يمكن اعتبار الاشتغال على البلاغة السينمائية درساً جديداً في المشهد النقدي المغربي. ذلك على الأقل ما يشف عنه رصيد الدراسات المتواترة في هذا الصدد، ونوعية المشتغلين على إشكالاته، فجل النقاد السينمائيين المغاربة قدموا من اختصاصات معرفية بعيدة عن"السينما"، هي في الغالب الأعم: الفلسفة، أو العلوم الاجتماعية، ثم بدرجة أقل الجماليات والنقد الأدبي، ذلك ما نلمسه في أسماء مثل: عبدالله العروي ونور الدين الصايل، ومصطفى المسناوي ونور الدين أفاية...، ثم بعد ذلك وبنحو أكثر التصاقاً بالنقد الأدبي في كتابات فريد الزاهي وحمادي كيروم وعبداللطيف البازي... بيد أن فتوة هذا الخطاب، ونبوعه من مصادر معرفية متنوعة، أكسباه قدرة فائقة على الانفتاح على أسئلة جمالية أكثر رحابة. من هنا يمكن فهم ذلك الإلحاح البارز في عنوان كتاب"صور تضيء بعض عتمة هذا الكون"منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2006 للناقد السينمائي المغربي عبداللطيف البازي على نورانية الصور السينمائية، بصفتها أفقاً للتعبير المتعدد، القادر على فتنة الحواس، وتبديد سوداوية المحيط، سواء في المعنى الحسي، الذي تنبعث فيه الصفحات الحياتية"المشخصة"من سديم الظلمة، لتورق على الشاشة البيضاء. أو في المغزى الجمالي الذي تروي فيه الصور الفيلمية ظمأ الكائن إلى"المحتمل"الإنساني وقد جللته الأخيلة ببهاء التناسب اللوني والضوئي والإيقاعي. والحق أن كتا ب"صور تضيء بعض عتمة هذا الكون"يشكل عبر مختلف فقراته وفصوله مرام الكاتب إلى تجسيد تلك الغايات الصورية عبر لغة لا تعدم قدرة التصادي مع محمولها الجمالي، وذلك من خلال اختيار تحليلي يتوخى الإمتاع في الترسل، والوضوح في القصد، والمباشرة في التبيين. وهي القيم الكلامية التي تجعل الكتاب ينطوي على سمة الجدل بين سجايا الخطاب وموضوعه، وتمنحه طرافة جلية في صيغته التعبيرية، وسنده النظري والمفهومي بصدد معيار الصورة السينمائية. وبداية يجدر التنويه بأن المتن النقدي المقترح في هذا الإصدار، يمكن تصنيفه ضمن تصانيف المقالات، حيث انتخب فيه الناقد دراسات مرتبطة إشكاليا، من جهة اختصاصها بجنس السينما، ومتواشجة من جهة تعلقها بمرام الكشف عن الأثر السحري للتخييل البصري. كما أنها مقالات تتسم بانتهاجها - في الغالب الأعم - خطة المقارنة بين تجربتين أو أكثر. فضلاً عن أنها -جميعاً - تمزج بين مأربي التحليل والتأويل، مع هامش واسع للصوت الذاتي، الذي يحوِّل تجربة القراءة حيزاً مثالياً لتضمين الرؤى الفنية والقيم الفكرية والقناعات الثقافية، عبر استثمار صاحبها رصيد قراءاته المتنوعة في إضاءة المغزى المرصود، بصدد لقطة أو مشهد، أو موقف، أو أداء تمثيلي. يتناول الكتاب عبر مقالاته السبعة، ثمانية أفلام مغربية، وتسعة أفلام أجنبية ينتمي مخرجوها إلى بلدان وثقافات مختلفة تونس وإيران وفرنسا وإسبانيا وأميركا، وتراوح الأفلام المختارة، من حيث صيغها التعبيرية، بين السينما الروائية والتسجيلية، وتتوزع نوعية خطاباتها الفنية بين الواقعي والتاريخي والشاعري والهزلي والواقعي الساخر والتغريبي. وهي مختلفة في الآن ذاته، من حيث بنياتها السردية، ما بين المتون الطويلة والقصيرة، ومن حيث خطابها التمثيلي، ما بين الارتكاز على نصوص أدبية كبرى كپ"إسم الوردة"للإيطالي أمبرتو إيكو، والميلودرامات الاجتماعية الخفيفة الموجهة للجمهور الواسع من مثل"البحث عن زوج امرأتي"للمغربي محمد عبد الرحمان التازي. بهذه الكيفية يلملم الناقد في حيز محدود أهم الإشكالات الجمالية، والظواهر التعبيرية، والسمات التصويرية، في الفن السينمائي، واضعاً القارئ أمام مشهد رمزي، مكثف الإيحاءات، وبالغ الثراء، لما يمكن أن تنطوي عليه صنعة الصورة وغوايتها. وإن كان لنا أن نضع للكتاب سمة فارقة، تختزل منهجه، فلن تعدو سمة"المتعة"ففضلاً عن الوقفات التأملية الكثيرة التي تنضح بها المقدمة بصدد هذا الوازع، فإن مفاصل المقالات تنضح بخطط الكشف عن سر البهجة التي تستبطنها الأعمال المقترحة للفرجة. وكأنما الناقد ينوب عن الجمهور الصامت، القانع بحبوره الغامض، في تفسير ما لا يبدو إلا كأطياف قزحية هاربة، ماتحاً منها معنى كلياً هادياً، يسعف في تلمس مكامن الدهشة الأثيلة. وقد يكون هذا المعنى ثاوياً في مفهوم"الصمت"أو"الكبرياء"أو"الألم"أو"العناد"أو"اللعنة"أو غيرها من الدوال الرؤيوية، التي تختزل الأثر الصوري، وتهدي المشاهد في تتبع أصدائه داخل الاسترسال الآسر للقطات والحوارات والصور الصامتة والحركية... لذا يمكن تفهم مسعى الناقد إلى التخفف، لأكبر قدر ممكن، من التأويلات التجريدية، بقدر زهده في المداخل النظرية الموغلة في التعمية، واختياره أن يكون مفتاح القراءة جزءاً من الأثر الذهني لدى المشاهد. ومن ثم تضحي مهمة الناقد المختارة - بمحبة وتعاطف كبيرين مع هذا المشاهد - وضع يده على تفصيلات القيمة الصورية الهاربة، التي تساهم في ترسيخها مكونات التخييل السينمائي المحبوك: من إضاءة وخلفية وموسيقى وإطار وزاوية نظر... يقول الناقد في إحدى الفقرات:"الاستمتاع في تصورنا هو رديف للإحساس العميق بالحرية وعتبة مركزية للانطلاق نحو ما هو غامض وسحري، لذا فإن هذه الدراسات تعتبر نفسها متبنية نقداً حراً ورحباً ومنحازاً إلى قيم الجمال والتسامي والحوار"ص 6. من هنا يتضح أن مسألة الاستمتاع في الكتاب لا تفصح عن نفسها بصفتها مجرد حافز، يكفي الناقد مغبة الخوض في المستويات المركبة للصورة السينمائية، ومرجعياتها المعرفية المختلفة. وإنما هو قناعة ومعيار منهجيان، لا يخلوان من متاعب، هي أجل شأناً من البحث في المرجعيات الثقافية للفيلم المغربي أو التونسي أو الإيراني أو الأميركي... والانشغال بخطابه الأخلاقي والسياسي والإيديولوجي. أو الانصراف الكلي - في المقابل - إلى إنتاج خطاب مسرف في شكلانيته، يفصل البلاغة السينمائية الشفيفة عن وجيب الحياة. ولذا كانت صبغة الكتابة التي يقترحها"البازي"بصدد فن السينما وطيدة الصلة بمفاهيم"الجمال"وپ"الحرية"وپ"الشغف الإنساني"، بقدر التحامها الشديد بقيم البلاغة المرئية وسحر التمثيل الصوري، وهي الدوال التي تكسب كتاب"صور تضيء بعض عتمة هذا الكون"صفة الانتماء إلى صيغة"الوساطة الذكية"الواعية بحدودها ومقاصدها، القانعة بأن تكون:"من النوع الخفي ولا تتورط في متاهات التنظير والتجريد"ص 5. هكذا يسترسل الكتاب من مفتتحه إلى آخر صفحاته على هذه الوتيرة من التعبير الواضح الذي يضع القارئ أمام المقومات المركزية لجمالية العمل الفني، والعلل التي تجعل من تلك المقومات صوى ناجحة لإقناعه. ولهذا السبب كانت اللغة النقدية الدارجة في مختلف المقالات، تستند إلى العبارة القصيرة المركزة، التي تحتفي بالبساطة، وتستمد وهجها من إحالاتها المستمرة على الحياة وأحوال الناس. وأنا أعيد قراءة هذا الكتاب مرات عدة، استحضرت في حمأة استقرائي لسمات الطرافة والمتعة في ثنايا فصوله وفقراته، تلك السياحة الطويلة التي قضاها صاحبه بين أجناس أدبية مختلفة الوسائط ما بين المرئي والمكتوب: من شعر ورواية وقصة قصيرة ومسرح وفنون تشكيلية، قبل أن يستكين إلى مجال الإبداع السينمائي، حيث يبدو أثر تلك السياحة غائراً في ملامح الكلمات وسمت الأعمال والوجوه والصور التي ينتقيها في كتاباته عن الفن السابع، كما يتجلى ذلك الأثر في ذاكرة اللغة وفي القيمة المضافة التي تلتبس بمواضيع كتاباته، مانحة إياها بهاء آخر وينضاف إلى بهائها الأصلي.