مواضيع كتاب "أزمة الابداع في ثقافتنا المعاصرة" للباحث سعيد توفيق المؤسسة الجامعية، بيروت، 2006، تنصب على تأويل التراث، وعلى مدى تحقق هذه العلاقة في واقع ثقافتنا الراهنة. هذه القراءات هي استكمال لموضوعين آخرين كان تناولهما الباحث توفيق:"معنى التراث وسؤال الهوية"وپ"إشكالية التراث والتحديث"ليصل الى سؤاله الكبير: لماذا لا نبدع؟ وكيف نبدع؟ التراث كما يراه الباحث يرتبط بعلاقة وثيقة بمفهوم"الهوية"، ويرى ان"تأويل التراث"يرتبط بعلاقة وثيقة بمفهوم"الإبداع". أي ان التراث يرتبط بالماضي في هدف الابقاء على الهوية، وهذه الهوية تكمن قيمتها في ما يبدعه الانسان. لكن السؤال الذي يُكشف لنا هو: هل الإبداع في حالة من السكون في واقعنا الثقافي؟ من حيث المبدأ تتسم مجتمعاتنا العربية والاسلامية بغياب الإبداع فيها على المستويات العملية والفكرية والفنية، وان كان يحدث الغياب بدرجات متفاوتة، الا انه يظل غياباً لا حضوراً، من حيث انه يظل مجموعة ظواهر فردية لا ظواهر عامة او جمعية. صحيح ان تأويل التراث ليس هو الشرط الوحيد للإبداع، الا ان التراث ايضاً ليس هو الموضوع الوحيد للتأويل. فالتأويل بحسب هانس جورج غادامر يتسع ليشمل تفسير كل شيء يكون قابلاً للفهم والتعقل، وهو يتجه الى المقاصد والمعاني بغية التعرف على معنى شيء ما وتفهمه على نحو يزيل غموضه، ومن ثم يزيل الاغتراب عنه. غير ان عملية تأويل التراث ليست عملية اعتباطية، كما انها لا ينبغي ان تبقى رهينة طرائف التأويل التقليدية، بل يجب ان تسترشد بالضوابط والشروط الاخلاقية للتأويل التي تخدم توجهاته الواسعة التي يمكن تعدادها بالنقاط الآتية: أولاً: التأويل هو تفسير يسعى الى بلوغ المقاصد والمعاني من وراء ما يقال او ما يخاطبنا من اجل تفهمه. ثانياً: لا يوجد تفسير واحد ونهائي يمكن ان يدعي لنفسه بلوغ الحقيقة، أي ان الحقيقة هنا نسبية. ثالثاً: لأن التراث هو انتاج انساني مرتبط بحركة تطور الوعي التاريخي، فهو لا يمكن اعتباره مقدساً، لذلك يجب ان نفهم التراث من منظور اللحظة التاريخية التي نحياها. رابعاً: اذا كان التأويل يقتضي تجاوز التراث، فإن تجاوز التراث لا يعني الغاءه او اسقاطه في احداث قطيعة معرفية معه، وانما زعزعة حضوره الراسخ والجامد فينا. لا شك في ان الناظر في تراث الفكر الفلسفي الاسلامي يدرك على الفور ان هذا الفكر ازدهر حينما كان هناك تقبل لفكر الآخر عبر عن نفسه في ازدهار حركة ترجمة قوية في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وأدى هذا الى استيعاب او تمثل الفكر اليوناني، ثم نقده والاضافة اليه، الامر الذي يشير الى ان الفكر الاسلامي كان مهيأ من داخله لتقبل روح التفلسف، ومن ثم التأويل. ولعل فكر المعتزلة هو الصورة المبكرة لعملية التأويل التي انبثقت من داخل الفكر الاسلامي على مستوى علم الكلام. اما ابن رشد فهو غاية ما وصل اليه هذا الفكر على مستوى التفلسف المحض. لكن اضطهاد ابن رشد وحرق كتبه في آخر القرن الثاني عشر اعتبر علامة فارقة على نهاية الإبداع الفلسفي. ربما يقال إن الصورة الراهنة لوضع الفلسفة في العالمين العربي والاسلامي ليست من القتامة كما يشار اليها، ولكنها ايضاً ليست في أحسن أحوالها. فعلى مستوى الفلسفة هي منبوذة في كثير من الجامعات في العالم العربي، لذلك لا يمكن ان يكون للفلسفة حضور في ثقافة المجتمع ما دامت غائبة اصلاً عن بيتها، أي الجامعات التي من المفترض ان تحوي مراكز لإبداع الفكر الفلسفي. ان إشكالية الإبداع الفلسفي ليست منفصلة عن إشكالية الإبداع العلمي، بل الاشكالية تكمن في إساءة فهم التراث، أي اساءة فهم الشروط التي انتجت ابداعاته، والشروط التي أدت الى انحطاط الإبداع فيه عبر فرض قيود على حرية الفهم والتأويل.