هناك وعد من توني بلير بأن يستقيل من رئاسة الوزارة البريطانية السنة القادمة، عندما يكون قد مضى عليه في الحكم عشر سنوات. الاستقالة لا تكفي بعد أن ترك بلير وراءة مزيجاً من الدمار والدماء والدموع دفعت فيه بريطانيا الثمن من أرواح أبنائها العسكريين والمدنيين في سياسة خارجية تميزت بتبعية ذليلة للسياسة الأميركية الحمقاء من لبنان وفلسطين، الى العراقوافغانستان، وازاء ايران وكوريا الشمالية وكل مكان. نعرف اليوم أن الحزبين الوطنيين في اسكتلندا وويلز يريدان تشكيل لجنة تحقيق من كبار النواب في خلفية الحرب على العراق وفي ادارتها حتى الآن. وفي حين أن هناك عشرات النواب العمال والمحافظين الذين يؤيدون هذا التحقيق، فإن قيادة المحافظين تفضل تحقيقاً أعلى مستوى يضم من يسمون"مستشارون ملكيون"أو محققون مستقلون يعطون صلاحيات واسعة، كما حدث في أعقاب حرب الفولكلاند. لجنتا هاتون وبتلر فشلنا في درس مسؤولية الحكومة اكتب ما أتمنى أن يحدث، لا ما سيحدث فعلاً، لأنني أعرف أنه حتى لو انتهى تحقيق واسع باثبات أن حكومة بلير خدعت الشعب البريطاني عمداً في جرّه الى حروب خارجية ومغامرات أميركية غير محسوبة، فإن النتيجة لن تؤدي الى محاكمة توني بلير وادانته كما يستحق. أدين كل ارهاب، بما في ذلك الارهاب ضد المدنيين البريطانيين في تموز يوليو من السنة الماضية، ولا أجد للارهابيين أي عذر، حتى لو كان العذر بلير وسياسته ضد العرب والمسلمين في كل مكان. غير أن رئيس الوزراء لا يستطيع أن يستمر في انكار وجود علاقة بين الارهاب ضد بريطانيا وتبعيته لادارة بوش، فالعلاقة اكيدة، وقد سربت الى الصحف في لندن قبل أيام مذكرة رسمية أخرى تربط بين الارهاب والسياسة الخارجية البريطانية. وتقول أن كل ما تفعل بريطانيا في الخارج على امتداد السنوات العشر القادمة يجب أن يكون هدفه خفض"النشاط الارهابي"، خصوصاً ذلك الموجه ضد بريطانيا". لا بد أن بلير كان يعرف بوجود هذه المذكرة التي وزعت على الوزراء واركان الأمن في الأسابيع الأخيرة، إلا أنه أنكر ولا يزال ينكر، لأن الاعتراف بالعلاقة حكم بالفشل على سياسته الخارجية، مع كل ما جرت من ويلات. شخصياً، كنت أفضل لو أوجه رسالة مفتوحة الى توني بلير أدعوه فيها الى الاستقالة، إلا أنني بعد موقفه الفاضح من الفلسطينيين ولبنان في الصيف قررت مقاطعته كما أقاطع كل شيء اسرائيلي فهذا اقصى ما أقبل أن افعل، وأترك ارسال الشباب البريطاني الى بلاد بعيدة ليموتوا فيها من دون سبب لامثال بلير، والارهاب المضاد للارهابيين. واذا كنت أدين بلير لأسبابي الفلسطينية واللبنانيةوالعراقية والافغانية وغيرها، فإنني أؤكد للقارئ العربي أن الموضوع ليس شخصياً بين صحافي عربي وسياسي أجنبي، ففي الأيام الأخيرة فقط رأينا التالي: - رئيس الأركان العامة السيد ريتشارد دانات دعا الى اعادة الجنود البريطانيين الى بلادهم خلال سنتين، وحذر من أن بقاءهم في العراق سوف"يكسر"الجيش البريطاني. - رئيس الأركان العامة السابق اللورد غتري، وهو صديق لبلير، قال في مقابلة مع"الاوبزرفر"أن زعم الحكومة الأصلي أن الجنود البريطانيين أرسلوا الى جنوبافغانستان للمساعدة في اعادة التعمير"جنون"، وزاد ان الوعد باعطاء الجيش البريطاني هناك كل ما يحتاج اليه غير واقعي، لأنه لا توجد طائرات هليكوبتر، ولا يوجد جنود مدربون باعداد كافية، ولا يمكن"اختراع"هؤلاء بالتمنيات. - قرار باغلاق القنصلية البريطانية في البصرة لعدم القدرة على الدفاع عنها. - وزيرة الخارجية مارغريت بيكيت اعترفت بأن الحرب على العراق ربما كانت أسوأ كارثة في تاريخ السياسة الخارجية البريطانية، وأن الوضع هناك أصبح شبه مستحيل. وتبعها مسؤولون ومعلقون قالوا أن العراق أسوا من أزمة السويس سنة 1956 العدوان الثلاثي. - أظهر استطلاع للرأي العام البريطاني قبل يومين أن البريطانيين يؤيدون قواتهم المسلحة ويعارضون الحكومة. وقال 70 في المئة أنهم يؤيدون الجيش، و 70 في المئة أنه لا توجد استراتيجية للانسحاب من العراقوافغانستان، و 79 في المئة أن لا ثقة عندهم في ادارة الحكومة البريطانية الوضع في العراقوافغانستان، و 66 في المئة أن ثمة احتمالاً بأن تمنى القوات البريطانية بهزيمة في العراقوافغانستان. ويبدو أن هذا هو موسم تسريب المذكرات السرية، وقد نشرت"الديلي تلغراف"عدداً منها، وبيتها مذكرة وصفتها بأنها"قائمة تمنيات"فحكومة بلير تريد حل المشاكل الشائكة حول العالم في السنوات العشر القادمة. وبين هذه حدود آمنة لاسرائيل وتعايش سلمي مع الفلسطينيين ولبنان، واستقرار في العراقوافغانستان وانتخابات حرة في باكستان، وسلام شامل في القرن الافريقي وغير ذلك. كل هذا جميل، إلا أن السياسة الخارجية لحكومة توني بلير سارت في اتجاه مضاد لهذه التمنيات في السنوات الأخيرة، وساعدت على زيادة الارهاب وهي تزعم انها تحاربه. أقول أن بلير يجب أن يستقيل اليوم، وان كان الأفضل أن يستقيل أمس، ومسؤوليته لا تحتاج الى تحقيق فهي ثابتة، وإنما تحتاج الى تحقيق لمحاسبة بلير وشركائه. كنت اعتقد أنني كما قال الإمام علي: لست بخبّ والخبّ لا يخدعني. إلا أنني أعترف بأن توني بلير خدعني، فقد اعتقدت يوماً أنه سياسي من نوع نادر، صادق وانساني وعشت لاكتشف أنه انتهازي مخادع انتصر لاسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وسعى مع ادارة بوش في دمار العراق، وارجو أن يدفع الثمن.