الخطاب السياسي العربي كان ولا يزال نخبوياً بامتياز، والتحدي الراهن لهذا الخطاب لا يكون بما نشهد من أساليب تجديده التي تتوكأ أحياناً على مفكرين من القرون الوسطى ابن رشد مثالاً وإنما بتفكيك هذا الخطاب من أجل تجديد يواكب حاجاتنا في العصر وليس الالتهاء بطبعة جديدة من كتاب قديم. كان النصف الثاني من القرن العشرين إيديولوجياً بامتياز، فقد استهلك سنواته صراع إيديولوجي محموم أفرز خطاباً سياسياً ما زال الى الآن متحكماً بالفكر السياسي على الساحة العربية، متمتعاً بقدرة مذهلة على الصمود، على رغم المتغيرات العاصفة التي وضعت الإنسان المعاصر وجهاً لوجه إزاء واقع جديد مختلف في الصميم في أنماطه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وتوجهاته النظرية والعقائدية. من خلال استجلاء صورة هذا الخطاب والحفر في خلفياته وملامحه وتوجهاته وآلية تعامله مع الوقائع نجد ان ثمة سمات عامة ميّزته وشكّلت طابعه الخاص، كالطوباوية والنخبوية والأحادية والفوقية والدوغمائية. فالخطاب السياسي العربي، على تضاد إيديولوجياته وتناقض مشروعاته، هو خطاب طوباوي يفسر الواقع بأدلوجاته ويستعيض عنه بأوهامه الإيديولوجية وما تمليه من أحكام واستنتاجات: في هذا المنحى تحل الطبقة محل المجتمع في الخطاب الشيوعي، وتغيّب الأقطار - الأوطان وراء "الأمة" في الخطاب القومي، ويُلغى التاريخ وتناقضاته وصراعاته باسم "المجتمع المدني" في الخطاب العلماني. وفي كل الحالات يتعامل الخطاب السياسي العربي مع الإيديولوجيا باعتبارها بديلاً من الواقع، كأنما التاريخ يتحوّل ويجري وفقاً لتصوراتها. فالمجتمع الاشتراكي في الخطاب الشيوعي والأمة العربية الواحدة في الخطاب القومي، ودولة المواطنة في الخطاب العلماني، والدولة الدينية في الخطاب الأصولي تبدو كلها من الحقائق التي لا تخضع للشك أو الجدل. هكذا يعيش الخطاب السياسي العربي خارج الواقع وخارج التاريخ، يهبط عليهما من فوق، مرة باسم "المادية العلمية" ومرة باسم "المقدس" ومرة باسم "الأمة". والخطاب السياسي العربي هو خطاب نخبوي يخاطب الناس من فوق، بصفتهم مادة لمشروعات النخبة وأفكارها وأوهامها الإيديولوجية. من هنا كان تركيزه بفضائله كافة، الاشتراكية والقومية والعلمانية والأصولية، على "القائد" و"المعلم" و"المرشد" الى جانب تركيزه على مقولة "الجماهير"، ليس بصفتها الهدف الذي يجب ان يتوجه إليه العمل السياسي والغاية التي من أجلها قامت السياسة والشرائع الانسانية، بل كمادة يجب ان تتكيّف وفقاً لعقل النخبة وكحقل اختبار لصحة مبادئه وعصمة تصوراته. والخطاب السياسي العربي هو خطاب أحادي رافض للآخر والمختلف، مدّع لامتلاك الحق والحقيقة، قوامه النفي والإقصاء المتبادلين بين العقائد والإيديولوجيات، والقول بتناقض تام بين خير مطلق متمثل في "الأنا" وشرّ مطلق متمثّل في "الآخر". والخطاب السياسي العربي هو خطاب ماضوي دفاعي يتوسّل التاريخ لدفاع عن الحاضر، والذات المهددة، حيث يأخذ الماضي صورة القداسة والبطولة والعصمة. الإشتراكيون والقوميون والعلمانيون والأصوليون على السواء، استخدموا التاريخ، استجاروا به، فسَّروه وأوَّلوه لتبرير أطروحاتهم وأفكارهم ومشروعاتهم الإيديولوجية. هذا الخطاب السياسي المهيمن على الساحة العربية منذ منتصف القرن الماضي كان ولا يزال في أساس الصراع المحموم الذي يذهب الى حد التكفير والتصفية الدموية بين الفصائل والتيارات السياسية والعقائدية، وهو وقف ويقف وراء أكثر التناقضات حدة في المجتمع والسياسة والفكر في العالم العربي، فتحت مطلَّقه سقط الحوار وسادت العدائية وعميت الرؤية وتحوَّل المجتمع الى كائن يقتات بالوهم والخرافة ويولّد العنف والتصادم. ولعل هذا بالذات ما دفع البعض الى مراجعة نقدية لهذا الخطاب، مراجعة ظلَّت دائماً دون الحد الذي يمكن ان يحدث تغييراً حقيقياً. فقد تكررت على مدى العقود الماضية دعوات الحوار الاشتراكي - القومي، والقومي - الإسلامي، والديني - العلماني. لكن المحصلة كانت عبثية أو تكاد، وفي النهاية ظل كل طرف معتصماً في معقله، مصراً على رفضه، متشبثاً بمقولاته، فيما الأمة تنحدر نحو قاع سحيق من الصراع يهددها في وحدتها وتقدمها. فلم تسفر دعوات الحوار وتجديد المشروعات القومية أو الاشتراكية أو العلمانية أو الدينية إلا عن استعادة للأفكار والمبادئ القديمة وفي صيغ تمثِّل عودة الى الوراء أكثر من كونها تجديداً. ففي "نحو مشروع حضاري نهضوي عربي" مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، لم يجد محمد عابد الجابري ما تواجه به الحداثة، في سياق دعوته لتجديد المشروع القومي، سوى العودة الى إبن رشد وأطروحاته التوفيقية. وليس مستغرباً ان يعود البعض الى أفكار الفصل بين الدين والسياسة التي قال بها نهضويو القرن التاسع عشر، لمواجهة مأزق العلمانية في صراعها المتجدد مع الأصولية، أو ان يتوسَّل البعض الآخر مبادئ العدل والرحمة والإحسان الدينية لتسويغ أفكار الاشتراكية والتحوّل الاشتراكي في المفهوم المعاصر. لكننا نرى ان مثل هذه المحاولات لن تؤدي الا الى مراوحة الخطاب السياسي العربي مكانه، إذ لا مفر من تفكيك مقولات هذا الخطاب واحدة واحدة من أجل إجراء تغيير جذري وثوري يقلب الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التحوّل الى خطاب ديموقراطي مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع الواقع ومع التاريخ. ديموقراطي مع الذات بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقها في التحدي والرفض والمساءلة. وديموقراطي مع الآخر باعترافه به كآخر وكمختلف، لا من باب التسامح والتعايش وإنما من باب الإيمان بالتعددية في مواجهة الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع بكل ما فيه من غنى وتعقيد. وديموقراطي مع المجتمع في تعامله معه باعتباره الصورة الحيّة لنضالات الأفراد والجماعات وتوقها ومخاوفها ورغباتها ودأبها اليومي، وليس كحقل تجارب للإيديولوجيا وأوهامها ومشروعاتها. وديموقراطي مع التاريخ في النظر إليه بصفته حركة وتحولاً وصراعاً، وليس باعتباره مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب السياسي وبرهاناً على صحتها وتكراراً أبدياً لها. هذه الديموقراطية هي ما نطرحه وما نتطلع إليه في وقت يوشك الخطاب السياسي ان يدفع بالعرب الى السقوط في مآزق قد لا يتصورونها وحيث لا يعود من الممكن الخلاص من تبعاتها. * كاتب لبناني.