ما بدا المفكر المعروف الدكتور فهمي جدعان نافدَ الصبر مرة مثلما بدا في خلاصاته هذه، والتي سمّاها:"في الخلاص النهائي، مقالٌ في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين". وتأتي هذه الخلاصات في زمان تراجعت فيه النقاشات الفكرية في المجال العربي، لمصلحة الصراع السياسي، والتجاذبات السياسية والعسكرية والأمنية بين الإسلاميين وخصومهم داخل الأنظمة أو في العالم الأوسع. يقصد الدكتور جدعان بالوعود المشروعات الايديولوجية لدى كل من الأطراف الثلاثة. وهو يقوم في الواقع باستعراض خطابات تلك الأطراف، في أصولها الايديولوجية، وفي تجلياتها السياسية والاجتماعية. في حين يعرض لمحات من الأصول الفكرية والأيديولوجية للعلمانية والليبرالية، يبدأ فوراً مع الإسلاميين من مشروعهم للهوية الذاتية، والذي يتركز في النهاية حول القبض على السلطة السياسية، وإقامة نظام ثيوقراطي أُسسه الاستخلاف، والتكليف، والحاكمية. وهو في الوقت الذي يُلاحظ فيه الجماهيرية الكبيرة لهذا الخطاب، يلاحظ أيضاً التفاوتات والتمايزات بداخله. ولذلك فعندما نقول ان الخطاب الإسلامي المعاصر هو خطاب"الهوية الذاتية"، إنما نقوم بتجدريد للنموذج المثالي، بحسب ماكس فيبر 1964-1920. لكن في الوقت نفسه علينا ألا نستهين بالتوحُّد الشديد لهذا المشروع أو لهذه"الخصوصية"في أذهان الجمهور المؤيِّد، والتي تعني"الانفصال"عن الأبعاد الاجتماعية للتطور التاريخي، والتطور الثقافي والسياسي، واستطراداً أو في الأساس الانفصال عن العالم بما يشبه الفصام الذاتي. لماذا حدث ذلك؟ وهل لهذه الظاهرة مشابهات في العالم؟ هناك تشابهات من حيث الثوران الديني، او عودة الدين حتى في النواحي الشديدة العلمانية أو الليبرالية. لكن النزعة الانفصالية لدى الاسلاميين أكبر بكثير. ويبدو ذلك مثلاً في اهتمام الهندوس المتدينين في صنع"قومية"هندية، في حين لا يقبل الاسلاميون شيئاً من ذلك على رغم منافقة القوميين العرب لهم ومماشاتهم لأطروحاتهم. ولا يتتبع جدعان تساؤلاته الى نهاياتها على رغم انه يشير الى محدِّدات تاريخية تتعلق بزمن الاستعمار، وبالأنظمة السائدة، وبالمشكلات الحادة والعالقة والتي ما أمكن حلها بأي سبيل. ويميل جدعان الى مناقشة"العلمانيين"بالطريقة نفسها التي يناقش فيها الإسلاميين. أي باعتبارهم يعرضون مشروعاً خلاصياً يشبه المشروع الإسلامي في نهائيته وشموله وجوهريته. لكنه يلاحظ منذ البداية أن ليس لذلك المشروع استخلاصات سياسية في الوطن العربي، تشبه التجليات التي برزت له في تطوره التاريخي في فرنسا مثلاً. هناك لدى العلمانيين العرب المحدثين والمعاصرين أحد ثلاثة إدراكات للعلمانية: أنها فهمٌ شاملٌ للكون والوجود، أو انها فصل للدين عن الدول، أو انها عقلنة للسياسة وإدارة الشأن العام. وهكذا فإن هناك أفكاراً علمانية إذا صح التعبير، وليس هناك مشروع علماني، باستثناء ما يمكن استنتاجه من تكون المؤسسات المرتبطة بالدولة فكرة وممارسة. أما الليبرالية فيبدو أمرها أسهل. صحيح انها في العالم الغربي هي بمثابة الفلسفة للديموقراطية، أو انها موقف منفتح على التعدد الاجتماعي والسياسي والحريات الانسانية ودعه يعمل دعه يمرّ في الاقتصاد. لكنها في الوطن العربي ارتبطت في العقدين الأخيرين بحرية السوق، وبالتعددية. وقد استعملها بعض أصدقائها في السنوات الأخيرة في مصارعة الواحدية الأصولية والواحدية السياسية. وقد أساء إليها كثيراً ارتباط بعض الداعين اليها بسياسات الولاياتالمتحدة. وهكذا فقد صارت"وعداً"يشبه في تحوله الى مشروع وعد الاسلاميين، لا وعد العلمانيين، على رغم أن الأصول ينبغي أن تثبت العكس. يبدو فهمي جدعان، الشديد الدقة والموضوعية في عروضه، وفي تحليله للخطابات، محايداً تجاه العلمانية والليبرالية على حد سواء. لكنه شديد التشكك إزاء الإسلامية والإسلاميين شأن الكثيرين منا. وهو في حين لا يرى بديلاً عن الدخول في الحداثة، والعيش مع العالم وفيه، يسارع الى عرض المشروع الاصلاحي العربي والإسلامي بديلاً للإسلامية الجديدة. وهو لا يحب الحديث عن"الوسطية"الإسلامية، بل يرجع للماوردي وابن خلدون للحديث عن مشروع"الغالبية"أو"السواد الأعظم"، والذين ينخرطون في تقاليد وأعراف وتجربة تاريخية عريقة، تمثل المشروع الشامل والعالمي للإسلام، وتعتبر الإصلاحية التي تحدث عنها جدعان في كتابه"أسس التقدم عند مفكري الإسلام"استمراراً تجديدياً لتلك الغالبية أو الكتلة التاريخية من أهل السنّة والجماعة. كتاب فهمي جدعان هو أكثر من مراجعة، إنه كشف حساب لمجريات الفكر والثقافة وأطروحاتهما في الوطن العربي. العلمانيون ما عادوا حاضرين في الفكر ولا في السياسة. والليبراليون حاضرون في السياسة من دون الفكر لكنهم للتسويغ وليس للتأسيس. والحاضرون في كلا المجالين الإسلاميون... والأنظمة القائمة. بيد ان الصراع الدائر هو صراع هلاك وإهلاك، وإن علت على بابه يافطة"الخلاص النهائي"أو بسبب ذلك. ولهذا يصح القول إن ما نشهده هو"الوعيد"وليس"الوعد"، وسط تهميش بالغ الخطورة للفكر والمفكرين لمصلحة المطلقات والحشود والانتحاريات. منذ آخر سبعينات القرن الماضي يوالي الأستاذ جدعان قراءاته وطروحاته الفاهمة والكاشفة. وقد قدّم دراسات أكاديمية دقيقة في التاريخ الفكري والثقافي والديني لعالم الإسلام الوسيط. وها هو منذ كتابه"أسس التقدم"1979 يقرأ القرن العشرين ومصائر العرب والمسلمين فيه: الطريق الى المستقبل، والماضي في الحاضر، ورياح العصر، فإلى الخلاص النهائي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.