وَلَد "السرفيس" البيروتي، وهو سيارة الأجرة الفردية التي غلبت عليها منذ أربعين سنة ماركة"مرسيديس"الألمانية، مجتمعات وليس مجتمعاً واحداً. ويحسب راكب أو مسافر السنين العشر أو الخمس عشرة الأخيرة أن سيارة الأجرة كانت على الدوام تقل عدداً قليلاً من الركاب، يقتصر في أحيان غير قليلة عليه هو وحده. فإذا اختار في زحمة السيارات الكثيرة والمتنافسة على خطب وده واحدة منها، واستقلها، وجلس على المقعد الأمامي بجوار السائق، ألفى جاره العابر، أي السائق، متجهماً منكفئاً، يغمغم في سره أو في علنه عتباً على"الدنيا"أو هجاء. والسواقون فئتان أو جماعتان. فهم إما فتيان دعاهم الى السَّوْق تقطيعُ وقت يسبق غالباً سفراً الى الخارج، أو الحصول على عمل جديد، أو حلولهم محل قريبٍ، والد أو شقيق أو صهر، اضطر الى بطالة موقتة، أو هم رجال مكتهلون، وبعضهم مسنون، قضوا سنوات طويلة في المهنة، غارقون في أحلامهم، أو في أغاني الراديو، أو في أشرطة خطب وحلقات تدريس وندب حسيني وأدعية وأذكار ونشرة أخبار. وإذا انتبهوا، ولم يكونوا في حديث طويل ومتعرج مع رفيق ينقلونه اتقاء الوحدة والضجر، اقتصر كلامهم على إعلان ما يهجسون به قبل دخول الراكب السيارة. فلا يتبادلون حديثاً، ولا يستدرجون إليه، ويمتنعون من استدراجهم الى رأي. والمكتهلون والمسنون هم من أهل الحرفة. وبعضهم يتخذها عملاً ثانياً الى عمل أول كثير المذاهب والوجوه: فالسائق قد يكون، في"حياة"أخرى، شرطي سير أو دركياً أو كاتباً مدوناً أو حارساً أو صاحب دكان صغير يتداول البيع فيه مع أنسباء وأهل. ولا يبعد أن يلتقي الراكب مدرساً ابتدائياً ومؤلف"كتاب"ينقله معه ويلازمه في رواحه ومجيئه، ويعرضه على من يقلهم ويفيض في الكلام عليه. وهذه جماعة أغزر كلاماً من الأولى، وأصحابها بلديون محليون، نسباً وسكناً. وإذا لم يكونوا ضحايا كوارث وحوادث ثقيلة حلت بهم في أثناء العقود الثلاثة المنصرمة، وسياراتهم مرآة أحوالهم الأمينة والصادقة، عمدوا الى محادثة تترجح بين طلب التعارف وبين استعجال تلاوة حكمة حصلوها من اختباراتهم. ويدل السائق من هذا الضرب أو الصنف بنسبته البلدية. فيلاحظ على الراكب لهجة"لا تشي بمنبت"بيروتي"يشارك فيه السائق، أو يطلب إليه، وإلى الركاب الآخرين القلائل، الاستماع الى رواية يتوقع عجبهم منها. ومباشرة الركاب والسائق محادثة مولودة من ملابسات ركوب السيارة، قليلة. وليس السبب في هذا قلة الركاب وكثرة سيارات الأجرة التي رخص لها بعشرات الآلاف منذ 1994، ولا قِصر الرحلة أو المسافة بين الصعود الى"السرفيس"والنزول منه وتبدل المسافرين السريع في الأثناء، ولا غلبة الطرقات الفرعية على محاور السير الاضطرارية، وحسب. فهذه كلها وقائع"مرورية"أو"سيرية"حقيقية. وتعود الى عوامل اجتماعية وأهلية نجم بعضها عن الحروب الداخلية الطويلة مثل تباعد المناطق وتقطعها، وخسارة المدينة الكبيرة مركزها وشبكة مواصلاتها المتفرعة عن"قلب"جامع، ونجم بعضها عن أطوار الاستهلاك الجديدة مثل غلبة السيارات الفردية على النقل"المشترك"والعمومي على حده الأدنى، واقتصار المشترك هذا على الفقراء والأجانب. فإلى هذه العوامل اضطلع عامل آخر، أقل ظهوراً، بدور راجح. فمع الهجرة العريضة والتهجير وموجاته، واختلاط السكان القسري والمضطرب في أثناء"جولات"الحروب، وخسارة أحياء المدينة تجانسها الأهلي وتآلفها الداخلي والتقليدي - دخل"الغريب"عقر الدار. وشاع الخوف منه، ومن عيون المخبرين والأرصاد "الجواسيس". وبالغت المنظمات الحزبية، اللبنانية والفلسطينية والسورية، في شواغلها الأمنية وهواجسها. ولم تطوِ عودة الأمن، واللبنانيون سمّوه ويسمونه الهدوء، الشواغل والهواجس هذه، بل هي ربما فاقمت وطأتها. فسادَ وجوم متجهم، وحذر متوجس، مجتمعات"السرفيس"وسيارات المرسيديس. وأدى ضمور عدد الركاب، واحتدام المنافسة بين عدد لا يحصى من السيارات الجديدة الرخصة والسواقين الجدد، واختلاط جمهور الركاب وتشردهم وتجددهم وفقرهم، الى ضعف معايير المعاشرة أو الجوار والمخاطبة، وتردي آدابهما المهنية والأخلاقية. فمن يستقل سيارة أجرة من مكان أو موضع، قاصداً مكاناً آخر قريباً، على الأغلب، لا يأمن شرود السائق عن"الخط"المعروف والمفترض، تلبية لحاجة راكب طارئ وطلبه. فپ"السرفيس"البيروتي الجديد اضطر الى الخروج على رسم"الخطوط"المعروفة والمستقرة. وقسرته أحواله الجديدة على ارتجال الخطوط المتقطعة والمتصلة على عجل. والسواقون، شأن الركاب، يرتجلون خطوطهم، وينتقلون من خط الى آخر. فلا يدعوهم التبديل هذا الى اعتبار بعضهم مكانة أو حقوق بعضهم الآخر. فانحل مجتمع السيارة العمومية في فردية شرسة وبرية. ولا يعصم الراكب الفرد من عدوان شركاء الضرورة والاضطرار، أو من حذرهم وانكفائهم، إلا مبادلتهم حذرهم وصمتهم.