القاموس العربي مدين للدكتور كلوفيس مقصود بابتكار كلمة أضيفت الى مصطلحات اللغة الصحافية المتداولة. والكلمة هي Escalation التي استخدمتها الصحافة الأميركية خلال أزمة الصواريخ في كوبا بهدف تصوير الوضع الخطر الذي نشأ عن القرار الذي اتخذه الرئيس جون كينيدي سنة 1961. أي أزمة محاصرة كوبا وتهديد موسكو بحرب نووية. وربما كانت تلك أول مرة تستخدم فيها كلمة"تصعيد"بعد اختراع السلم الكهربائي الذي ينقل الناس صعوداً على نحو متواصل. ووصفت الصحف الأميركية تلك الحال ب Escalation مشيرة الى القرار العسكري الذي اتخذه كينيدي على اعتبار أنه من السهل الصعود فوق السلم الكهربائي ولكنه من الصعب النزول عليه. وفي مقالته عن تلك الأزمة استعمل كلوفيس مقصود كلمة"تصعيد"مضيفاً الى قاموس اللغة الصحافية ترجمة لوضع يتحرك صعوداً. ومعنى هذا ان القرار العسكري باعلان الحرب، هو آخر قرار يأتي بعد استنفاد كل الخيارات السياسية القابلة للصعود والهبوط فوق سلم الديبلوماسية الخشبي! عقب اعلان السيد حسن نصرالله عن حملة الاعتصام في شوارع بيروت، وصفت وسائل الاعلام قراره ب"التصعيد"لأنه لم يعد بإمكانه النزول على"سلم"الأزمة إلا بعد إنزال فؤاد السنيورة عن كرسي رئاسة الحكومة. لهذا السبب استنفر أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى كل الوسطاء المؤثرين لعله ينجح في زحزحة الموقف المتصلب الذي أعلنه أمين عام"حزب الله". وساعده في محاولة تحقيق هذه المهمة الصعبة الموفد السوداني مصطفى عثمان اسماعيل الذي باشر وسطاته بالوقوف على آراء كل المعنيين بالأزمة اللبنانية بمن فيهم الرئيس بشار الاسد والوزير وليد المعلم. وقد حصل على الضوء الأخضر من مختلف الزعامات السياسية والروحية التي دعمت مبادرته مشترطة أن يجيء الحل مرضياً ومقنعاً ومنسجماً مع شعار"لا غالب ولا مغلوب". ويبدو ان البطريرك الماروني نصرالله صفير حاول تنفيس الاحتقان السياسي عن طريق نصح الرئيس اميل لحود بضرورة التنحي. وتمنى عليه في رسالة حملها أحد المطارنة، بأن يقلد سلفه الرئيس بشاره الخوري الذي استقال سنة 1952 لتفادي نزاعات داخلية كانت تؤججها الاضرابات المتواصلة. وربما تصور سيد بكركي ان استقالة الرئيس ستفسح المجال لتغيير تشكيلة الحكومة بما يرضي المعارضة ويقنعها بالمشاركة في حكومة جديدة تمثل الوحدة الوطنية. ولكنه فوجئ ببيان وزعه المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية يكرر ما قاله السيد حسن نصرالله من أن حكومة السنيورة فاقدة للشرعية بسبب افتقار قراراتها الى الدعم الوطني. ووصفها بأنها حكومة املاءات خارجية لكونها تمثل سياسة اميركا وفرنسا في لبنان. الوزير مروان حماده أيّد الطرح القائل إن موضوع رئاسة الجمهورية يجب بحثه بالتزامن مع موضوع رئاسة الحكومة. واعتبر ان هذا الحل يبعد الأزمة عن المقصلة السورية - الايرانية التي تتحكم بقرارات رئيس الجمهورية. كذلك رأى الدكتور سمير جعجع أن الحل يبدأ بانتخابات رئاسية مقابل تحقيق مطلب حكومة الوحدة الوطنية. في أول يوم شهدته حملة الاعتصامات، لاحظ اللبنانيون أن منصة الخطابة خُصصت للعماد ميشال عون فقط. والسبب أن السيد حسن نصرالله أراد منح رئيس"تكتل الاصلاح والتغيير"دوراً استعراضياً ملفتاً في معركة إسقاط حكومة السنيورة. في حين رأى خصوم عون أن"حزب الله"أراد تعويم شعبية زعيم"التيار الوطني الحر"بعد تعرضه لخسارة ملحوظة في الشارع المسيحي. لذلك تركه يتحدث الى"شعب لبنان العظيم"بلغة الثمانينات يوم استمال هذا الكلام المغري مشاعر النجوم سعيد عقل وعدداً كبيراً من المتبرعات بحليهن وعقودهن الذهبية من أجل دعم حملة الجنرال. وفي هذا السياق حاول"حزب الله"تحييد دور البطريرك صفير ومجمع مطارنة الموارنة، وذلك عن طريق استئناف الحوار مع بكركي بواسطة محمد رعد وحسن فضل الله وغالب أبو زينب. وكان الهدف من وراء زيارة البطريرك تطمين المسيحيين الى أن السيد حسن نصرالله لا يريد نقل نظام الملالي الايراني الى لبنان، وانما يسعى الى تثبيت نظام ديموقراطي توافقي انطلاقاً من مبدأ الشراكة في الحكم لا من مبدأ الاستئثار بالحكم. قال عمرو موسى ان وساطته ترمي الى صوغ اتفاق فوق أرضية مشتركة بين القوى المختلفة على تفسير الثوابت، وعلى مدى تعاون كل فريق من أجل وقف التصعيد واستعمال لغة التهديد. ويرى نواب"حزب الله"أن الخطأ الكبير الذي يرتكبه فؤاد السنيورة يكمن في حصر اهتمامه بإنقاذ حكومته لا بإنقاذ الوطن. وهم يطالبونه بإظهار استعداده للتعايش السياسي مع خصومه الممثلين بحسن نصرالله وميشال عون وسليمان فرنجية وطلال ارسلان. وفي تصور هذا الفريق أن براعة رئيس الحكومة لا تقاس بقدرته على الثبات والصمود، بل بقدرته على اخراج الوطن من المزالق التي انتجها القرار 1701. وفي لقاءات التشاور مع أمين عام الجامعة العربية، نبهه نواب"حزب الله"الى اختلاف الحلول وعدم الانسجام بين جماعة 14 آذار. ذلك أن"أجندة"سعد الحريري تهتم بتشكيل المحكمة الدولية، في حين تهدف"أجندة"وليد جنبلاط الى إسقاط رئيس الجمهورية لكونه يمثل استمرار الهيمنة السورية على المفاصل السياسية في البلاد. وهكذا اكتشف عمرو موسى ومصطفى اسماعيل ان الأزمة الحقيقية في لبنان تتعدى مسألة النزاع على الحكم لتصل الى حدود الصراع الاقليمي بين ممثلي إرادة ايران وسورية وممثلي إرادة الولاياتالمتحدة وفرنسا. وهذا ما شجع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي على القول إن المطلوب من عمرو موسى معالجة الأزمة وترويضها الى حين نضوج الحلين الاقليمي والدولي. وهو يرى ان مفتاحي الاستقرار في لبنان تحتفظ بهما قوى عدة مثل ايران والسعودية وسورية ومصر والولاياتالمتحدة وفرنسا وربما روسيا والصين. وكما يتطلب فتح صندوق خزنة الفندق أو المصرف إدخال المفتاحين معاً، كذلك تحتاج الأزمة اللبنانية الى المفتاحين الاقليمي والدولي، تماماً مثلما جرى لإنهاء أحداث 1958، أو مثلما حدث للتوصل الى اتفاق الطائف. هذا كله يطرح اسئلة مختلفة حول توقيت التغيير الجذري في موازين القوى الاقليمية والدولية، خصوصاً ان هذه الموازين باتت تنتظر تنفيذ توصيات لجنة بيكر - هاملتون وإعلان الرئيس جورج بوش موقفه منها. الثابت ان الرئيس الأميركي أرجأ موعد إعلان استراتيجيته الجديدة بشأن العراقولبنان وافغانستان والدولة الفلسطينية الى مطلع السنة الجديدة. ويبدو أنه اعتمد على العراقيين أنفسهم لنسف التوصيات بحيث يستغل الاعتراضات للتشبث بسياسته السابقة. وهذا ما دفعه الى تأجيل قراره بانتظار صدور مواقف الرفض التي دشنها جلال طالباني وطارق الهاشمي ومسعود بارزاني وعبدالعزيز الحكيم. وحجتهم أن التوصيات تلغي سيادة العراقيين على بلدهم وتمنح ايران وسورية حق الهيمنة على مصير العراق بطريقة لا تختلف عن الطريقة التي وهب بها جيمس بيكر لبنان الى سورية في حرب الخليج الثانية. وهذا ما دفع كوندوليزا رايس الى القول إن لبنان لن يكون موضع مقايضة في الحلول المطروحة تجاه مستقبل العراق. أثناء زيارته الأخيرة الى واشنطن حذر عمرو موسى من خطورة الوضع في المنطقة نتيجة الأحداث الجارية في لبنانوالعراق والجمود الحاصل في القضية الفلسطينية. وقال موسى للوزيرة رايس، ان الوضع العام في الشرق الأوسط يتعرض لخطر الانهيار اذا استمر اقتتال الشيعة والسنة والأكراد في العراق... أو اذا تحول لبنان الى ساحة صراع اقليمي ودولي. وقبل أن يعود موسى الى المنطقة سبقته أحداث العنف بين الفلسطينيين، الأمر الذي اضطر رئيس الوزراء اسماعيل هنية الى اختصار جولته والرجوع الى غزة. وتشير المعلومات التي تتحدث عن خطر الفلتان الأمني بين"حماس"وحركة"فتح"الى ظهور مشروع فتنة فلسطينية - فلسطينية، أين منها مشاريع الفتن في العراقولبنان. وهذا ما يقتضي وجود أمين عام الجامعة العربية في أكثر من مكان للقيام بوظيفة مرمم الانهيارات ومعالج الأزمات. وقد صدمته في لبنان الطروحات المتناقضة بين المطالبين بإجراء انتخابات نيابية مبكرة والمطالبين بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة... بين الداعين الى تكليف لجنة قانونية مشتركة لدراسة مسودة المحكمة الدولية وبين القائلين بتشكيل حكومة اتحاد وطني تشرف على تطبيق الخطوات المتفق عليها. وأمام هذه الخيارات المتناقضة يقف عمرو موسى حائراً لأن كل فريق يستند الى منطق معقول وحل مقبول. وهذا ما يجعل الأزمة اللبنانية في نظره، مشكلة معقدة أصعب من تربيع الدائرة! * كاتب وصحافي لبناني