يطل الفنان التشكيلي اللبناني جميل ملاعب ناضجاً مكتمل المراحل والموضوعات غزيراً ومتنوعاً في كتاب فخم باللغتين العربية والانكليزية، خصصه ليروي بقلمه سيرته الذاتية المغموسة بالحنين والتذكارات يقع في 172 صفحة من القطع الكبير صدر أخيراً عن دار الفنون الجميلة سابراً أغوار نفسه في بوح، يستعيد إشراقات الطفولة والرؤى المبكرة ثم المعارض، مستعيناً بالمحفوظات والكتابات التي صدرت عنه، والقصاصات الصحافية والصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لمساره الفني، كما قطف من جنى العمر أجمل الأعمال، كي تزين الكتاب بأعداد كبيرة من الصور الملونة في ألبوم فني متميز. من صورة الرسام بالأسود والأبيض، وهو في مقتبل الشباب ونظرته الواعدة إلى عمر المشيب والنضج. مسار الزمن الذي قطعه ملاعب بجهد العمل والتمرس والمشاهدة والاقتناص واختبار التلاوين والايقاعات، جريئاً ومتغاوياً، حاراً وانفعالياً متلاعباً في المقامات اللونية، وبالتنويع في تيمات تُبقيه قوياً وساطعاً أكان أميناً للواقع أو منقلباً عليه في التجريد. فهو ابن الريف اللبناني من مواليد العام 1948 من بلدة بيصور - قضاء عاليه وابن المدينة منذ قصد بيروت في أوائل السبعينات للدراسة في معهد الفنون الجميلة، حيث انطلق يكتشف تجاربه، قبل أن يخوض في دروب السفر التي نقلته للمرة الأولى إلى الجزائر حين كان طالباً، ومرة اخرى حين صار استاذاً كي يمضي حقبة فنية قصيرة في الولاياتالمتحدة الأميركية ليعود من جديد إلى ملاذ القرية المطمئنة. رسام ونحات وحفّار فضلاً عن إلمامه بفن الموزاييك. هي الوجوه المتعددة للسيرة التي تعرض أنواعاً من التقنيات. رسوم من مرحلة الحرب مشحونة بالانفعال والتوتر والزخرف الخطوطي والتفاصيل الطوطمية، ثم رسوم لبيروت - ما بعد الحرب، تبدو كمنمنمات لذاكرة صوَرية اعتراضية، ونقشٌ يندرج في حقول أفقية أو عمودية يستمد عناصره من مفردات الواقع بتلقائية خالية من أي رقابة، وموضوعات لأصص أزهار من داخل الحجرة الشتوية ومناظر ريفية وبحرية وطبيعة صامتة. إلى ذلك تطل أعمال المرحلة الأميركية، بتقنية"الإيتشنغ"لتعرض بورتريهات الزمن المغاير لمدينة نيويورك ذات الأبراج العالية الزجاجية، التي لم يألفها فنان تمرغ طويلاً بألوان الأرض وتنشق ربيع شتولها وبنفسج حقولها. نُقلّب في الكتاب، فنكتشف أن جزءاً كبيراً من ذاكرة الفنان تتمحور حول موضوعات مقتبسة من عادات قريته وتقاليدها، التي أضحت بمثابة مفكرة ريفية يحضر فيها النساء والأطفال والرجال والمزارعون، في مشهدية تتآلف مع الطيور والحيوانات والنبات والأشجار، وشيئاً فشيئاً تحول الجمع الغفير، لغة شكلانية تصويرية بكل سذاجتها وفطريتها ما زالت مرنة ومطواعة تتراءى على مسطحات ومنحنيات رسماً ونقشاً وحفراً وتنضيداً، إلى حد يصعب الخروج من ثرثراتها وكثافاتها إلا بمسطحات صافية للتجريد اللوني. هكذا يستدعي الواقع التجريد في فن ملاعب تناقضياً تناقض الضرورة والإلحاح. بالبساطة التي يستقبل فيها أهل القرى زائريهم تستقبل لوحات جميل ملاعب ناظريها بفرح لوني مشرع القلب في لغة سردية وصفية تتواطأ مع عادات الضيعة وتقاليدها في مشاهد لا تخلو من الفطرية التي دخلت في قاموس الفنان كمفردات حية لذاكرة مملوءة بالحنين والشجن. فالعلاقة تكاد تكون نمطية بامتياز بين الإنسان والحيوان في مشاهده القروية تتراءى على نحو خيالي في فن شاغال مع إختصار خطوطي في التجسيد الانساني يتعاطف مع رمزية غوغان. ومن معين نساء يفترشن الأرض تغدو اللوحة بساطاً شرقياً من براءة العيش، وزخارف الجدران ومحتويات البيت. وقد افرد ملاعب للمرأة - كنموج حي، معرضاً يقيمه في غاليري جانين ربيز الروشة - بيروت، حتى 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، تزامناً مع صدور الكتاب، في رحلة استعادية تمتد من أوائل السبعينات إلى الإنتاج الأخير، متضمناً 43 لوحة زيتيات وغواش وباستيل تدل على مقدرته في التقاط موضوع هو من أكثر الموضوعات إغراءً وفتنةً في تاريخ الفن الاستشراقيّ على وجه الخصوص، وهو المرأة المستلقية، الذي يندرج ضمن مصطلح الپ"Odalysque"متخذاً في المعرض تسمية"استرخاء الجميلات". من العام 1972 تطل علينا لوحات زيتية تعبّر عن تموضع النموذج في دراسات لتهيئة العين واليد، على مواكبة التجسيد المباشر والحي، فتتراءى الريشة لاهثة في تعبيراتها الخطوطية تارة، وفي طور آخر تظهر المستلقية من الأمام أو من الخلف محاطة بحلة زخرفية باهرة من زخات الألوان التناقضية الملتهبة، في معالجة متمهلة ومتأنية صادرة عن تأمل ومعرفة وتدبّر. وكأن ملاعب منذ بداياته الأكاديمية كان شغوفاً بالتعبير اللوني الحار والمتدفق الذي تفوح منه تأثيرات شرقية ووحشية تدنو من مستلقيات ماتيس بحلتهن الزخرفية أو من عالم المرأة في فن بونار المرقط بشذرات الألوان الحارة. والأهم هو أن المرأة لا تظهر منفصلة عن عالم الحجرة الذي يجمّل المشهد الداخلي الحميم المملوء بالتفاصيل والزخرف اللوني. من نساء الريف اللبناني، إلى نساء من دمشق وبغداد ونيويورك، تنتقل الريشة مثل فراشة تغط داخل مكان مغلق وشبه سري، كي تستكشف عالم النسوة الذي يضج بالحياة والنور والوحشة أحياناً. فالجميلات النائمات ينعمن بالسكينة في خلوتهن وسط مناخات لونية تتسم بالتبسيط احياناً وبالزخرف الشرقي في أحيانٍ أخرى. وتنعكس خصوصية شخصية الفنان ومزاجه التلويني في مرحلة التسعينات، في اختيار فئات الألوان السمراء والترابية الصمّاء التي تطغى على المسطحات. وتشع في سراب الوقت ورماله وكثبانه بقعة حمراء فاقعة، مثل جمرة جالسة على السرير. يأتي ذلك في توزيع يتناغم تدرجاً وتناقضاً وتجاوراً مثيراً ومدهشاً للعين. وليس سراً أن نقول ان التقنية التي يمتلكها ملاعب في التلوين هي قوام اللوحة مهما اختلف موضوعها. هكذا تقترن المرأة بالطبيعة، يؤسلب قوامها ويُختزل ويُجرد في لمسات مضيئة. لكأنها منظر يفتح أمام الفنان شهية أن يتمتع بإثارات اللون الواحد الذي يفرشه، ثم يتفكر بما يليق به من تلطيخ أو تبقيع. فالوجود الاستعاري الشعري، للنائمة المستلقية هو ذريعة وربما بداية مشجعة للعين كي تتجرأ وتقتحم بياض القماش بتأويلات لا تتوكأ على المزج اللوني، بل على التسطيح والتجاور والتبقيع. هكذا يتراجع الموضوع أمام الأسلوب أي سحر الصورة في شموليتها ككلٍ متناغم. هكذا تتبدى على جناح أحلام النسوة فراشات من البنفسجي والوردي والأخضر والبرتقالي. ولعل سر جميل ملاعب أيضاً يكمن في قماشته اللونية الغنية، التي اختزنت حرارة ألوان الريف بنزعة حسية وتلقائية. فالمرأة شكلت ينبوعاً في فنه، وسواء كانت منفردة أو بصحبة العائلة فقد شكّلت ركيزة لمسرى كل الحكايات الأخرى.