لا يخطئ المراقب السياسي لملف الاصلاحات في المنطقة العربية، حين يعتبر أن قوة حضور مفردات الاصلاح عند الجانب الرسمي العربي، والتزامه في هذا الصدد بالحد الأدنى من التعاطي السياسي المنفتح مع الشعوب، هو رهن بالصراع الحاصل الآن في أروقة الإدارة الأميركية بين مختلف الأجنحة السياسية فيها، إذ يتجسد هذا الصراع بعد التطورات الحاصلة في المنطقة العربية، وتحديداً في العراقولبنان في مقولتين أساسيتين: المقولة الأولى: وهي التي تعتبر ملف الأمن في الداخل الأميركي هو المدخل للاصلاحات والديموقراطية في الدول العربية، عبر ضرب كل بنى الارهاب في الدول العربية التي تعتقد الإدارة الأميركية أنها تهدد أمنها الداخلي. المقولة الثانية: وهي التي تعتبر أن اشاعة الديموقراطية وحقوق الانسان في الدول العربية هي الطريق الوحيد للقضاء على التطرف في هذه البلدان، وتجفيف منابع الارهاب فيها، وبالتالي: تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الأميركي. وبالنظر الى هاتين المقولتين: فإنهما على مستوى نجاعة الخيارات وقدرتهما على اشاعة روح الديموقراطية والاصلاحات في المنطقة العربية لا تمثلان خياراً استراتيجياً بالنسبة الى شعوب المنطقة، لأن كلا الخيارين مرتبطان بمصالح استراتيجية للإدارة الأميركية لا تستطيع أية قوى سياسية شعبية الإيفاء بها ما لم تتخل عن مشروعها الوطني المستقل. أما على مستوى الترجيح فإن كل القوى السياسية الشعبية في المنطقة العربية تفضل الخيار الثاني الذي يعتبر اشاعة الديموقراطية مدخلاً لإشاعة الأمن السياسي والاستقرار في المنطقة العربية وعند الدول الكبرى أيضاً، ومن بينها الولاياتالمتحدة، فضلاً عن كون هذا الخيار يعطي للقوى السياسية الشعبية الفسحة الكافية لإتمام مشروع سياسي وطني مستقل، انطلاقاً من وحدة المعايير الاصلاحية التي تفرضها العملية الديموقراطية ومفرداتها، والسعي الدائم الى تقنينها وتحديدها بما يضيق على الأنظمة الحالية خيار التفلت منها. أما الأنظمة العربية، فهي ترى أن خفوت مصالح الديموقراطية على لسان الساسة في الإدارة الأميركية حالياً، واعتمادهم المقولة الأولى كأساس للسياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط هو الخيار الأمثل للتفلت من الكثير من الالتزامات، خصوصاً في ظل الحروب التقويضية الكبيرة التي تقودها الإدارة الأميركية كجزء من عملية جراحية واسعة وعميقة للوصول الى الديموقراطية الأميركية المنشودة باستخدام أداة الأمن أولاً وأخيراً. بعد هذه الخلاصات الضرورية في فهم مسارات الاصلاح في المنطقة العربية، يمكن القول ان الإدارة الأميركية لم تعد متحمسة لمشروع الاصلاح في المنطقة العربية، وتمثل تجربة العراق وتجربة لبنان بالنسبة لها تجربتين صادمتين، فتجربة العراق أفرزت أكثرية حاكمة لا تتناسب مع مشاريعها وأجندتها السياسية في المنطقة، أما تجربة لبنان، فأفرزت أكثرية مدعومة منها، ولكنها غير قادرة على تحقيق أجندتها السياسية، ما يعني أن الخيار المرجح الآن داخل أروقة الإدارة الأميركية هو خيار الأمن في مقابل خيار إشاعة الديموقراطية، وبمقدار ما يؤسس لحروب تقويضية أميركية قادمة، فإنه في الوقت نفسه يعني الانكفاء على الذات وعدم القدرة على إدارة العالم. وفي هذا الاتجاه: ستستفيد الأنظمة من الخيارات التقويضية للإدارة الأميركية، وحروبها المقبلة، لتخوض هي الأخرى حروباً تقويضية على مستوى الداخل. وهنا، يجب تبشير القوى السياسية الشعبية في البلدان العربية بأن أياماً عصيبة تنتظرها على مستوى تدني الحريات العامة وحرية التعبير، وعلى مستوى تنظيم الخيارات المدنية والسياسية والحزبية على أسس مؤسساتية تعددية، وعلى مستوى المطالب والشعارات التي ترفعها. وهنا، توجد مجموعة فرص أو ثغرات لدى القوى السياسية الشعبية في العالم العربي لتفوز بمشروع سياسي من صنيعتها، قائم على البنيان على أساس التقويض، فمن يقوض سيكون منهكاً عن القيام بمشروع البناء، أما من لديه الإرادة التأسيسية الكافية لصوغ مشروعه الوطني والاستقلالي، فإن أفضل فرصة له في هذا الاتجاه هي البناء حينما تكون لدى الآخر سياسة التقويض، فحينها سيكون من الصعب على الإرادة التقويضية التدميرية أن تكون قادرة على ادارة خيارات أخرى غير خيارات التقويض، وسيعطي للقوى السياسية الشعبية الفرصة المنتظرة للتفلت من خيارات الأنظمة من جهة، وخيارات الإدارة الأميركية من جهة أخرى، حين يفقد الطرفان قدرتهما على ادارة الخيارات. إن أبرز مثال يمكن أن تنفذ منه القوى السياسية كثغرة لا يمكن سدها في خياري التقويض المتناقضين بين الإدارة الأميركية والأنظمة العربية هي السيناريوهات المحتملة لدى بعض السياسيين الأميركيين لتقسيم بعض دول المنطقة على أساس طائفي وعرقي، وهو خيار تقويضي بامتياز، وبين سعي هذه الأنظمة المستهدفة بالتقويض الأميركي الى تقويض حركة الداخل ومنجزاتها باتجاه قضايا الاصلاح والديموقراطية، ما يفتح المجال أمام السؤال الاستراتيجي والتاريخي: كيف سيكون بإمكان الإدارة الأميركية أو الأنظمة العربية المضي قدماً في خيار التقويض اذا كان هناك طرف ثالث يسعى لاستكمال مشروعه الاصلاحي والديموقراطي على حساب مشاريع التقويض؟ فبالنسبة للإدارة الأميركية، فإن خيار تقويض أنظمة وتقسيمها الى كانتونات طائفية وعرقية، لن يؤدي الى ثمرة فعلية إذا كان البديل هو المشروع الناجز والمستقل، أما بالنسبة للأنظمة، فإن قدرتها على التقويض الداخلي لحركة الاصلاح والديموقراطية في ظل استهدافها بالتقويض من قبل الإدارة الأميركية سيجعل من خيارها خياراً مشلولاً، وغير قادر على إكمال مهمته، مما سينقلها من دائرة السيطرة الى دائرة الطرف العاجز الذي يحتاج الى المتضامنين المتعاطفين معه، وربما تكون هذه هي الثغرة الكبيرة للقوى السياسية الشعبية لإنجاز مشروع اصلاح مستقل عن الأجندة الخارجية، ومتناغم مع مصالح شعوب المنطقة. كل ما تحتاجه القوى السياسية الشعبية كطرف ثالث مستقل عن الأنظمة العربية والإدارة الأميركية هو الولوج بكل قوة في مشروعها الوطني الاستقلالي، واستثمار خيارات التقويض لتحقيق إرادة البناء والإنجاز. * كاتب وصحافي من البحرين