سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
من الكرادة الى جرمانا ومن الأعظمية الى القدسية . عراقيون ينسجون في الشام مجتمعات موقتة ومنفتحة على أهل الدار ويروون حكايات بغداد الدامية على أبواب السفارات الأوروبية
هاربون على عجل من رعب الموت اليومي في بغداد الى فسحة أمان وفرتها دمشق برحابة صدر. تلمحهم في كل لحظة ينقلون أمتعتهم من مكان سكن موقت الى آخر ويتناقلون حكاياتهم عن بغداد التي يهجرها أهلها الى المجهول. لا إحصاءات رسمية دقيقة في سورية كما في العراق عن حجم المهاجرين العراقيين، وان كانت تقارير سورية أشارت أخيراً الى هجرة نحو 600 ألف عراقي الى"الشام"فيما ترى إحصاءات اخرى ان العدد ربما تجاوز المليون ونصف المليون نازح يحاول بعضهم قضاء اشهر بانتظار فرج عراقي بات صعب المنال ويبحث آخرون عن منفذ هجرة الى اوروبا يكلف في العادة ثروة طائلة كافية لحياة هنيئة في البلد الام. زاحم الضيوف سكان البلد غير المتذمرين واختاروا تشكيل مجتمعات في الأحياء المختلطة نقلوا إليها أصناف الطعام العراقي وأسماء مدنهم ولهجتهم المميزة. على باب السفارة لا تخطئ العين صفوفاً من العراقيين على أبواب سفارات مختلفة، مصر والإمارات واليمن طلباً لتأشيرة دخول وعلى أبواب سفارات النرويجوالسويد وهولندا طلباً للجوء إنساني وحتى امام باب سفارة العراق في دمشق للحصول على جوازات جديدة او تمديد صلاحية القديمة. والمشهد لدى الأخيرة مألوف خصوصاً لمن عايش فساد المؤسسات العراقية فالمعاملة" تعرُج"بطبيعتها الولادية لكن سرعان ما تسابق الريح مع مبلغ"إكرامية"لموظف السفارة يبدأ من 20 دولاراً ويتصاعد بحسب أهمية الخدمة وسرعتها! يقول عباس حاتم الذي أضاع جواز سفره:"مازلت منذ أسابيع أراجع السفارة للحصول على جواز جديد وكان الرد دائماً ان السفارة ستمنحك ورقة تأييد للعودة الى العراق وهناك تحصل على الجواز البديل، لكن موظفاً همس في اذني اليوم طالباً 200 دولار لإكمال المهمة". ويعلق:"المبلغ زهيد مقارنة بتكاليف السفر الى بغداد وسيطالبني الموظفون هناك بمبالغ مضاعفة""الحياة"حاولت الاتصال بالسفير العراقي في دمشق الذي شغل المنصب اخيراً لكن مدير مكتبه قال إنه لا يلتقي صحافيين ربما بسبب موقف السفارة من اتهامات المسؤولين في بغداد لسورية بدعم الإرهاب في وقت تستقبل المنافذ الحدودية والمطارات السورية قرابة ثلاثة آلاف نازح عراقي يومياً. يختلف المشهد قرب السفارة السويدية في دمشق التي فتحت في شكل محدود أبواب قبول طلبات اللجوء من خارجها مفترضة ان المهربين سيتكفلون بمهمة إيصال المهاجرين مقابل تأشيرة دخول تمنح باتفاق بين السفارات وعصابات لنقل المهاجرين غير الشرعيين تنشط في اوروبا وتتحول الى مؤسسات عملاقة . الحكايات مختلفة أيضاً، ويؤكد سمسار فيزا" شنكل"التعبير المحلي للتأشيرة الأوروبية ان لا أمل بقبول طلب لجوء من خلال السفارة ويقترح على أحدهم دفع مبلغ 11 ألف دولار لمنحه فيزا رسمية الى السويد ونقله الى هناك ويبقى عليه ان يمزق جوازه وينتظر موافقة السلطات على طلبه بعد مقابلات تقيس مدى استعداده للاندماج في المجتمع الأوروبي. أصحاب الخبرة يحذرون الوافدين الجدد من تأشيرة"مضروبة"يروجها السماسرة تاركين ضحاياهم لمصير مجهول في أحد المطارات التي تمر بها الرحلة وعادة ما يكون مطار اسطنبول او كوالالمبور. لكن حالات خاصة يمكن ان تمرر من خلال السفارة في دمشق وهذه تعتمد على حجم الكارثة التي حلت بطالب اللجوء. احمد الذي قتل أخوه في بغداد على يد الميليشيات وتعرض لتهديد بمغادرة حي الشعب شرق بغداد خرج من مقابلة في السفارة خالي الوفاض. بدا منهكاً وضائعاً حين عرض على الحاضرين ملف اللجوء، صور لأخيه بعد قتله وأخرى لمنزله الذي أصيب بقنبلة يدوية وثالثة لرسائل تهديد تلقاها وكل هذا لا يجدي. سمسار اللجوء وهو سويدي الجنسية من اصل عراقي عرض على احمد حلاً آخر اذا كان لا يتمكن من دفع تكاليف تأشيرة الدخول. همس في أذنه"سأمنحك صوراً لجثة مشوهة بسبب التعذيب وشهادة وفاة عراقية تحدد طريقة القتل والأفضل ان تعرض صوراً لعدد من أفراد العائلة تم قتلهم بينهم زوجتك وإذا دفعت اكثر سأمنحك نسخة من صحيفة عراقية تروي أسلوب قتل عائلتك وصوراً لهم بعد قتلهم!". الكرادة والكاظمية والأعظمية لا يختلف نمط حياة العراقيين في سورية عن سواهم من المهاجرين خارج بلدانهم، لكن سعيهم الى التجمع في مدن محددة، عادة ما تكون في ضواحي العاصمة، لم يقترن بتشكيل جمعيات او ممثليات او جاليات تعكس خصوصيتهم في اشارة الى إقرارهم بالطبيعة الموقتة والمرحلية لتواجدهم في الشام وإن كانت أحياء مثل جرمانا جنوبدمشق والسيدة زينب غربها والقدسية الى الشمال التي تضم النسبة الأكبر من العراقيين تأثرت بنمط حياة ضيوفها حتى بات العراقيون يطلقون أسماء مدنهم على تلك الأحياء نحو"الكرادة"في اشارة الى جرمانا وپ"الكاظمية"اشارة الى"حي السيدة زينب"وپ"الأعظمية"كناية لوصف حي القدسية. ولعل تشابه نمط الحياة بين تلك الأحياء ومثيلاتها في بغداد برر ذلك التماهي الذي لا يشمل من قريب او بعيد الاتجاه المذهبي لسكانيها فالسنّة العراقيون يتواجدون في"السيدة زينب"بالنسبة نفسها الى تواجد الشيعة في القدسية. ويعلق مروان الدليمي من أهالي الأنبار ويسكن"السيدة زينب"على ذلك بقوله:"العراقيون يتركون خلافاتهم المذهبية على الحدود ويستعيدون هنا ذاكرتهم التي لم يكن لصراعات المذاهب حيز فيها". بعض المسيحيين العراقيين اختاروا بلدة صيدنايا شمال دمشق مقراً لتجمعهم، ربما لتوفر الكنائس فيها، وان كان آخرون منهم اختاروا حي"البرزا"للسكن فيما انتشرت العائلات الغنية في الأحياء الراقية من دمشق خصوصاً حي"المزة"غرب المدينة. "الباجة" وپ"قدوري" وپ"الفلوجة" يقول النازحون العراقيون الذين سبقوا غيرهم الى الشام ان عمان اختارت من العراقيين أشدهم ثراء وضيقت على فقرائهم فيما فتحت دمشق أبوابها للجميع فقدم إليها موظفون وأصحاب مهن وعمال وأساتذة جامعات . المطاعم العراقية الشهيرة مثل"الفلوجة"وپ"قدوري"صارت اليوم من معالم جرمانا، والأخير اغلق أبوابه في حي الكرادة وسط بغداد بعد استهدافه على يد انتحاري بداية العام وانتقل الى دمشق ليصبح مكاناً لتجمع العراقيين. يعلق وصفي اللحام من أهالي جرمانا ممازحاً:"العراقيون حريصون على ألاّ يأكلوا سوى من المطبخ العراقي الغارق في الدهون واللحوم"، ويستدرك:"تصور ان تجد أحدهم يأكل الباجة العراقية فجراً"! وپ"الباجة"هي"لحمة الرأس"لدى المصريين. لكن استثمار العراقيين لم يقتصر على المطاعم فهناك لافتات لمحال متنوعة كپ"نقليات الحديثي" او "الموسوي للإلكترونيات" او "اهل بغداد للستائر". ويعتقد الدكتور حمود اللحام ان النمط الاستهلاكي لحياة العراقيين أنعش الاقتصاد السوري في شكل عام وان كان اسهم في رفع الأسعار وزاد حياة الفقراء صعوبة. ومنذ قدوم العراقيين بأعداد هائلة نشط أصحاب العقارات والمقاولون في حركة بناء لا يكاد يخلو منها شارع في دمشق فيما لجأ أصحاب الأملاك في مدن تجمع الوافدين الى دخول حلبة الاستثمار العقاري سواء بتطوير بناياتهم لتأجيرها ام بتوسيعها لتضم المزيد من الشقق. وعلى رغم امتناع المؤسسات الرسمية السورية عن منح شهادات تمليك للعراقيين، أوجدت ما يطلق عليه هنا"نظام ضمان الحقوق"الذي يسمح عملياً للعراقيين بشراء مساكن تتوقف إجراءات نقل ملكيتها عند الكاتب العدل ويحق للمتعامل بها بيع العقار وشرائه ما سمح بحركة استثمار عراقية واسعة في مجال العقارات. لكن مستثمرين آخرين دخلوا مجالات اخرى خصوصاً الصناعية منها فيما ظلت الأعمال التجارية الأكثر رواجاً وإن كانت طريق دمشق - بغداد محفوفة بالمخاطر. يقول سعدي عامر وهو تاجر سجاد في سوق الشورجة في بغداد ويقيم حالياً في دمشق"أحاول الاستمرار في تجارتي واستحداث وسائل جديدة للتغلب على المخاطر أبرزها الاتفاق مع قطاع الطرق على منحهم إتاوات ثابتة والاتصال بمجموعات مسلحة معروفة في الأنبار لتوفير الحماية للشاحنات من هجمات عصابات أخرى". ويضيف"المشكلة الأساسية في نقل البضائع اليوم داخل بغداد وليس خارجها، فالمليشيات المسلحة لا تكتفي بمصادرة البضاعة بل وقتل سائقي الشاحنات ومعظمهم من أهالي محافظة الأنبار السنّية". ويكشف عامر عن وسيلة جديدة يلجأ إليها تجار الشورجة اكبر أسواق الجملة في بغداد تتمثل بنقل الحمولة على مرحلتين الأولى تبدأ من سورية وتنتهي على مشارف غرب بغداد حيث يتم تفريغها في شاحنات اخرى سائقوها شيعة الى أسواق الشورجة ومنها الى محافظاتجنوبالعراق. عراقيون بلهجة شامية ولا يتقن الشاميون اللهجة العراقية على رغم اختلاطهم الكثيف بالعراقيين الذين أجاد معظمهم اللهجة السورية، ربما من باب الحاجة الى مجاملة أصحاب الدار، لكن السوريين اخذوا رويداً يفهمون بعض المصطلحات العراقية فما عادوا يتساءلون عن معنى هواية - كثير او جوة - اسفل الخ... وإن كانت عبارت"شلونك أغاتي"وپ"الله بالخير"سبقت العراقيين منذ سنوات الى الشام فلم يعد مستغرباً ان يباغتك سائق الأجرة بعبارة"شكو ماكو"قبل ان يسأل كمثل جميع السوريين عن أحوال بغداد وما أصاب أهلها ويدخل في نقاش بات تقليدياً عن"الخيانة"وپ"الاحتلال"وپ"المقاومة"قبل ان يودعك بعبارة"تكرم عيونك".