تناولت حلقة الأمس حالة العراقيين المسيحيين اللاجئين إلى الأردن، ورصدت حالات رحيلهم الجماعي والفردي والتهديدات المباشرة التي تصلهم خارج النزاع الأهلي الدائر. وسلطت الضوء على وضعهم القانوني والإنساني على أن تتناول حلقة اليوم وضعهم في سورية حيث يختلف الإطار القانوني والاجتماعي الذي يعيشون فيه وتختلف معه أزماتهم وحلولها وإن كانوا في الحالات كلها ومن ضمنها لبنان (حلقة الغد) يشكلون نموذجاً صارخاً من «اللجوء المديني». لا يمكن الباحث عن تجمع للاجئين العراقيين المسيحيين في دمشق أن يخطئ. فجميع الطرقات تؤدي به إلى جرمانا، الضاحية الناشئة على بعد نحو 8 كلم جنوب العاصمة السورية وحظيت عن جدارة بلقب «بغداد الصغيرة». فإضافة إلى تواجد بعض الكلدانيين في منطقة باب توما وسط البلد، تعتبر جرمانا اليوم أولى مناطق تجمع العراقيين المسيحيين في سورية، وثانية من حيث الكثافة السكانية بعد منطقة الست زينب ذات الغالبية المسلمة، والتي تضم وحدها 20 الف لاجئ، هو عدد يوازي عدد العراقيين في مدينة حلب كلها. جرمانا التي تكاد تتصل بالعاصمة، تحسب إدارياً ضمن محافظة ريف دمشق. وهي إذ ذاك في منزلة بين منزلتين، لا ريف ولا مدينة. بل مجرد تراكم سكاني هجين من البشر والبناء والأنماط السلوكية يتأرجح بين هامشية الأرياف وحياة المدن السفلية. وتبدو جرمانا لزائرها كأنها نمت على غفلة من محيطها الجغرافي. فأبنيتها الممتدة أفقياً لم تشيَد بتدرج زمني يفصل بين بناء الطبقة الأرضية والطبقات الأخيرة، كأن يبدو مثلاً تراجعاً في نوعية البناء أو الطلاء مع تكدس السكان بعضهم فوق بعض، أو كما هي الحال في المناطق التي تخسر قيمتها العقارية فتتدرج في البؤس من منطقة وسطى إلى فقيرة. بالعكس تماماً، ذاك أن عشوائية البناء وشروطه المتواضعة من جدران غير منتظمة الزوايا تراصفت بلا إسمنت يمسك حجارتها يجعل التآكل يبدو حالة مقيمة وغير طارئة على أحياء جرمانا. وككل الضواحي التي ولدت في غفلة من المدن وبغير رغبة منها، تعيش جرمانا اليوم كابنة غير شرعية لدمشق، أضيفت إلى أزماتها القائمة أزمة توافد العراقيين. وجرمانا ذات الغالبية الدرزية والمسيحية قبلة للسوريين من مختلف المشارب الجغرافية ومن مستويات اقتصادية متوسطة ودنيا، تجمعهم الرغبة بالانتقال إلى العاصمة لكنهم غير قادرين على تحمل أكلافها. جاؤوا أفراداً أو عائلات من محافظات متباعدة وخلفيات متباينة لأهداف وأغراض متناقضة أحياناً، فتقاسموا السكن في نوع من الجيرة الاضطرارية. هذا إضافة إلى نوع آخر من الجيرة غير المنسجمة، هي مخيم للاجئين الفلسطينيين يحاذي جرمانا ويحمل أيضاً اسمها. ومن طالب في كليات العاصمة، إلى عامل يسعى إلى رزقه وتاجر طامح بالتوسع مروراً بموظف عيّن حديثاً وغيرهم من مجرد المتشوقين للعيش في المدينة، جمعت جرمانا هؤلاء القادمين من مناطقهم وأريافهم حاملين عقلياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وحتى لهجاتهم التي لا تكاد تفهم فيما بينهم. وكان عددهم يناهز 100 ألف حتى سنوات قليلة مضت، رفعه اللجوء العراقي المفاجئ وغالبيته مكونة من المسيحيين الكلدانيين والآشوريين إلى نحو 250 ألفاً بحسب تقديرات غير رسمية. ويشكل الانطلاق من تلك الضاحية التي تقف على شفير انفجار سكاني، خطوة اساسية لفهم سبب اختيار العراقيين المسيحيين لها ولمحاولة تفسير أزمات لجوئهم في هذا البلد التي تختلف عنها في الأردن ولبنان. ففي منطقة قريبة لا تبعد أكثر من 3 كلم عن جرمانا، يندر أن تجد اسرة عراقية واحدة لأن السكان هناك متحدرون من مناطق متجاورة وينتمون إلى عائلات متناسبة وهم إلى حد بعيد نسيج اجتماعي متماسك يصعب اختراقه بالأغراب. أما في منطقة متشعبة وناشئة كجرمانا فوجد المسيحيون العراقيون والأقليات الأخرى ملاذاً آمناً، يقربهم من دمشق ويبعدهم من غلاء المعيشة فيها. لكنهم بتوافدهم الكبير وبعض القدرات المالية التي جاؤوا بها رفعوا أسعار العقارات في شكل مفاجئ بأكثر من 40 في المئة في منطقة لا تحتمل قفزات من هذا النوع فزادوا من ضائقتهم وضائقة المحيطين بهم في آن واحد. وفي حين تشير آخر قاعدة بيانات للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى وجود 31 ألف لاجئ في الأردن مسجلين لديها، و8 آلاف في لبنان، تعد سورية وحدها 140 ألفاً يشكل المسيحيون منهم 11 في المئة (أي حوالى 15 ألفاً). لكن الأرقام الرسمية وشبه الرسمية السورية تجمع على وجود نحو مليون ونصف المليون لاجئ عراقي موزعين على المدن والمحافظات الرئيسة في ما يشكل ذروة في اللجوء المديني. وسبب عدم تعداد المليون ونصف المليون في لائحة المفوضية أنهم غير مسجلين لديها لأسباب كثيرة منها عدم الرغبة في الانكشاف مثلاً، لكنهم حاصلون على أذونات دخول حدودية من قبل الأجهزة السورية ما يسمح باعتماد الرقم. وفي مقارنة بسيطة بين جداول الإحصاءات الصادرة عن المفوضية في شهر تشرين الأول (اوكتوبر) الماضي، يظهر أن أعلى نسبة من المسيحيين اختارت لبنان بواقع 40 في المئة من أصل 8 الآف لاجئ (3 آلاف تقريباً) فيما أعلى نسبة أقليات عموماً من صابئة وأزديين وغيرهم اختارت سورية بواقع 4 في المئة من أصل 140 ألفاً (أي 6 آلاف تقريباً) يضافون إلى 15 الف مسيحي. وإذا كان ذلك يؤشر إلى شيء فلتفضيل العراقيين عموماً وأقلياتهم خصوصاً سورية على بلدان الجوار لعدد من الأسباب أولها أن سورية شرعت أبوابها لهم منذ البداية ولا زالت، وشملتهم بسياساتها الرعوية التي تطبقها مع مواطنيها فلم تستثنهم من التقدمات الاجتماعية والتربوية والصحية كلها. لكن قبل هذا وذاك، سورية بلد آمن ومستقر لا مجال فيه للتحديات الطائفية او المبارزات العددية، سياسية كانت أو اجتماعية. لذا ليس من قبيل الصدفة أن يتوجه 20 ألفاً من الأقليات الدينية (مسيحيين وغير مسيحيين) إلى سورية على رغم التجاذب السياسي المحتدم بين البلدين واتهامات القيادة العراقية بضلوع سورية في زعزعة الأمن عبر تسهيل وصول المقاتلين إلى العراق، كأن حدودها فتحت باتجاهين معاً. غير أن اللاجئين ومن يعمل معهم ينأون بأنفسهم عن تلك الدهاليز السياسية لأن ما يعنيهم بالدرجة الأولى ضمان أمنهم، وهم هنا يشعرون بأنهم محميون بنظام رسم خطوطاً واضحة لأدوار الأقلية والأكثرية. فالمسيحيون «ليسوا تحصيلاً لوضع سياسي وإنما هم موجودون منذ فجر تاريخ المنطقة» على ما يقول سامر لحام، مدير قسم التنمية والعلاقات اللاهوتية في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس. ويضيف «حكومتنا لديها خط أحمر بهذا الصدد ما يسمح للجميع بالعيش بالتساوي كمواطنين». ومن مكتبه في البطريركية في منطقة باب توما يتابع «هذا المبنى نفسه مشيد في الشارع المستقيم الذي مر به بولس الرسول، والدولة أعلنت سنة الرسول بولس وهو ما لم تقم به أي دولة عربية. وليس ذلك من باب الدعاية السياحية وإنما هي رسالة سياسية واضحة لكل ذوي الميول المتطرفة». ويتابع «هذا أمر مهم للمسيحيين في المنطقة كلها وليس فقط في سورية. وهو ما يجعل العراقي الذي يأتي لا يخاف من الإجهار بدينه. أما في بلدان أخرى فقد يطرح على نفسه مئة سؤال قبل اللجوء». وبعد استهداف المسيحيين في العراق وصلت الى «بغداد الصغيرة» وحدها وبحسب مصادر محلية 150 عائلة لم يتسنَّ لأفرادها بعد التسجيل لدى المفوضية. وانضمت غالبية تلك الأسر إلى اقرباء أو جيران، أو حتى عائلات سورية فتحت أبوابها لها بانتظار أن تضاف الى التضخم السكاني الذي تشهده المنطقة. وتعمل البطريركية على مساعدة نحو 8 آلاف عائلة عراقية من الانتماءات الدينية كافة «حيث لا فرق بين مسيحي ومسلم في الاستفادة من برنامج المساعدات» لأن ذلك وبحسب لحام نفسه يتعارض مع سياسة البلد والإيمان المسيحي، إضافة إلى أن بطريركية الروم الأرثوذكس لا تتلقى أشخاصاً من الطائفة في شكل مباشر لعدم وجود كنيسة لها هناك. لكن لحام لا ينكر وجود جمعيات كنسية ترعى شؤون أبنائها بالدرجة الأولى وتعطي ما يفيض عنهم للطوائف الأخرى. وتوزع البطريركية لوازم صحية ولوازم للأسرَة وتقدم التدريب والتأهيل لنحو 2500 مستفيد ضمن برنامج متنوع من التعليم الى الحصص الغذائية وتنمية المهارات والمساعدة النفسية. ويقول لحام «هناك برامج لم نتمكن مع العمل فيها وهي الرعاية الصحية. تعاونا في مجال المعوقين وهم كثر نظراً لما مر على العراقيين من حروب متتالية لكن ليس من باب العلاج وإنما من باب تقديم المساعدة المعنوية وبناء القدرات والمهارات. كذلك لم نعمل على المرأة المعنفة الموجودة بكثرة داخل المجتمع العراقي اللاجئ، ولم نعمل على الاعتداءات الجنسية على النساء والأطفال وهي أيضاً منتشرة بكثرة نتيجة الظروف الاقتصادية والإنسانية التي يعيشونها». ويعمل متطوعو البطريركية وموظفوها وبعضهم عراقي على التثقيف الصحي وكيفية التعامل مع المجتمع المضيف حيث تواجههم في سورية كما في الأردن، ثقافة مختلفة لناحية التعامل مع الموارد الطبيعية. فالثروة المائية متضائلة في سورية وهم مستهلكون نهمون للمياه والكهرباء والمازوت وغيرها من المواد المدعومة حكومياً ما يزيد الضغط على الموازنة العامة. ويشرح لحام «المشكلة انهم لا يعيشون في خيم او معسكرات لضبط امورهم، وإنما تمركزوا في اماكن رخيصة وشقق متواضعة قد لا تتوافر فيها الشروط الصحية اللازمة وتعيش أكثر من عائلة واحدة في منزل ضيق وصغير مع مرفق صحي واحد فإذا مرض أحدهم قد ينقل العدوى للآخرين». ونظراً إلى ان سورية فتحت مؤسساتها التعليمية بمراحلها كافة، من الروضة وحتى الجامعة أمام «ضيوفها» بحسب ما تعرفهم تأشيرات دخولهم، ساهمت جمعيات اهلية خاصة والهلال الاحمر بالعمل على الرعاية الصحية. لكن المشكلة التي باتت تواجه تلك الجمعيات أن الحكومة منعت عنها التمويل وحصرته بالهلال الأحمر ووزارة الشؤون الاجتماعية، وهو ما يثير اليوم نقاشاً واسعاً في اوساط اللاجئين حول ما ستؤول اليه أحوالهم، خصوصاً هؤلاء الذين يستفيدون فقط من خدمات الجمعيات. المركز الصحي التابع لدير خليل إبراهيم للروم الكاثوليك في جرمانا واحد من المتضررين من القرار الحكومي على رغم أنه اكبر مركز صحي بحسب وزارة الصحة والدير التابع له من أهم الأديرة التي تقدم خدمات متكاملة على ما قالت مديرته الأخت ملكة التي لا تجد تفسيراً للقرار الحكومي. وتقول «كنا نقدم خدماتنا لكل لاجئ يحمل ورقة حماية من المفوضية العليا للاجئين فيدفع 20 في المئة عن كل عمل طبي تقل تكلفته عن 10 آلاف ليرة سورية (... دولار) والبقية تسدده عنه المفوضية. وإذا فاقت التكلفة 10 آلاف يدفع اللاجئ 30 في المئة». وفي حال إحالة المريض إلى مستشفيات كبيرة تقدم الفواتير للمفوضية مرفقة بورقة الحماية والتقرير الطبي الذي يعده أطباء المستوصف. وتقول الأخت ملكة «لدينا التخصصات كافة وكنا نرسل المرضى إلى المستشفيات كافة ومنها مركز الباسل لعمليات القلب المفتوح إلى أن تحددت خطة العمل لجمعيات خيرية كثيرة فبات على كل المرضى العراقيين ان يتلقوا العلاج في مستشفيات الدولة فقط». وتتابع «في منتصف 2010 منعت عنا المساعدات كلياً وحصرت المنح بوزارة الخارجية، والهلال الأحمر، ووزارة الشؤون الاجتماعية. قطعوا التمويل وجعلونا نستقبل العراقي مثله مثل السوري». وأدى انقطاع التمويل عن المركز الصحي في حي كشكول الفقير إلى وقف عدد من النشاطات التي كانت تستفيد منها أسر عراقية كثيرة في المنطقة. فوجبة الغذاء المتكاملة والمجانية التي كانت توزع يومياً لنحو 100 عائلة عراقية، يتراوح عدد أفرادها بين 5 و10 «تحولت الآن إلى 150 عائلة سورية على مدار 3 أيام بالأسبوع». كذلك الموظفون الذين كانوا يعملون في المستوصف مع كل ما يحمله ذلك من مساعدة لهم ولأسرهم تقلص عددهم إلى 2 فقط. لكنْ للهلال الأحمر السوري رأي مختلف في هذا الصدد، فتقول مديرته العامة منى كردي إن القرار ليس جديداً بل اتخذ في 2007 عندما وضعت خطة فعلية لمعالجة أزمة اللاجئين بعدما أثقلت كاهل الحكومة السورية التي تحملت أعباءها وحدها منذ بداية الحرب على العراق في 2003. وتقول كردي «الحكومة تغاضت عن تطبيق القرار منذ البداية لأن الجمعيات لم ترتكب اي خطأ، لكنها عملياً غير نظامية وبعضها غير مرخص. وعندما طلب حصر العمل بالجهات الرسمية كان لا بد من التعامل مع جمعيات مرخصة. فالروم الكاثوليك مثلاً يفضلون عدم استصدار رخصة فيما البطريركية الارثوذكسية مستمرة بالعمل». كلام لم تعارضه الأخت ملكة التي قالت «عندما طلبوا منا العمل تحت مظلة الهلال الاحمر رفضنا». وتوافقها ممثلة مفوضية اللاجئين في سورية ريناتا دبيني التي قالت «البطريركية وجدت طريقها إلى وزارة الخارجية وبالتالي الينا. ومن المؤسف جداً أن يوضع حد لأشخاص ملتزمين بالعمل الإنساني لكن ببساطة الحكومة تفضل العمل مع جمعيات علمانية تحت إشرافها وليس مع تنظيمات دينية أياً كان توجهها». وتشكل وزارة الخارجية مصفاة أولى لضبط مصادر التمويل والتبرع الخارجي في وقت تتشدد سورية حيال الجمعيات الدينية عموماً، لما قد يفتحه عليها العمل الخيري هذا من نشاط كيانات دينية دعووية أو تبشيرية، لا ترغب في نموّها على أرضها. سوى أن بعض تلك الجمعيات المرتبط بكنائس قوية التنظيم في الخارج يجد طريقه إلى العمل في شكل أو في آخر. وتقول الأخت ملكة «بعد وقف التمويل، جاء الآشوريون وعقدوا معنا اتفاقية ليساعدونا ليس بالمال المباشر وإنما بتسديد تكاليف بعض المرضى من أبناء الطائفة. لكن يجب ان يحملوا ورقة من جمعية الآشوريين». وتتابع «الكلدانيون ايضاً نظموا أنفسهم على هذا الشكل، وأنشاؤوا مركز مساعدات في كنيسة القديسة تيريزا في حارة بولاد بمنطقة باب توما. واليوم يأتي العراقي فنسأله انت آشوري أم كلداني؟ وبناء عليه يتلقى المساعدة من الجهة التي تدعمه». وإذ تلفت الأخت ملكة إلى أن الهلال الاحمر يساعد الجميع بمعزل عن الطائفة إلا أن ما يحدث هو رفض بعض المرضى أنفسهم فترة الانتظار التي تفرضها عليهم الإجراءات الحكومية خصوصاً لجهة إعطاء الأولوية للحالات المستعجلة، إضافة إلى تفضيلهم تلقي العلاج في مستشفيات خاصة. وتشكو كردي بدورها من تراجع التمويل في شكل عام فالموازنة المخصصة لعام 2010 كانت اقل من التي سبقتها وثمة خوف من تقليص موازنة 2011 أكثر في حين يستمر عدد اللاجئين في الارتفاع. وتقول «الموازنة في 2007 كانت تعتبر «موازنة طوارئ». ثم في 2008 بلغت الذروة، فعادت وتراجعت ابتداء من 2009 لأن الدول المانحة تعبت من الحرب ولأنها تأثرت بالأزمة المالية». والواقع ان اكثر ما يقضم الموازنة هو تكفل أدوية الأمراض المزمنة وعلاج السرطانات وهو ما استقطب انتقادات كثيرة من المجتمع الدولي. فحتى بلدان التوطين ترفض الحالات الصحية المستعصية وتبحث عمن هم أصحاء، فيما سورية على ما تقول كردي هي البلد الوحيد الذي يقدم للاجئين المصابين بهذه الأمراض علاجاً متكاملاً تماماً مثل مواطنيه. وتضيف «طلب منا التوقف عن تقديم هذه الرعاية لكننا رفضنا. ماذا نقول للناس؟ لأنك لاجئ سندعك تموت؟». وإذ يبدو وضع اللاجئين عموماً والمسيحيين خصوصاً على درجة عالية من الجودة إن لجهة التقدمات أو التسهيلات المعطاة لهم يبقى أن عددهم الكبير يجعل مشكلاتهم من نوع آخر. فتتفق مصادر طبية متعددة على وجود حالات سرطانية نادرة جداً خصوصاً جلدية ورئوية بين العراقيين نتيجة تعرضهم لإشعاعات وملوثات في حروب سابقة. وترتب الأخت ملكة الحالات المرضية الأخرى بحسب توافدها إلى المستوصف الذي تشرف عليه، فتحتل الانهيارات العصبية بأشكالها كافة المرتبة الأولى، تليها الأمراض الجلدية والسرطانية ثم حالات الاغتصاب والعنف الجنسي. وتقول دبيني «ربما تكون الأعداد مضخمة، لكنْ هناك حالات كثيرة مما نسميه عنف جندري، سواء كان جنسياً أو غير جنسي، ووردتنا 600 حالة حتى منتصف 2010 لكن الغالبية لا تبلغ عما يحدث معها. فبدأنا نعرف ونشهد على حالات من العنف المنزلي وجرائم الشرف وهي ظاهرة جديدة». وجرمانا أو «بغداد الصغيرة»، واحدة من البؤر التي تبقيها الشرطة تحت مجهرها. وتناقلت الصحافة المحلية خبر إقفال نحو 60 بيت دعارة في تلك المنطقة ومحيطها، فيما ترددت أحاديث لم يتم التحقق منها عن حالات نقل فيروس نقص المناعة المكتسب المسبب لمرض الإيدز. وتشهد جرمانا ما تشهده الأحياء الهامشية المكتظة في كل بقاع العالم من عنف كامن أو متفجر، وانحرافات سلوكية ينتجها أولاً اكتظاظ المساكن وغرف المنامة بغير أفراد العائلة الواحدة، ثم خروج هؤلاء للعمل في ورديات ليلية أو نهارية تعيق انتظام حياة أسرية آمنة. وصحيح أن القوانين السورية تمنع اللاجئين من العمل، لكن آليات تطبيق القانون تغض الطرف عمن يعملون لإدراك مسبق بالحاجة الملحة لتأمين الدخل. ويشغل العراقيون اليوم الأعمال البسيطة من قيادة سيارات أجرة، والبيع على بسطات الخضار وفي المحال التجارية والعمل في المنازل ومحال التزيين والمطاعم والملاهي وهذه قطاع صاعد بقوة في دمشق وأحيائها السياحية الراقية. وتقول دبيني «كثيرون ممن يعملون في قطاع السياحة وبأجور زهيدة مراهقون ومراهقات عراقيون، من غسل الصحون إلى الخدمة على الطاولات وصولاً إلى الرقص والغناء وما يلي ذلك من أخطار محدقة». وواحدة من مسببات العنف الأسري المتفشي بقوة معرفة رجل البيت الذي فقد دوره كرب أسرة، بخروج نسائها للكسب في قاع المدينة وعجزه في المقابل عن تأمين بدائل واضطراره للقبول ومراكمة القهر إلى أن ينفجر ضرباً أو اغتصاباً أو قتلاً. وتقول موظفة في المفوضية فضلت عدم ذكر اسمها، وتعمل في برامج حماية المرأة «تأتي سيدات أو فتيات أحياناً يطلبن المساعدة فنحولهن إلى دور رعاية، لكن بعد وقت قليل يعدن إلى العمل في الشارع او ضمن شبكات منظمة لأن الدخل عادة يكون مرتفعاً». وإذ تعي الشابة حساسية الحديث في مسائل من هذا النوع وما نتج عنها أخيراً من حملات تنديد من اللاجئين، تشدد على أهمية كشف المشكلة للتمكن من معالجتها لأنها باتت آفة متكاثرة. وتقول «شهدنا كثيراً من حالات الزواج الموسمي حيث يشرف الأهل انفسهم على تسليم بناتهم اليافعات لأزواج من السياح خلال فترة من الزمن ومقابل بدل مادي. ولكن أكثر الحالات قساوة هي تلك التي يرحل الأهل فيها الى العراق او الى بلد ثالث تاركين أبناء مراهقين في سورية لكسب الرزق وهم وإن تجاهلوا الأمر، يعلموا كيف يجني الأولاد مالهم». وبالمقارنة مع الأردن ولبنان، تتصدر سورية جارتيها من حيث الرعاية والاحتضان الذي تقدمه للاجئين إليها في حين أنهم الأكثر هشاشة لكونهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى والدنيا التي لا تتحمل تكاليف الإقامة في عمان أو بيروت. ووسط هذه البيئة يعيش المسيحيون ارتايحاً كبيراً لفتح الكنائس أبوابها لهم، ولحريتهم في ممارسة طقوسهم بلغتهم الخاصة التي يسمونها «مسيحية». ففي دير ابراهيم الخليل، تقام قداديس بلغات العهد الجديد، تذكر فيها لوائح طويلة من «الشهداء» غالباً ما ينتمون إلى اسرة واحدة. وتقول دبيني «المفوضية قلقة جداً مما يحدث للمسيحيين، لكن الوضع الأمني في العراق غير مستقر لأبناء الطوائف الأخرى ايضاً. وعملياً شهدنا ارتفاعاً كبيراً جداً في أعداد المسيحيين الذين تسجلوا لدينا في الفترة الماضية. فإذا كنا نستقبل 100 في الاسبوع، اليوم نستقبل 200». وفي حين تشجع الأخت ملكة على البحث عن بلد توطين نهائي «يؤمن لهم على الأقل الاستقرار والطمأنينة والأمن على رغم الصعوبات»، يرى لحام أن لا حل إلا في استقرار العراق للعودة النهائية إليه. ويقول «هناك مقومات وشروط وطوابير. فتلك الدول لا تأخذ مثلاً المعاقين أو المرضى أو المعدمين. فهي تجنس من يناسبها هي. وينتج عن ذلك أن كثيرين مصابون بالإحباط والمعاناة النفسية نتيجة انتظار شيء قد لا يأتي أبداً». هو موقف أقرب إلى رأي الكنيسة المشرقية عموماً بضرورة التمسك بالحق التاريخي بالأرض حتى وإن كان المسيحيون أقلية، مقابل أفكار لاهوتية أخرى ترى أنه يمكن المؤمن ان يعيش في أي بقعة جغرافية من العالم لأن ليس له رسالة بالأرض بل هو يسعى للآخرة. ويسأل لحَام «هل للمسيحي انتماء حقيقي لأرضه ام يعيش فكرة لاهوتية تختلف حولها الكنائس والمدارس الفكرية؟ نحن كنيسة تقول إذا لم يكن لديك وجود جغرافي فعلي ومبنى وكنيسة وبيت فأنت غير موجود... أصبحنا اقلية؟ نعم، لكننا مسؤولون عنها، وهذا بحث آخر». * أنجز هذا التحقيق بمساعدة من الزميلة سمر إزمشلي من مكتب «الحياة» في دمشق - الشام قبلتنا بعد ان رفضتنا جامعة أربيل