زهرة النرجس تطوف حول البحر - 1 - مقابر حرب العلمين: رومل - مونتغمري لمونتغمري ورومل، اليوم، في الاسكندرية سريرٌ واحدٌ اسمه الموت. ولهما وطنٌ واحدٌ اسمه التاريخ. - 2 - تمثال بطليموس الأول تسأل الاسكندرية عن سيرابيس، ذلك النرجس الآخر الذي غرق في بحيرة من دمع بطليموس الأول، وكان يحاول أن يخرج من نفسه لكي لا يعشق إلا نفسه. بعد أن غرق، أخذت زهرة النرجس تطوف حول البحر، لابسة ثياب الحداد، وكانت بيضاء، هذه المرة. - 3 - سراديب الموتى في حي الأنفوشي هنا، في هذه السراديب، يلتقي الفراعنة واليونانيون في اللغة الفنية. في هذا اللقاء نشهد كيف"يموت الموت"، كما يعبّر المتنبي. وكنت، فيما أتجه الى حي الأنفوشي، أردد هذه الحكمة:"لا تبدأ أمراً تجهل كيف تُنهيه"- أرددها دون أن أعرف السبب، عارفاً أنها نقيض للشعر. فالشاعر يبدأ قصيدة من دون أن يعرف كيف يُنهيها. وخُيّل إليّ كأنني أرى شبح كليوباطرة، وأنني سمعت صوتاً طالعاً من جهته يقول:"للغامض، وحده، أُسلم جسدي"، وصوتاً آخر يقول:"ما أشقى وضوحك، أيها الموت". - 4 - ميدان عرابي، مرة ثانية ليس لي ما أقصّه على أحمد عرابي، في ميدانه، إلا الثورات العربية الكثيرة التي فتحت أفراناً لا تعرف الخبز. وقد ترددت كثيراً في أن أستجيب لرغبته وأنقل إحدى رسائله الأخيرة:"أيها الفلسطينيون، العرب كلهم يقولون لمك بصوت واحد: "طاب نومكم في أحضان الشظايا". - 5 - سهرة المرأة الكتاب، والأنوثة الكتابة. للنجوم أحصنة من الغيم الأبيض الموشح بالرمادي. اتركوا النساء يرسمن دروب شهواتهن، واتركوا الرجال لاقتفاء الرسوم. حلبة الرقص تفتح أحضانها. إفتحي ذراعيك، أيتها العاشقة. كواكب لا هوية لها تتلألأ فيكِ. أحضنها، أيها السهر، واعزفها. التراب، هذه اللحظة، يطارد السماء. - 6 - المرفأ الشرقي مراكب خاشعة كأنها تُصلّي. "شوّشنا البحر"، يقول المصلّون. وثمة ريح تبدو كأن لها ذاكرة تقتل فيها القدرة حتى على تحريك الغيم. كأن الفضاء مُقعد ومرضوض. كأن للشمس جسداً ناحلاً يكاد أن ينهدم. - 7 - المرفأ الغربي ملائكة يلبسون الغيم، سائرين على الماء. أو هكذا شُبِّه لي. في المرفأ مرفأ آخر تُرسي فيه مراكب الفتوحات. "أنا عسل هذه المراكب"، يقول صوت غامض. - 8 - سوق العطارين، مرة ثانية - ماذا يفعل هؤلاء العطارون؟ - يبتكرون مزامير ونايات لنساء لا يُسمح بالنظر إلا الى أقدامهن. ناطحات سحاب من الكمّون والفلفل والقرفة وعجائب البهارات. مشهدٌ كان سيُعجب أبا العباس المرسي وصديقه النبي دانيال. "تذوقوا عندنا، هنا، الآن، سندويشاً كونياً". الخرشوف؟ نعم. الهليون؟ بعد. الجوز اللوز الموز. "أَصغوا إلى أصوات التاريخ"، يقول شيخ يرفض إلا أن يتحدث حديث الشباب: "الجنس في الرأس، لا بين الفخذين. "اليقين أفضلُ الثياب، والحلم أجمل الأسرّة. "عودوا الى السلف الصالح، تصحّوا". شطحٌ يرتطم بجدران الفراغ. - 9 - رسالة "... لم يكن بين حاضركِ وحاضري أي جسر، فبأي سرّ التقينا؟ وكيف حدث أن يكون لجسدينا كلامٌ واحدٌ، مع أن لكل منّا لغته المختلفة؟ وكيف صح في لقائنا أن تكون الرياح لنا، هي ليست ملكنا؟ وها نحن اليوم: شفاهنا ليست سُلّماً موسيقياً، وقبلاتنا ليست أنغاماً - فمن أين لدمي ودمك رقصهما الواحد؟ قولي لجسدك: "أنتَ البحيرة المفردة لمائنا المثنى". - 10 - تمثال الاسكندر الكبير لم يبق له على الأرض إلا الظلال. بين الكواكب، تتنقل جذوره الآن. - 11 - جامع إبراهيم باشا يدي، كيف"يستوي الرحمن على العرش؟"بأية كلمات يُوصف كرسيّه؟ ما حجمه؟ مال لونه؟ وهل صُنع باليد، أم بالإرادة؟ -"لا مفرّ لكم، في المستقبل، من أن تضعوا السيف والعُنق في سلة واحدة، وألاّ تُفرقوا بين المهد واللحد". - 12 - المعمورة - الهدهد هدهدٌ، جارٌ ليوسف زيدان - صديقنا جمال الغيطاني، وأنا. هدهدٌ - مُحلل نفسي يُصغي الى حديث امرأة تتشبه ببلقيس، غير أنها ترفض أن تقابل سليمان. رفع منقاره الجميل في اتجاه السماء، وحاول أن يستوضح النجوم. كانت مطوّقة بملائكة من القطن. يضع الكون بيوضه الالكترونية في أحداقهم التي تختبئ وراء القطن. وحده، ديك المعنى يستطيع أن يدخل الى تلك المخابئ ويصيح فيها. كان يوسف زيدان يجلس هانئاً في عربة المخيلة، منجذباً الى قطب أنثوي. لم يشأ هذا القطب أن يكشف سره إلا لجمال الغيطاني وأولئك الذين قُدَّت قمصانهم من جميع الجهات. - 13 - كورنيش الاسكندرية أستيقظ. أنظر الى البحر بعيني فجر أزرق. يحضر في خاطري سيد درويش كمثل نورس هائم. تحضر كليوباطرة كمثل غيمة تكاد أن تمطر. تحضر هِيبَّاتيا كمثل شعاع لا تفارقه أمه الشمس. ولا أعرف كيف يختلط ما أراه بما لا أراه. النهار، على كورنيش الاسكندرية، يقفز من نوافذ العمارات، فيما يعلو صخب المارة كمثل مادة سائلة تنصهر فيها الألسنة والأقدام، السيارات وعربات الخيل. شُرطي هنا، هنالك يسهر على السير، كما لو أنه يأخذ بيدَي طفلة ضيّعت طريقها الى المدرسة. كلا، ليس للنهار على كورنيش الاسكندرية صديقٌ غير الليل. عيناي الآن تطوفان في فضاء الكورنيش، كما لو أنه حياتي نفسها، لابسة آخر الثياب التي نسجتها مخيلتي. مساء، سأهمس في سمع هذا الفضاء أن جسدي سيظل طويلاً طويلاً يتموّج بين ذراعيه. - 14 - السّلاملِك ألديك ما تقولينه الآن، أيتها الصور الملكية التي تتلألأ بها الجدران؟ صمتك أكثر علواً من جميع الأصوات الأكثر علواً. الحصاد قليل قليل، والحقول جرداء جرداء. لكن، يمكنك أن تتخيلي صوراً أخرى فيك: نساءٌ يقطّرن كلام الأرض بين أثدائهن، ويسِرن محفوفات بكتب خفية، الشمس نفسها، تبدو في غيابهن كأنها تكاد أن تصدأ. غيّري أمكنتك، إن شئت. المائدة رحبة، وفي القلب مكان يسع السماوات والأرض. وأنتم، أيها العابرون، اسمعوا أنين الصورة، فيما تخرجون من السلاملِك، وأصغوا الى هدير المعنى. - 15 - كليوباطرة، أيضاً وأيضاً عرفت كليوباطرة ست نساء قبلها حملن اسمها، كيف تنقح نقطة الوصل بين الحضور والغيب وبين الذكورة والأنوثة، الملكة الأخت الأم العشيقة: ماء الأبدية يمتزج برضابها، برضابها كذلك تتبرّك سرّة الفلك. كليوباطرة، هل قلت للشهوات ان تحمل، هذه الليلة، زهورها الى فراشك؟ لكن، متى تعودين من هذه الهجرة إليهم - أولئك الذين لم يعودوا يملكون حتى دموعهم؟ كليوباطرة - ألفظ هذا الاسم، وأرى ناراً تنبجس منه، ناراً تلتهم السماء كأنها قبة من القش. ثم أسألها: كليوباطرة، متى ستصبح الأرض مثلك سماء نفسها؟ - 16 - متحف كافافيس الكون لغة في الفن. العالم صَدَفَةٌ لؤلؤتها الشعر. من أي منجم تجيئين، أيتها الحياة؟ أسأل، وأجيب: كلا، لا يموت إلا الموت.