في سلسلة كراريس تصدرها "دار فونيكس" البريطانية بعنوان "تكهنات"، وهي تكهنات في صدد القرن المقبل، كتب برنار لويس عن "مستقبل الشرق الاوسط" 57 صفحة، هو الذي يُعدّ احد اعرف الاحياء بماضيه. والانطباع الاول الذي يخرج به القارئ هو الدور الهائل الذي يلعبه "الماضي" في صنع "المستقبل" حين يتعلّق الامر بالشرق الاوسط. فاذا جاز لنقّاد لويس رد تأويله هذا الى "مدرسة الاستشراق القديم"، فالأوجه سبباً ان الشرق الاوسط، في مساره طوال هذا القرن، يعزز تأويل المدرسة المذكورة، مضيّقاً فسحة الرهان على اتجاهات لا تكرر الماضي في نحو ما. بيد ان ذلك لا يكفي للحكم على عمل لا يحول صغر حجمه دون اهميته، ولو اجتمعت فيه الى النظرة الشاملة والملاحظات الثاقبة، بعض حدة "تاريخية" في الاحكام وبعض زوايا كان يُستحسن تدوير نتوئها او توسيع انفراجها. هكذا يباشر المستشرق الكبير نظرته الى القرن الواحد والعشرين بالعودة الى ملتقى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اذ تواضع المؤرخون على اعتبار حملة بونابرت بداية التاريخ الحديث للشرق الاوسط. والواقعة الكبرى هذه ارست حقيقة مفادها ان السلطة التي تقرر ما يحصل في المنطقة انما تقع خارجها. واذا تغيّر الابطال ابدت العلاقات المترتبة على الحقيقة هذه قدرةً فائقة على الصمود. وعلى اية حال فالحقبة التي افتتحها نابليون ونيلسون اغلقها بوش وغورباتشوف، ما اوجد حقيقة اخرى لازمت انهيار الاتحاد السوفياتي، هي ولادة عالم الدول التركية الاسلامية الذي ظهر كما ظهر قبلاً العالم العربي من جراء انهيار الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية. وسوف يكون العالم الجديد هذا ذا اهمية متنامية في العقود التالية، كما سيرتب آثاراً بارزة على الشرق الاوسط. لكن المنطقة، وقد استُكمل نزع الاستعمارات على انواعها، غدت مطالَبةً بمواجهة المسؤولية عن نفسها. بيد انه اذا "صعب هجر العادات التي لا ترقى الى عمر واحد فحسب بل الى حقبة تاريخية بأكملها"، فالأصعب هو ان "يستمر التفوق الغريب ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، لا بل يتعاظم، على رغم انتهاء السيطرة". وانما لأن صدمة الغرب وتفوقه لا يزالان حاضران في مجالات عدة، فهذا ما يحمل اهل الشرق الاوسط على افتراض ان المسؤولية والقرار لا يزالان في مكان آخر، وما يقود تالياً، الى انتعاش نظرات المؤامرة. وفي الالتباس هذا تتجاوز مطالبة الولاياتالمتحدة بالتدخّل، مع ادانة "الامبريالية" الاميركية! وهذا، عند لويس، مقاتلة لأشباح الماضي ترفدها المخاوف من "الاختراق الثقافي" الاميركي. والحال ان الثقافة الاميركية تتسم بسمتين، اولاهما استقلالها عن السيطرة السياسية وامتدادها بما يتعدى مجالات نفوذ دولتها، كأن نرى آثارها في ايران الخمينية او الصين الشيوعية. والثانية انها شعبية تتجاوز نطاق النخب المحصورة التي كانت في السابق مَنْ يستورد الثقافة من الخارج. وهي، خصوصاً، تخاطب الشبيبة مخاطبتها العناصر المنزوعة القوة في النظام التقليدي، لا سيما النساء. فاذا كان الخميني سمّى اميركا "الشيطان الاكبر" فما لا يخفى ان الغواية والاغراء وظيفتا الشيطان الأوليان. وبالعودة الى بونابرت، كانت ثمة دولتان سيدتان في المنطقة عند وصوله: ايران وتركيا. وقد انتهت الحال بالاولى جمهورية اسلامية وبالاخرى جمهورية علمانية. والصراع ضارٍ الآن، وفي المنطقة كلها، بين التقليدين. وتتمتع الاصولية بمزايا كثيرة على منافستها الديموقراطية وهنا كان الحري بالمستشرق المؤرخ ابداء التمييز المطلوب بين الجمهورية العلمانية التركية وبين الديموقراطية التي تبدو تتمة طبيعية لها. لكن أولى هذه المزايا، كما يرى بحق، استخدامها لغةً مألوفة ومفهومة وتوجهها الى جمهور واسع، وكذلك ردّها الحرمان والاجحافات الاقتصادية الى المكائد الاجنبية، وهي حجج يستجيبها كثيرون ممن يرون الشفاء في العودة الى الاصول. فضلاً عن هذا تزوّد المساجد وطواقمها الاصوليين "شبكة لقاء واتصالٍ لا يسع اشد الحكومات طغيانية ان تقمعها". ويستفيد الاصوليون من ان الانظمة المستبدّة اذ تصفّي معارضيها المنافسي، تساعدهم وتضاعف حظوظهم. اما الديمقراطيون فيتقدمون ببرنامج ولغة غير مألوفين، وغالباً غير مفهومين. ثم ان مصطلحات الديموقراطية والاحزاب والبرلمان والدساتير لطّخها فساد كثير. ومع هذا تتغير الاشياء بحسب لويس: ففي البلدان التي يحكمها اصوليون يتعلم الناس كيف يميزون بين الاسلام كدين ونظام اخلاقي وطريقة في الحياة، وبين الاصولية كإيديولوجيا سياسية لا تعرف الرحمة. وفي البلدان التي يعارض الاصوليون انظمتها، كشفوا عن وحشية عديمة القلب. وها هي تنشأ معارضات للاصولية والاصوليين، لا باسم العلمانية، بل باسم الاسلام نفسه، فيما يتضح ان انظمة كالايراني والسوداني لا تقلّ فساداً وان كانت اقوى واكثر تماسكاً من غيرها في الدفاع عن فسادها. كذلك تكشّف رصيد الحاكم باسم الدين عن فشل كامل في مجال الانجاز الاقتصادي والاجتماعي وعن عدم توافر اي حل للمشاكل الملحة التي يطرحها المجتمع الحديث. غير ان انتصار الاصولية قد تترتب عليه نتائج بعيدة، خارج المنطقة كما داخلها، كأن يستثير ردوداً حادة من الاديان الاخرى وبلدانها. واذ يشير لويس، هنا، الى دور معاملة الاقليات في اطلاق مثل هذا السيناريو، مذكّراً بتجربة الحروب الصليبية، يسجل ان الظافرية الدينية انتهت في العالم المسيحي، الا ان الظافرية في العالم الاسلامي قد تساهم في بعثها. فاذا بدا الآن بعض التهويل الغربي بالعداوة مع الاسلام كبديل عن العداوة مع السوفيات، مبالغاً فيه، فإن المبالغة يمكن ان تغدو واقعاً اذا ما استمر الوضع على تصعيده وتدهوره. واغلب الظن ان دفاع المستشرق البريطاني عن حجته هذه كان يستلزم العودة الى المجتمعات الغربية أكان لجهة موقع الدين فيها ام لجهة الممارسات العنصرية، كما يستلزم الاشارة الى بناء مجتمعات تعددية الثقافة وأثر ذلك على العلاقة ب "الضفة الاخرى للمتوسط". فالعلاقة بين طرفين كانت لتستوجب النظر الى الطرفين معاً، وهو ما يفعله لويس بامتياز اذ يتناول الاعاقة التي تسم علاقة الديموقراطيين بالديموقراطية، ومن ثم العملية الانتخابية، وهو ما يتحول نقطة قوة اخرى للاصوليين. ومع هذا فدائرته لا تلبث ان تعاود انغلاقها عند الجزم بأن الاصوليين "لا يتركون مجالاً للبس بأنهم حالما يصلون الى السلطة فانهم لن يغادروها". او على الاقل، شرع بعضهم يقول عكس ذلك مما يستدعي تقصياً من نوع آخر لدرجة التهافت في الزعم الديموقراطي للاصوليين. ولا يمك الا الاعتراف بأن التجربة الجزائرية، لسبب او لآخر، قدّمت حججاً ل "ديموقراطية" الاصوليين اكثر مما قدّمت ل "ديموقراطية" خصومهم الذين، هم ايضاً، اوغلوا في العنف الذي اوغل فيه الاوّلون، وحصره برنارد لويس بهم وحدهم! رغم ذلك فقوة الديموقراطيين، عند صاحب "التكهنات"، او لديهم برنامجاً، لكن المشكلة ان نقاط ضعفهم المذكورة اعلاه فورية النتائج، فيما لا تظهر سريعاً نتائج قوتهم. ويجزم لويس، مصيباً في اغلب الظن، بأن حالاً مسيحية ديموقراطية ليست في الافق، ولكن ما يستدعي الاضافة انه حين يقول شبّان "حزب الوسط" المصري انهم يحملون مثل هذا المشروع، لا يلقون الا الصدّ الرسمي. لقد كانت تركيا، في رأي لويس، المكان المؤمّل لظهور التسوية المرجوة بين الحرية والايمان، الا انه ما لبث ان تبيّن ان الحزب الاسلاموي الرفاه، الفضيلة اصولي، وان صحافة الحزب تكشف عن مواقف معادية للمسيحيين ولاسامية ومناوئة للغرب، وفي صورة اعم، مناهضة لليبرالية والحداثة. ثم ان الاصوليين اولئك متعاطفون مع عناصر اصولية متطرفة في ايران وبعض البلدان العربية، لكن خطرهم الاكبر يكمن في امتلاكهم السلاح. وهنا، ايضاً كان يمكن تعزيز نصف الحقيقة المذكور بالنصف الآخر المسكوت عنه والمتعلق بالجيش التركي والاعمال غير الديموقراطية التي أتاها، مثله في ذلك مثل زميله الجزائري. وعلى اية حال يلاحظ لويس انه فيما يحاول الجيش التركي مواجهة الاصوليين، ينشأ خطر جديد مفاده ان تتحول البلاد جزائر اخرى. وهذا ما يرشح الاضطراب المحتمل للتوسع شمالاً الى الدول التركية "السوفياتية سابقاً"، وجنوباً الى الدول العربية "العثمانية سابقاً". على ان الاحتمال غير مرجّح لأن الاتراك لديهم تقاليد دولة وتجربة فريدة في احداث التغيير الداخلي، وهم لا بد في لحظة ما ان يتداركوا احوالهم. لكن يبقى ان ما يحصل في تركيا سيكون حاسماً. فالانتصار الاصولي، في حال حصوله، يعني نهاية كل امل بديموقراطية اسلامية. وحتى لو قرّبتها الاصولية من ايران فان النزاع المذهبي لن يلبث ان يطغى وينتزع لنفسه اليد الطولى. وفي غضون ذلك يمضي الاصوليون في تقطيع الحناجر الجزائر وقتل السياح مصر، غير ان هذه الاعمال، ولشدة مخالفتها الاسلام، جعلت بعض المسلمين يتساءلون عن مدى اساءتها للاسلام. ومع تزايد عنفهم تتضاعف الشكوك بهم والنقد لهم. والصراع هذا لا ينحصر في العالم الاسلامي اذ يشمل اسرائيل ايضاً. وبالطبع فليس الدين هناك بالشيء الجديد، الا ان الجديد هو الايديولوجيا الدينية التي أحلّت انقسام: علمانيون - اصوليون محل الانقسام القديم: يسار - يمين. وبفعلها هذا رسمت خط قسمة سياسية سيجعل الحياة السياسية للدولة العبرية اقل اوروبية واكثر شرق اوسطية. ويسجل لويس ان انشاء الديموقراطية في اسرائيل كان بمثابة الاعجاز. فلا البلدان التي جاء منها المهاجرون اليهود عُرفت بتقاليدها الديموقراطية، ولا حال الحرب والاهمية التي تكتسبها مؤسسة الجيش بسبب الحرب، من العوامل المشجعة على الديموقراطية. واذا صحّ ان صعود الشرقنة حصل في موازاة تعاظُم حجم الشرقيين، فالصحيح، في رأي لويس، ان الصراع العربي - الاسرائيلي انما يتقرر بموجب صراع الديموقراطية - الاصولية، وهذا، بدوره، يتأثر بالاوضاع الاقتصادية. غير ان سلامة الربط بين هذين البُعدين تبقى في نطاق العمومية التي لا تغني عن التفاصيل، بل عن الاستثناءات احياناً، مما لا يتسع له الكرّاس الصغير. وعلى المدى المباشر، على الاقل، يمكن القول ان المسارين الديموقراطي والسلمي لم يجدا حتى اللحظة همزة الوصل المطلوبة بينهما، وكثيراً ما يبدوان متنافري النتائج. على ان الصراع العربي - الاسرائيلي ليس النزاع الوحيد المؤهل للانفجار حرباً. فهناك احتمالات اخرى بعضها متناسل منه وبعضها مستقل عنه. فهناك، مثلاً، نزاعات ضمرت الا انها قابلة للاستئناف، كأن تحاول سورية استعادة الجولان او ضم الاردن وفلسطين الكبرى اليها، او كأن ينشأ نزاع سوري - تركي على اسكندرون. ولئن قلّب لويس هذه السيناريوات بعيداً عن الجزم والتقرير، بقي احتمال عدوان جديد من صدام حسين على جيرانه ماثلاً، هو الذي نجح في سحق شعبه من دون ان ينجح الحصار الدولي في ردعه. واذا بدا الاردن ضحية لأي عمل محتملاً لأي عمل توسعي تقدم عليه الانظمة الراديكالية، فان صدام قد يوجّه ضربة كيماوية لاسرائيل تردّ عليها الاخيرة بما يفتح الباب لنزاع كبير. وقد يعود صدام دائماً الى ضحاياه المعهودين: ايران والكويت. فاذا بدا له توجيه الضربة الى جار عربي اسهل عسكرياً واصعب سياسياً نظراً لاحتمالات التدخل الدولي، فالعكس تماماً هو الحال مع توجيه الضربة الى ايران. والاخيرة، بدورها، مُعلقة خصوصاً انها تجمع الثروة النفطية الى امكانات تطوير الاسلحة الكيماوية وغير التقليدية. لكن ايران قد يتآكلها الاستبداد والديكتاتورية، ومن ثم ما يشلّ كل دور وفعالية لها. وهناك ايضاً المطامع الترابية التقليدية التي يتصدرها، في رأي المستشرق البريطاني، مطامع لسورية في لبنانوالاردن، وللعراق في الكويت، ولايران في البحرين والخليج وربما ايضاً في طاجيكستان الناطقة بالفارسية وفي افغانستان الغربية. وهناك نزاعات اخرى اصغر نطاقاً لكنها قابلة للتحريك والاثارة، يكمن مسرحها في الحدود المصرية - السودانية والمصرية - الليبية - التونسية. واذا ما فشلت التجربة الوحدوية السابقة، فان تجربة سورية ولبنان تُظهر ان "الخطر الحقيقي على بنى الدولة القائمة ليس الدمج بل التفسّخ". ولا يقع لويس المجرّب في سذاجة او دجل بعض المنزعجين من "تعميم النموذج اللبناني"، فيلاحظ ان الحروب بين الدول قد تكون خطراً اقل من خطر الحروب داخل الدول، وحرب لبنان الاهلية تبقى لديه المثل الذي يُحتذى Paradigm . اما المثل الآخر ففي البلدان المحاذية للشرق الاوسط والمشابهة له كيوغوسلافيا والصومال. وتدليلاً على ما يذهب اليه يسجل ان الحروب الاهلية السودانية كلفت من القتلى خمسة اضعاف ما كلفته الحروب العربية - الاسرائيلية جميعاً. وبالعودة الى لبنان يلاحظ ان ديموقراطيته اشتغلت بشكل مميز نسبياً، بل فريد عربياً، الا انها لم تتحمل تصدير مشاكل الشعوب الاخرى وتداخلاتها. وهنا، ايضاً، كان الحري التنبيه الى بعض الارتباط بين المشاكل المذكورة ومشاكل لبنان نفسه. وعلى اية حال فقد تفسّخ لبنان وحلّت هيمنة سورية وستبقى ما بقي النظام، الا ان هذه الاخيرة قد تجد نفسها مشغولة بهمومها الكبرى، كما قد يجد العراق نفسه امام امكانات تجزئة بما يجعل لبنان النموذج الذي يُحتذى للبلدين اللذين يحكمهما حزب البعث، وللمنطقة جميعاً. ولا يحول هذا دون تفاؤل نسبي بإمكان تماسك مصر والمغرب، وربما تونس واليمن، ولبنان اذا ما رحل السوريون. على ان مخاطر التفتت لا تقتصر على العرب وبلدانهم. فبفعل تنامي النزعات الاثنية والطائفية، وبالتالي مطالب تقرير المصير، تتململ الاقليات التي ربما كان الاكراد اهمها، وتتحرك. ولئن توقع لويس تحسن وضع الاكراد في تركيا "الديموقراطية" و"المتجهة الى الغرب"، وهو توقّع فيه نظر كثير، فانه لا يلبث ان يستدرك ان الاستقلال خارج النقاش تماماً، فيما التحسن منوط بمسائل الهوية الثقافية. اما اكراد ايرانوالعراق فالتوقعات، في ما يعنيهم، اسوأ. ذاك ان النظامين استبداديان، بينما البلدان تهددهما قوى نابذة للمركز، دينية واثنية. واذا كان حال العراق غنياً عن التعريف، فإن المناطق الحدودية لايران تشبه، اثنياً او مذهبياً او لغوياً، التجمعات المقيمة على الجانب الآخر من الحدود. وهنا ايضاً يلوّح لويس بالاحتمال اللبناني، الا انه لا يلبث ان يستدرك بأن ايران دولة ذات تقاليد، وفي وسعها، من ثم، ان تطلق قوى توازي قوى التفتيت وتعطّلها، معيدةً الى المركز معناه وصلابته على ما حصل في 1926 حين تراخت قبضة القاجاريين فظهر البهلويون. وفي تناوله الشق الاقتصادي يتوقع المؤرخ والمستشرق البريطاني ان تفضي التطورات العلمية والتقنية الى بدائل من الطاقة ارخص كلفة وانظف بيئياً من دون ان ترتب محاذير وتدخلات سياسية واستراتيجية. وفي الحال هذه لا بد ان يتراجع الاهتمام الغربي بالمنطقة الى سوية الاهتمام بالحروب الاهلية في الصومال وليبيريا. على ان الافق الافضل للشرق الاوسط، والذي به يردّ على البؤس المحتمل، يتمثل في "برنامج للتعاون والتنمية الاقليميين". لكن سجل المنطقة في السابق، وطبيعة معظم الحكّام الحاليين وعاداتهم تجعل الصراع المرير هو الاكثر ترجيحاً بكثير". وفي وضع كهذا فان البلدان التي تعلّمت كيف تعيش من دون ان تعتمد على طاقة قابلة للاستبدال، ستملك الكفّة الراجحة. ولئن سمّى في هذا الاطار تركيا والاردن واسرائيل وتونس والمغرب، مضى ملاحظاً ان "ارقام النمو في المداخيل والصادرات وايجاد فرص العمل والتسجيل في المدارس تتفاوت تفاوتاً عظيماً في المنطقة. وبسكانها الحسني التعليم نسبياً وصناعاتها للتقنية الرفيعة، يمكن لاسرائيل بسهولة ان تقود ]المنطقة[ تتلوها في ذلك تركيا. وهناك ايضاً مشكلة الماء التي يضاعف حدّتها تزايد السكان والحاجة الى تطوير الزراعة لاطعامهم، خصوصا ان الجبال والصحارى تشكّل نسبة مرتفعة من مساحة المنطقة. اما الانهار فتثير مشكلتين: تقنية، يمكن التغلب عليها بالسدود وانظمة الري، وسياسية صعبة التذليل. ذاك ان نهر الاردن الحيوي للاردن وفلسطين واسرائيل ينبع من سورية، فيما ينبع نهر الفرات، الحيوي لسورية وخصوصاً للعراق، من تركيا. وبدوره يمر النيل ببلدان عدة قبل ان يصل الى مصر. ثم ان ضغط التزايد السكاني الذي يفاقم مشكلة الماء يضيّق الخيارات. فالنفط يمكن استبداله، اما الماء فلا، ولهذا يمكن ان يتحول اهم مواضيع العلاقات الثنائية بين البلدان. واذا قدمت التقنية فرصاً جديدة، الا انها لا تلبث ان تضعنا امام السؤال نفسه الذي يطرحه الماء: صراع ام تعاون بين الدول؟ والحال ان الرصيد لم يكن جيداً حتى الآن. فمشاريع التزود بالماء التي عرضتها تركيا اعاقتها العداوات والظنون المتبادلة. وغني عن القول ان مشاريع التقطير مكلفة على دولة واحدة بذاتها، وانحصارها بدولة واحدة يجعلها اشد تعرضاً للنشاط الارهابي، هذا كله ما يزكي خيار التعاون. لكن اكثر ما يزكي الخيار هذا ان "عدد العرب الذي بلغ في 1996، 252 مليوناً، سوف يبلغ في 2000، 290 مليوناً، وهي نسبة نمو بمعدل 2.5 في المئة. وتبعاً لارقام قدمها وزير التجارة المصري، فان على العرب الآن ان يستوردوا اطعمة بقيمة 40 مليون دولار يومياً لاطعام شعوبهم. والآن يبلغ ما هو مستورد من الخارج 65 في المئة من متطلباتهم من الحبوب و74 في المئة من متطلباتهم السكرية و62 في المئة من متطلباتهم من زيوت الخضار". وفي حال تراجع قيمة النفط "فالمشكلة الكبرى ستكون توفير الصادرات التي بعائداتها تُسدد اثمان هذه الواردات". والارقام والمعطيات تجعل الصورة كالحة، فعلاً. فاليوم "لا يزيد مجموع الصادرات غير النفطية للعالم العربي معطوفة عليه ايران عن صادرات فنلندا. وفيما تصبح المنطقة اشد اعتماداً من اي وقت سابق على الواردات الغذائية، ستتعاظم الحاجة الى صادرات مُصنّعة. المشكلة المستمرة هي النقص في الاستثمار بسبب القيود التنظيمية بالاعباء التي ترتبها، ودرجة الخصخصة المتدنية، والبنية التحتية الهزيلة، وغالباً المتدهورة، والاسواق المالية غير النامية. لكن بدل جذب الاستثمار الخارجي الى المنطقة، فان كثيرين من اغنياء الشرق الاوسط يميلون الى استثمار الكثير من مالهم في امكنة اخرى. والنزاعات وعدم الاستقرار لا يمكنها الا ان تؤجج هذه الاتجاهات". وبحسب لويس، وتبعاً لمعاييره، يترجّح العالم العربي اقتصادياً بين "افضل" تجسده المغرب وتونسوالاردن، و"أسوأ" يمثله العراق وسورية المتورطان عميقاً في النزاعات، على ان التزايد السكاني يؤدي في المنطقة على عمومها، الى هجرة العمل نحو بلدان الاقتصادات المزدهرة في اوروبا، وربما اذا ما استكمل واتسع، نحو اسرائيل. وينبغي ان لا ننسى الدفوق المالية التي تتسبب بها المعونات الخارجية، لا سيما الاميركية، الى المنطقةت، كما تسبّب بها اموال الهجرات القديمة والجديدة. بيد ان الاصوليين، من ناحية اخرى، يستفيدون من هذه الدفوقات استفادتهم من اقامة بعضهم في بلدان اوروبا واميركا الشمالية واستفادتهم من اجواء الحرية المتاحة، وهي الوجهة التي بدأت بانتقال الخميني من العراق الى فرنسا. ويستخلص برنارد لويس ان عناصر ثلاثة يمكن ان يُناط بها تحويل الشرق الاوسط وعصرنته في القرن المقبل: اسرائيل وتركيا والنساء اللواتي يبقين اهم العناصر المذكورة. وعلى هذه الجبهة يُلحظ تقدم طفيف تسجله بيئات حديثة واوساط مهاجرة، كما يشق طريقه حتى الى ايران الخمينية، وفي المقابل تُلحظ حركة طالبان واعمالها حيال النساء. اما التأثير التركي، في رأيه، فسيكون كبيراً كائناً ما كان الاتجاه الذي تقرر انقرة ان تسلكه، لأن لديها تجربة سياسية واقتصاداً متطوراً ومجتمعاً متوازناً اكثر مما لدى العرب. وبالمعنى نفسه لا يمكن التقليل من اهمية النتائج التي ستترتب على العلاقات العربية - الاسرائيلية سواء اتخذت شكل التعاون في عالم ديموقراطي ام شكل العداء والتنازع. وعلى اي حال فالإلحاح على التعاون الاقليمي وعلى الديموقراطية المستبعدة للنزاعات يبقى مسألة حياة وموت. ذاك انه اذا ما نضب النفط، او تراجعت قيمته، او تم استبداله فان الاستثمارات الخارجية في الشرق الاوسط لا تزال متدنية جداً بحيث يستحيل التعويل عليها. فمجموع الاستثمار الاميركي الخاص فيه يعادل ثلث مثيله المستثمر في استراليا، وخمس المستثمر في اليابان، واقل من عُشر المُستثمر في كندا. واذا كانت اعمال عسكرية في حجم التدخل الاخير في الخليج لن تعود مُرجحة الحدوث، فان الرهان على مطامح الغرب الاستراتيجية لن يكفي لإعطاء المنطقة قيمة ومعنى. ذاك ان المطامح هذه انتهت، من حيث المبدأ، مع انتهاء الحرب الباردة، وما بقي من الانشغالات، كمكافحة الارهاب، اقل من ان يتسبّب بتورط كبير. وما يصحّ في اميركا يصحّ في اوروبا التي بيّنت تجربتا البوسنة وقبرص وهما اوربيتان، حدود رغبتها وقدرتها. ويمكن لروسيا ان تؤثر في المنطقة بعد استقرارها على حال، وهو ما ينطبق على الصين والهند، خصوصاً ان البلدان الثلاثة، تنطوي، بتفاوت، على عنصر اسلامي اما في داخلها او في جوارها. فهل تقع المنطقة، في تحاربها وتمزقها، تحت سيطرة هذه او تلك من القوى الآسيوية الجديدة، ام انها تستعيد "عظمتها" بالديموقراطية والتعاون الاقليمي؟ والراهن ان الحجم الصغير للكرّاس ربما ساهم في التعتيم على مسائل كان ينبغي لها ان تحظى بالتفات اكبر. على انه، تغيب كل اشارة الى تاريخية بلد كمصر، فيما يتم اختزال بعض التعقيدات التاريخية اراضٍِ، حقوق، نزاعات الخ… في ثنائية الديموقراطية - الاصولية التي تبتلع قضايا كثيرة ليس النزاع العربي - الاسرائيلي الا احداها. ثم هناك الحدود التي وضعها لويس على راديكاليته الديموقراطية، والتي ربما وجدت مصدرها في نظرته التاريخية وما انبنى عليها من ميل الى استبعاد الحلول الداخلية. وواقع السنوات الماضية يعلمنا ان النقائض الاصولية و"الديموقراطية" انما تغرف من بحر الاستبداد نفسه، والذي يُعدّ لويس احد افضل اساتذتنا بما كتبوه عن ثقافته ولغته وتاريخ تشكّله. فالعسكر التركي او الجزائري او… لا يصير افضل حالاً من الاصوليين لمجرد انه ضد الاصولية. وبالمعنى نفسه لا يغدو الاصوليون اسوأ منه لمجرد انهم اصوليون. وهذا بدل ان يحلّ المشكلة، مشكلة البحث عن ديناميّات للتطور الداخلي، ربما كان يعاود طرحها… وبجرعة من التشاؤم اكبر. * كاتب ومعلّق لبناني.