أخبار حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنتظرة التي تحتل مساحات واسعة في وسائل الاعلام، لن تكون بشائرها، وفق ما يدب على الأرض من حراك داخلي واقليمي ودولي، على مستوى الطموح والآمال التي علقت على هذه الخطوة"الضرورية"لرفع المعاناة عن الفلسطينيين واخراجهم من عنق الزجاجة التي حشروا فيها على مدى الأشهر التسعة الماضية، وذلك على رغم تسوية معظم قضايا الخلاف الرئيسية بين طرفي المعادلة الفلسطينية المتازعين فتح وحماس، لا سيما ما يتعلق منها ببرنامج الحكومة المقبلة، واستبعاد الساسة البارزين في الحركتين من المشاركة في هذه الحكومة بما يتواءم ومطلب الولاياتالمتحدة ودول أوروبا الغربية، وتوزيع الحقائب الوزارية بين الأطراف المتحاورة، ووضع ملف اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على نار حامية، لا بل وحتى الاستعداد للشروع في الاجراءات القانونية المتمثلة في استقالة رئيس الوزراء الحالي اسماعيل هنية وتكليف رئيس الوزراء الجديد في وقت قريب"إذا ما سارت الأمور على ما يرام"، وان كانت بعض المصادر قد ذكرت ان الاعلان عن الحكومة الجديدة سيبقى مرهوناً بإطلاق سراح النواب والوزراء المختطفين لدى الحكومة الاسرائيلية، ما يعني عملياً إنهاء قضية الجندي الاسرائيلي المحتجز في غزة غلعاد شاليت عبر مبادلته بأسرى فلسطينيين في السجون الاسرائيلية. هذا التقدير يرسم علامة استفهام في أفق أجواء التفاؤل التي عمت أوساط الفلسطينيين الذين ينتظرون بفارغ الصبر اكتمال ملامح هذا المولود المنتظر الذي سيوقف حضوره نزيف الخلافات والصراعات الداخلية التي تفاقمت الى حد ولوج أبواب الاقتتال المسلح، ويطوي صفحة الحصار السياسي والمالي الذي وضع الفلسطينيين على أعتاب الفاقة والمجاعة والتهميش السياسي، كما تسمح خلفيات هذا التقدير بتجاوز الخفة التي قرأت بها المواقف الجديدة التي سمحت بالتقدم في محادثات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ومواقف الدول العربية التي طالبت، بكسر الحصار المفروض على الفلسطينيين، والمتكئة بدورها على التطورات الاقليمية التي أعقبت الحرب الاسرائيلية على لبنان، وكذلك على جديد المعطيات الاميركية المتمثل بنتائج انتخابات مجلسي الكونغرس الاميركي التي انتهت الى استحواذ الديموقراطيين على الغالبية، وقبل ذلك، وتماهياً معه، ما سرب من توصيات لجنة بيكر - هاملتون الاميركية الخاصة بدراسة الوضع المتفجر في العراق، وبالأخص دعوة اللجنة الى الاستعانة بكل من ايران وسورية لإعادة الأمن والاستقرار الى هذا البلد المحوري والمهم في منطقة الشرق الأوسط. ومع ان من غير الواقعي تجاهل حقيقة إدراك كل من"حماس"و"فتح"ان الأزمة التي خلفها صراعهما تزداد تفاقماً على المستويات كافة، وان اسرائيل المتجهة يميناً، والتي استغلت هذه الحال الرثة وشنت عدوانها البربري الذي انتهى بمجزرة مروعة في بيت حانون، كانت المستفيد الأول من وضع المراوحة والشلل والصراع الفلسطيني، إلا ان الأكثر واقعية هو تلك المفارقات التي تسم مواقف وسلوك الطرفين المتحاورين. فمن جهتها تبدي"حماس"مرونة غير معهودة حيال برنامج حكومة الوحدة الذي ستتضمن نصوصه صيغاً سياسية وعبارات فضفاضة وحمالة أوجه يستطيع كل طرف، وفق ما يقول هنية، فهم ما يريده منها، أي اعتبار وثيقة الوفاق الوطني بمثابة المرجع السياسي لبرنامج الحكومة الجديدة، والموافقة على اعتماد كتاب تكليف هنية السابق، وخطاب عباس في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، من ضمن أسس برنامج الحكومة، على اعتبار ان ما ورد في الوثيقتين يتقاطع بشكل أو بآخر مع اشتراطات الرباعية، وذلك بهدف تسهيل مهمة عباس في اقناع الاميركيين والأوروبيين بفك الحصار المفروض على الفلسطينيين. ولعل الأمر الجوهري الذي ينبغي التوقف أمامه، في هذا السياق، هو موافقة"حماس"، بعد رفض وتمنع مضنيين، على عملية الفصل بين موقفها كحركة من اشتراطات الرباعية المعروفة، وبين موقف الحكومة التي ستكون معنية بمراعاة ستة أبعاد حددها رئيس الوزراء الحالي اسماعيل هنية بالتالي: العمل على حماية المشروع الوطني الفلسطيني، بذل الجهد من أجل رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني وتخفيف المعاناة عن أبنائه، قطع الطريق على أي اقتتال داخلي وتكريس الوحدة الوطنية، تزامن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع انطلاق المحادثات حول اعادة بناء منظمة التحرير وفق ما جرى الاتفاق عليه في القاهرة، ان تقوم الحكومة على أساس احترام الخيار الديموقراطي ونتائج الانتخابات، وإنهاء حال الفوضى والفلتان الأمني في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة. ولكن، في المقابل، يتواصل خطاب"حماس"المتعلق بقضايا الاعتراف باسرائيل وبالاتفاقات الموقعة ونبذ ما يسمى"العنف والارهاب"، وكذلك بمسألة"الثوابت"على حاله من دون أي تغيير. وحسب وزير خارجية السلطة محمود الزهار، فإن"حماس"لا تقبل بالمبادرة العربية ولا تعترف بها، وهي ترفض قرار التقسيم لعام 1947 والقرار 242، فضلاً عن الخطط والمبادرات المطروحة وصولاً الى"خريطة الطريق"انطلاقاً من ايمانها بتحرير فلسطين التاريخية من النهر الى البحر، ناهيك عن اعتبارها منظمة التحرير الفلسطينية غير موجودة حالياً. في المربع الآخر، تحاول رئاسة السلطة تجميع أوراق القوة في يدها من خلال اعادة توحيد"فتح"تحت جناحها بعد انتخاب عباس من قبل المجلس الثوري للحركة قائداً عاماً ل"فتح"، وتسعى الى الحصول على موافقة اسرائيل على إدخال"قوات بدر"الموجودة في الاردن الى غزة في محاولة لإيجاد توازن مع القوة العسكرية ل"حماس"، وإعادة هيكلة الاجهزة الأمنية، انطلاقاً من المراهنة على امكانية كسر الجمود السياسي الراهن والعودة، بدعم عربي ودولي، الى طاولة المفاوضات مع اسرائيل، ما سيفضي الى تحسين موقعها في إطار المعادلة الفلسطينية الداخلية، وهو ما يفسر المرونة الواضحة التي أبداها رئيس السلطة محمود عباس حيال اشتراطات"حماس"المتعلقة بالتغيير الحكومي: التمسك بحق الحركة في ترشيح رئيس الحكومة المقبلة الذي يجب ان يكون إما عضواً في"حماس"أو مقرباً منها، للتدليل على عدم فشل تجربة الحركة في قيادة الحكومة السابقة، لا سيما انها تملك الغالبية التي تمنح الثقة أو تحجبها في المجلس التشريعي، الإصرار على ان الحكومة المقبلة المشكلة من شخصيات وطنية هي حكومة سياسية تختلف، نوعياً، عن حكومة الكفاءات التي اقترحتها الفاعليات المستقلة قبل فترة، الاستحواذ على حصة في الحكومة تتناسب مع حجم تمثيل الحركة في المجلس التشريعي، التزام رئيس السلطة بعدم حل القوة التنفيذية التي شكلها وزير الداخلية سعيد صيام واعتبارها قوة شرعية واعتماد موازنتها جزءاً من موازنة وزارة المالية، تعهد رئيس السلطة بالعمل على فك الحصار المالي والاقتصادي عن الشعب الفلسطيني. وعلى رغم حرص الجانبين على إبداء التفاؤل حيال امكانية اقلاع الحكومة الجديدة المتوقع ان ترى النور خلال الايام المقبلة، وتفادي التوقف أمام المعضلات الحقيقية التي ستنتصب في وجه هذه التجربة التي ستكون مدعومة من أوسع قطاعات الشعب الفلسطيني، إلا ان ثمة مشكلات جدية ستعترض عمل هذه الحكومة الموعودة والمأمولة، إذ لا يمكن اخفاء حقيقة ان كلا الطرفين الاساسيين ما زال متمسكاً بأجندته السياسية الخاصة التي ستطل برأسها عند كل تحرك أو حالة تستوجب اتخاذ مواقف عملية، وهو، وفق التصريحات المتناثرة، يمارس"تقية"واضحة للعيان انسجاماً مع توجهات الرأي العام الفلسطيني، بانتظار حدوث تطورات اقليمية ودولية يمكنها تعديل ميزان القوى لمصلحته، لا سيما ان الطرفين يراهنان على حدوث تغييرات عميقة في المنطقة، يرى فريق السلطة وغالبية حركة"فتح"انها ستفتح الباب أمام مفاوضات التسوية التي ستتعزز حظوظها بعد الحديث الفرنسي عن طرح مبادرة أوروبية جديدة لتسوية الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. فيما ترى"حماس"ان هذه التطورات ستصب في مصلحة قوى الممانعة والمواجهة الاقليمية بعد ظهور تجليات المأزق الأميركي الخانق في العراق، وضعف إدارة الرئيس بوش المتوقع بعد تحوله الى"بطة عرجاء"في مواجهة الديموقراطيين، ما سيؤثر بشكل حاسم على اسرائيل وسياساتها وعلى الخريطة العربية المجاورة. ولأن ما سيحسم في رسم السياسات هو الواقع ومعطياته على الأرض، فإن على الطرفين مراجعة هذه الرهانات التي ينتظر أن تكون رهانات فاشلة، فالحديث عن انطلاقة جديدة للمفاوضات، وفق"خريطة الطريق"أو المبادرة العربية أو حتى المبادرة الأوروبية المنتظرة، هو مجرد وهم وخداع للذات، ولا سيما بعد انضمام ليبرمان وحزبه الى حكومة اولمرت - بيرتس التي لن تجد أمامها سوى الهروب الى الأمام للتخلص من تداعيات الهزيمة في لبنان، ويتحدثون في اسرائيل عن حرب مقبلة ضد لبنان في الصيف المقبل، ناهيك عن اجماع الخبراء والمعنيين ان سياسة الديموقراطيين حيال اسرائيل لن تختلف عن سياسة الادارة الراهنة في اي مسألة جدية، وبالأخص بعد ان ثبت ان أكثر من 70 في المئة من أصوات اليهود الاميركيين ذهبت لمرشحي الحزب الديموقراطي الذي سيعمل على تحقيق المصالح الاسرائيلية بعقلانية عزت على الجمهوريين وادارتهم النزقة والمغامرة، والتي أضرت بمصالح الولاياتالمتحدة واسرائيل ووضعتها في مهب الريح. أما المراهنة على حدوث تغييرات اقليمية مهمة يمكن ان تعكس نفسها على الأوضاع الفلسطينية والصراع مع اسرائيل فقد اثبتت الأحداث ان الفلسطينيين غير قادرين على تحمل التكلفة السياسية والاقتصادية والأمنية الى حين حدوث هذه التحولات التي سيكون ثمنها المزيد من الدم والتضحيات الباهظة. ولعل تجربة العدوان الأخير على مناطق شمال قطاع غزة ومذبحة بيت حانون أكبر دليل على ان الوقت لا يعمل لصالح أبناء القهر في فلسطين. * كاتب فلسطيني