالعلاقة المعقدة والمركبة لهذه المنطقة من العالم.
ويبدو لنا في هذا الإطار، ونحن بصدد طرح المشكلة، أن علينا، نحن أبناء المنطقة بالذات، أن نسهم، قبل سوانا، في تقديم بعض الإجابات عن الأسئلة التي تطرحها هذه الظاهرة. غير أن علينا أن نبدأ بالإشارة إلى أن بروز هذه الظاهرة لم يأت دفعة واحدة، ولا جاء في شكل محدد وواضح منذ البداية، بل إن الظاهرة جاءت متدرجة، ومرت بتجارب متعددة. لكن الأهم من كل ذلك هو أنها ترافقت مع ظواهر من نوع آخر، نؤجل الدخول في التفاصيل المتصلة بها إلى مكان آخر في هذا البحث. أبرز هذه الظواهر الأخرى هو ما يتمثل بسيادة أنظمة الاستبداد في بلدان المنطقة، وبضعف دور السياسة في الحياة العامة بفعل غياب الحرية، وتراجع دور الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وبروز انقسامات من نوع مختلف عما كان سائداً في صورة طبيعية، واستبدالها بانقسامات طائفية وعائلية، وانكفاء أقسام واسعة من الفئات الشعبية عن الانخراط في الشأن العام، بفعل هذه التطورات السلبية، وتعمق حالات اليأس، عند الشباب خصوصاً، وتزايد لجوء الكثرة الغالبة من الناس إلى طوائفهم ومذاهبهم وعائلاتهم وقبائلهم. وهي جميعها حالات تشير إلى تفكك بنى الدولة، وتفكك بنى الاجتماع السياسي، عامة، والوطني خاصة، في هذه البلدان.
أصل المشكلة
لا بد من العودة في تفسير معنى الأحداث الكبرى التي نشير إليها، وتفسير بروز الظواهر المرافقة لها، إلى التاريخ القديم والمعاصر. غير أننا لن نغامر في هذا البحث في الدخول في متاهات التاريخ. إننا نود فقط أن نشير إلى أن لكل حالة جذورها القديمة وأن لها كذلك الأسباب التي تولدها. نريد فقط أن نشير بسرعة إلى أن تكوين بلدان هذه المنطقة ليس من طبيعة واحدة. فالفرق كبير بين إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، من جهة، وبين البلدان العربية مشرقاً ومغرباً، بل إن البلدان العربية ذاتها تختلف في تاريخها الحديث الذي تكونت فيه كدول مستقلة. لذلك فإن من الخطأ الدمج في شكل تعسفي بين هذه البلدان وظروفها، وبين مراحل تطورها، وبالأخص بين دول المشرق والمغرب، وحتى حول طبيعة ونوع الأحداث التي جرت وتجري فيها. إلا أن من المفيد، في الوقت ذاته، أن نقرأ بوضوح بعضاً من العناصر المشتركة في بعض مراحل تطور هذه البلدان في تاريخها الحديث على الأقل، من دون أن نهمل ما هو مشترك بينها في تاريخها القديم. والمشترك، هنا وهناك، بين هذه البلدان هو كونها بلداناً إسلامية في أكثريتها الساحقة. وإذا كان الإسلام السني هو صاحب الأغلبية في هذه البلدان جميعها، فإن الجديد الذي نشأ مع الثورة الإسلامية في إيران هو أن الإسلام الشيعي قد دخل في نسيج الحياة العامة في بعض هذه البلدان بقوة لا سابق لها منذ قرون عدة. ولا يستثنى من ذلك لبنان على رغم التعدد الديني فيه. يضاف إلى هذا العنصر المشترك بين هذه البلدان، في تاريخها الحديث على الأقل، هو أنها بمعظمها بلدان تقوم على ثروات هائلة من النفط والمياه، فضلاًَ عن ثروات أخرى بعضها لا يزال مغموراً تحت الأرض. وهي لذلك دخلت، منذ اللحظات الأولى لتكونها كدول مستقلة، في مشاكل كبرى، سواء في علاقتها مع بعضها البعض، أم في العلاقات الداخلية بين مكوناتها السياسية والاجتماعية والدينية. لكن مشكلتها الأكبر تمثلت في علاقتها مع الخارج، أي مع الدول العظمى التي كانت ولا تزال تطمح الى وضع اليد على ثروات هذه البلدان والتحكم بها وبمصائر شعوبها. وساهم الاضطراب في هذه البلدان، الذي تمثل بالصراعات الداخلية وبالحروب الخارجية وبالحروب الأهلية، وبسائر أشكال التدخل بما فيها العدوان الخارجي، في إبقاء هذه البلدان أسيرة التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وأسيرة الفقر والمرض، وكذلك الجهل، الذي لم تحد من انتشاره وتعمق آثاره في المجتمع كثرة المدارس والجامعات وكميات المعارف التي تقدم إلى الأجيال من دون تخطيط يحدد الوظيفة الاجتماعية والتنموية للعلم وللمعرفة اللذين يفتقدان قيمتهما في صنع التقدم إذا هما لم يقترنا بالوعي الاجتماعي.
هل يكفي ما نشير إليه من وقائع تاريخية، سياسية واجتماعية، لكي نحدد أصل المشكلة فيما نحن بصدده؟ وسواء صح ما ندعيه أم لم يصح، فإننا أمام حاجة موضوعية للتوقف عند هذه الوقائع التي تشكل على الأقل بعضاً من جذور المشكلة ومن أسبابها ومن مسببيها. وهي جميعها حالات ولدت وتولد نماذج مختلفة من الظواهر، لا سيما ما يتصل منها بالتطرف، سواء باسم الهوية الدينية، أم باسم الهوية القومية، أم باسم الانتماءات الأولية، العائلية والقبلية.
أوهام الهوية
تختلف بلدان المنطقة في شكل الأنظمة التي قامت فيها مترافقة مع الحالات والظاهرات الآنف ذكرها. ولا نرمي هنا إلى الحديث عن ملكية هنا وعن جمهورية هناك. بل أن ما نرمي إليه هو التوقف عند الطبيعة السياسية والاجتماعية للأنظمة التي سادت في هذه البلدان. وإذا كانت تركيا قد ظلت تشكل استمراراً، وإن بصيغ وأشكال مختلفة، لتقاليدها العلمانية التي أرسى أسسها أتاتورك، فإن إيران قد غيرت، بعد انتصار الثورة الإسلامية، نظامها القديم، ودخلت في نمط جديد من النظام يستند إلى العقيدة الدينية، التي يتوحد فيها الاتجاه القومي الفارسي مع الإسلام الشيعي. وهو نظام جمهوري تعددي في الشكل. لكنه ديني تعصبي استبدادي في الجوهر، وحتى في الممارسة. في حين أن الوضع في البلدان العربية كان، منذ البداية، ولايزال، مختلفاً. فقد دخلت هذه البلدان، منذ المراحل الأولى لتشكل دولها المستقلة، إما في أنظمة ملكية إسلامية في الشكل وذات طابع عائلي، أو في أنظمة جمهورية برلمانية سرعان ما حولتها الانقلابات العسكرية المتتالية إلى أنظمة استبداد وراثية. وهذه الأنظمة"الجمهورية"الاستبدادية إنما قامت في الأساس على شعارات قومية. واستندت في تثبيت سلطاتها إلى مؤسسة عسكرية، قوية في مواجهة شعوبها، ضعيفة وعاجزة ومنهزمة في مواجهة خصومها الخارجيين، المتمثلين أساساً بدولة إسرائيل. ومعروف أن الدولة العبرية قد نشأت بقرار من الأمم المتحدة، في ذات المرحلة التي تشكلت فيها معظم الدول العربية الحديثة. ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ ما يزيد عن نصف قرن، تستمر هذه الأنظمة الاستبدادية بصيغها المختلفة حاملة شعارات ذات طابع قومي ديماغوجي، تدعو إلى وحدة البلدان العربية، وتعمل في الاتجاه المعاكس لها، وتتمسك بالدفاع الزائف عن الهوية القومية العربية، وعن التراث الحضاري الإسلامي، وترفض الاعتراف للأقليات القومية بالوجود، وتحرمها من حقوقها، وتمارس القمع ضدها بما في ذلك بالحروب الطويلة العراق والسودان. ولأن سادة هذه الأنظمة كانوا على الدوام حريصين على البقاء في مواقعهم في السلطة بأي ثمن، فإنهم حولوا بلدانهم، عن طريق القمع المباشر والمقنع، إلى بلدان ضعيفة ومتخلفة، يعشعش فيها الفساد والفقر، وتضعف الثقافة والمعرفة، ويتشوه الوعي. وخلقوا، مع الوقت، فئات واسعة من الشعب ملتصقة بهم، بالانتفاع وبالخوف من القمع وباليأس من إمكانية التغيير. لكن ذلك أدى في نهاية المطاف إلى تعطيل السياسة وتغييب دورها في الحياة العامة. كما أدى إلى تلاشي دور الأحزاب ودور مؤسسات المجتمع المدني. وانتهى الأمر بأقسام واسعة من الفئات الشعبية وحتى بالنخب السياسية والثقافية إلى اللجوء، تدريجياً، إلى طوائفها ومذاهبها وأديانها، وحتى إلى عائلاتها وقبائلها. ونشأت، في ظل الفقر واليأس والحاجة والخوف على المصير، حركات أصولية كشكل من أشكال الاحتجاج والاعتراض على الواقع القائم. فجرى قمعها. فازدادت شراسة. وزادتها قوة وشراسة تلك الهزائم التي أدت إليها المغامرات العسكرية للحكومات العربية في مواجهة إسرائيل تحت الشعار الزائف:"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة من أجل تحرير فلسطين". وهي مغامرات استندت فيها هذه الحكومات إلى الهزائم العسكرية من أجل عسكرة الحياة وتوسيع قاعدة القمع دفاعاً عن سلطاتها. كما ساهم في زيادة نفوذ هذه الحركات الأصولية، وفي تحولها إلى قوة مدمرة، تعاظم أشكال التدخل الخارجي من قبل الولايات المتحدة الأميركية، باسم الدفاع الزائف عن الديموقراطية، وعلى قاعدة نهج لا يختلف عند الليبراليين الجدد عن النهج الذي ساد في البلدان العربية. وكانت، ولا تزال، وظيفة هذا التدخل الأميركي خصوصاً بسط الهيمنة على المنطقة وعلى مصادر الثروة فيها، مستندة إلى دعم حكام هذه البلدان المباشر وغير المباشر لها ولسياستها.
لكن الدفاع المزعوم عن الهوية القومية وعن الهوية الدينية سرعان ما تحول إلى شكل هجين من الانغلاق على الذات، ورفض الآخر، وتعميق التخلف، واعتبار أن كل ما يأتي من الغرب إنما يستهدف القضاء على هاتين الهويتين. وصارت الأفكار والمعارف، التي يجهد الناس عموماً لإتقانها، مستوردات خطيرة تهدد هاتين الهويتين. وغاب عن الإدراك، حتى عند أقسام واسعة من النخب السياسية والثقافية، أن الهويات لدى الشعوب جميعها، التي هي شكل من أشكال التعبير عن ذواتها، إنما تحتاج دائماً إلى الاغتناء والتطور اللذين يوفرهما لها التفاعل الخصب مع ثقافات الشعوب الأخرى ومع منجزات الحضارة العالمية حاملة العناصر الأساسية للتقدم الذي يحتاج إليه جميع البشر من دون استثناء.
إن جميع هذه الحالات تشكل، في نظرنا، التعبير الراهن عما تعاني منه البلدان العربية، خصوصاً، في واقعها الراهن، سواء في تعامل حكوماتها مع شعوبها، أم في تعامل شعوبها ونخبها السياسية والثقافية مع حاضرها ومستقبلها، ومع التحولات الكبرى التي تجري في العالم المعاصر، في اتجاهاتها المتناقضة.
النزاع العربي - الإسرائيلي
إن ما توقفنا عنده في تحديد أصل المشكلة، وفي ما نتج عن الوقائع التاريخية في هذه البلدان، يقتضي منا بالضرورة أن نتوقف عند قضية لا تعطى حقها من الاهتمام من قبل المجتمع الدولي، على رغم كل ما يقال ويفعل في هذا الاتجاه. إنها القضية المتصلة بالنزاع العربي - الإسرائيلي. وإذا كان جوهر المشكلة هو ما يتصل بقضية فلسطين، أي بحق للشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على أرض وطنه وفق قرار تقسيم فلسطين الذي اتخذ في عام 1947 وقضى بإقامة دولتين عربية وعبرية، فإن لهذه القضية أبعاداً تتجاوز فلسطين وشعبها وقضيتهما الوطنية. إن ثمانية وخمسين عاماً من النزاع العربي الإسرائيلي قد أحدثت تدميراً مادياً وروحياً في المنطقة، وخلقت مشكلة عالمية معقدة تهدد السلم في المنطقة وفي العالم. إن حرب لبنان الأخيرة، بمعزل عن تقييم أسباب وقوعها، هي واحدة من هذه الحروب المتصلة بالنزاع العربي - الإسرائيلي. وهي مثل سابقاتها من الحروب خلفت توتراً في المنطقة وفي العالم. وهي حرب لم تنته فصولها بعد.
لا بد من وقفة سياسية مسؤولة من قبل المجتمع الدولي لمعالجة هذه القضية من جذورها. إذ لم يعد مقبولاً أن تستمر إسرائيل في تعنتها وفي رفضها لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه فلسطين. وتذرع إسرائيل الدائم لممارسة قمعها الوحشي للشعب الفلسطيني بأن هذا الشعب يستخدم السلاح في الدفاع عن قضيته، إن هذا التذرع الإسرائيلي لممارسة القمع سيؤدي إلى المزيد من تعقيد القضية، وإلى المزيد من الموت والدمار، وإلى المزيد من ظواهر التطرف. إن ما يجري في فلسطين اليوم هو كارثة بكل المعاني. إنه أشبه ما يكون بإبادة شعب يطالب بحقوقه المشروعة في وطنه. وما يحصل هو، بهذا المعنى، كارثة للشعب الفلسطيني، لكنه كارثة للشعوب العربية، ولشعب إسرائيل. وهو نقطة توتر دائمة في الوضع في المنطقة وفي العالم. وقد حان الوقت لوضع حد لما يجري، والعمل بكل الوسائل لإجبار إسرائيل على الدخول في مفاوضات حقيقية تقود إلى إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة على أرض فلسطين في حدود عام 1967، وأن تكون القدس الشرقية عاصمتها. إن مثل هذا الحل من شأنه أن ينزع فتيل الصراعات القائمة، ومن شأنه أيضاً أن يخفف من غلواء الحركات الأصولية المتطرفة.
ومن دون أن ندخل في تفاصيل ما يجري في العراق، بسبب الاحتلال الأميركي لهذا البلد، وبسبب التدخل المتعدد الوجوه والأشكال من قبل الدول المجاورة للعراق في هذا البلد، فإننا نريد أن نشير أولاً إلى أن الكارثة العراقية وجذرها الأصلي إنما يكمنان في نظام الاستبداد الذي حكم العراق ما يقرب من أربعين عاماً، وأحدث فيه تدميراً مادياً وروحياً كبيراً. وسلسلة الوقائع لا تحصى في هذا المجال. إلا أن علينا أن نرى، في الوقت عينه، أن الصراع في العراق هو صراع تتدخل فيه بأشكال مختلفة كل دول المنطقة. وجوهر هذا الصراع يتمحور حول منع العراق من أن يصبح، بعد زوال نظام صدام حسين الذي سقط بالتدخل الأميركي الفظ، نظاماً ديموقراطياً تعددياً، وهو ما يتناقض مع مصالح الانظمة القائمة في المنطقة، بما فيها النظامان الإيراني والسوري. ومن غرائب التناقضات في هذ الأمر أن هذا الصراع يتخذ طابع نزاع ديني في صفوف مسلمي المنطقة، وبين حكام بلدانها على وجه التحديد. وهو نزاع بين الإسلام السني الأكثري في المنطقة وبين الإسلام الشيعي الذي تتزعمه إيران، وتستند إلى مرتكزين أساسيين لها لتعزيز مواقعها هما العراق ولبنان.
* كاتب وسياسي لبناني
ينشر هذا المقال في العدد الثالث كانون الأول/ ديسمبر 2006 من مجلة "Fondation" التي تصدر في باريس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.