تعزز المشهد الشعري المغربي، في السنوات الخمس الأخيرة، بظاهرة إصدار الأعمال الشعرية والقصصية"الكاملة". والظاهرة بقدر ما تفصح عن نضج شروط التداول الشعري بقدر ما تكشف عن دينامية الحقل الثقافي المغربي. هكذا نجد أعمال المؤسسين من جيل الستينات من شعراء عبدالكريم الطبال وروائيين عبدالكريم غلاب وقصاصين محمد زفزاف وادريس الخوري تحضر إلى جانب أعمال المجددين من جيل السبعينات، كأعمال المهدي أخريف شاعر والميلودي شغموم روائي وعز الدين التازي قاص وروائي. وهذه صدرت عن وزارة الثقافة التي بادرت بإطلاق سلسلة نشر"الأعمال الكاملة". ولم تكن إصدارات وزارة الثقافة تحتل وحدها المشهد، بل جاءت لتعزز حضور أعمال أخرى لبعض الكتاب والشعراء الخارجين عن التعاقدات والاشتراطات المؤسسية المباشرة، كأعمال أحمد بوزفور"ديوان السندباد"وأعمال محمد بنيس ومحمد بنطلحة، وبذلك لم يبق إصدار"الأعمال الأدبية الكاملة"تقليداً مشرقياً خالصاً، بل أصبح جزءاً مندمجاً في دينامية ثقافية عامة سيكون لها أبعد الأثر في مستقبل الأدب المغربي. ويهمنا أن نحصر اهتمامنا في الأعمال الشعرية. وسنحاول، من خلال تقديم ثلاثة نماذج، الوقوف على التقاطعات والتمايزات التي تكشف عن مشترك أو خصوصية الممارسة النصية وما يسندها من تصورات نظرية لجيل السبعينات الشعري في المغرب. وهذه النماذج تتمثل في الأعمال الشعرية لمحمد بنيس، وصدرت في شكل مشترك، في جزءين، عن دار توبقال والمؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002، والأعمال الشعرية لمحمد بنطلحة التي صدرت، في جزء واحد، بعنوان"ليتني أعمى"، عن فضاءات مستقبلية في الدار البيضاء 2002، ثم الأعمال الشعرية لمحمد الأشعري وزير الثقافة الحالي الصادرة بدورها في جزء واحد، ولكن في شكل مشترك، عن اتحاد كتاب المغرب ودار الثقافة 2005. الملاحظة الأولية هي أن هذه الأعمال تشترك في كونها لشعراء أحياء، بل فاعلين في المشهد الشعري المغربي إلى جانب أصوات من جيلي الثمانينات والتسعينات، كما أنها جاءت لتغطي ما يشارف الأربعين سنة من تجريب كتابة القصيدة، بدرجات مختلفة من الوعي والإصرار والنسكية، من دون أن تعرف هذه السلسلة الزمنية تقطعات في الكتابة الشعرية، أو انقطاعات وسمت بعض التجارب الشعرية السابقة في المغرب، كتجربة أحمد المجاطي مثلاً، التي، على أهميتها ووعدها، لم تتجاوز إصداراً شعرياً واحداً موسوماً بپ"الفروسية". تشترك هذه النماذج أو الأعمال الشعرية أيضاً في كونها تتجنب، في شكل قصدي، إثبات صفة"الكاملة"في وسم ذاتها وتقديم تجربتها للقراء. وهي بذلك لا تزج بالتجربة الشعرية في خانة الماضي المغلق والمنتهي، بل تبقي على انفتاحها الحيوي الذي يقيم في المستقبل، آخذة في الاعتبار، محتملات التجربة الموصولة في الحياة كما في النص. وإذا كانت أعمال محمد بنيس ومحمد الشعري تحتفظ بصيغة"الأعمال الشعرية"، سواء بالتعريف أو من دونه، كعنوان وحيد لمصاحبة الدواوين الشعرية في رحلتها التداولية الجديدة، فإن أعمال محمد بنطلحة اختطت لنفسها مساراً آخر، بحيث جعلت تجربة الشاعر، بدواوينها الأربعة، تنضبط لعنوان جامع هو"ليتني أعمى". وغير خاف أن هذا العنوان، بصيغته الأسلوبية المخصوصة، يصل بين التمني وضمير المتكلم المفرد العائد على الذات الشاعرة. ودلالة العمى المطلوب تنصرف لتوكيد قيمة الظلام كأحد مرادفات المجهول، الذي يقود التجربة وتحتمي به من تصلب القناعات وابتذال الطرق السيارة. أعمال الشاعر محمد بنطلحة تستضيء بعنوان موحد يوحي بانفتاح التجربة وإقامتها في المجهول من الكلام، بينما أعمال محمد بنيس اختارت مواجهة الصمت والاستضاءة بمصباح مقدمة نظرية ذاتية تضيء ما سماه الشاعر بپ"حياة في القصيدة". أما أعمال محمد الأشعري فاستسلمت لقدر يد ثانية، هي يد الشاعر المهدي أخريف، الذي وقع لها مقدمة غيرية في عنوان"محمد الأشعري سيرة القصيدة". ولعل الصداقة بين الشاعرين المتجايلين، فضلاً عن التقدير المتبادل، هي ما ينهض حافزاً وراء هذا التشريف. مقدمة محمد بنيس ترسم المسار المتعرج لتجربته الشعرية الممتدة من"ما قبل الكلام"1969 إلى"نهر بين جنازتين"2000. وتفسح المجال لتأملات نظرية صاحبت التجربة وفعلت في ابدالاتها، التي تؤرخ لها اليد الشاعرة بديوان"مواسم الشرق"1986 وپ"ورقة البهاء"1988 وصولاً إلى الأعمال اللاحقة. والمقدمة، بقدر ما تريد أن تكون مرشداً ودليلاً لمحطات التجربة الشعرية، بقدر ما تريد أن تكون استمراراً لورشة التأمل التي فتحها الشاعر منذ"بيان الكتابة"1980. لذلك سنجد معطيات أتوبيوغرافية تتعلق بسيرة القراءة أو ما يمكن أن نسميه بپ"التربية الشعرية"تسند استخلاصات نظرية تجعل الشعر في مواجهة الموت، فيما هي تمجد إعادة الكتابة وشعرية المحو والنقصان. مقدمة المهدي أخريف عاشقة متواطئة، مغتبطة بفعل التقديم، لكنها لا تتحلل من مسؤوليتها الوصفية والنقدية. لذلك نجدها منشغلة بإعادة رسم تاريخ التجربة، باحثة بين ثناياها عن تلك الوعود الصامتة أو الانقطاعات الصريحة، التي جعلت قصيدة الأشعري تتخلص من اشتراطاتها السبعينية، لتتسربل بإيهاب من التخييل والجمالية الرمزية، التي تساوقت مع انهيار اليقينيات وانجلاء الأوهام في أواخر الثمانينات. من الاحتجاج إلى الانكفاء الذاتي، مروراً بتلك المرحلة البينية الموسومة برمزيتها الغنائية، ستسير قصيدة الأشعري نحو تقشير لحاها الخارجي وصولاً إلى ما يجعل النسغ عارياً من عوارضه. لذلك ستنكفئ التجربة على ذاتها لتتحول"من النشيد المونولوغ"ص11، قبل أن تهتدي في"حكايات صخرية"2000 إلى القصيدة القصيرة، التي أصبحت محرق التجريب المرتكز إلى تلقائية الفعل الشعري. هذه إذاً ثلاثة نماذج للأعمال الشعرية المغربية الصادرة حديثاً. وتكشف المصاحبات النصية الموازية لهذه الأعمال عن أثر بعض الانشغالات النظرية والنصية التي وجهت شعراء هذا الجيل. وعلى رغم تقديرنا للجهد الشخصي الكامن وراء صدور بعض هذه الأعمال، فلا يمكننا إلا أن ننتظر انفتاح إصدارات وزارة الثقافة على أعمال شعراء آخرين كمحمد السرغيني وعبدالله راجع ومحمد الطوبي، فضلاً عن كتاب الأجناس والتعبيرات الأخرى كالأعمال المسرحية لعبدالكريم برشيد.