تشكّل التجارب العراقية الشابة محور اهتمام غاليري زمان الحمراء - بيروت التي تقيم تباعاً سلسلة من المعارض الجماعية والفردية للفنانين التشكيليين المقيمين في العراق الجريح أو في المنافي. والزائر للمعارض يكتشف مدى تنوع الموضوعات التي جمعها عنوان"الباليت العراقية". وهي باليت مملوءة بالشجن والجراح التي تعكس عذابات الإنسانية، من دون أن يغيب عنها التراث الرافدي، الذي يظهر أكثر ما يكون في استخدام الحروفية والزخارف النباتية والمناخات الشرقية. فالعارضون كثيراً ما يستمدون رؤاهم من الواقع وإن بخبرات متفاوتة، غير أن ثمة أعمالاً متميزة تشكل امتداداً لتجارب بعض جيل الرواد، على وجه الخصوص جواد سليم، كلوحات الفنان عبدالرحمن الشاعري، الذي يستذكر بأسلوب جميل، تأملات النساء وحبور الأطفال، مستحضراً أشكال البيوت والشرفات وأشجار النخيل، في كتابة شجية مزينة بقصائد لبدر شاكر السياب. ومن النظرة الأولى تتمكن لوحات الفنان رياض نعمة من مواليد بغداد العام 1968، مقيم منذ تسع سنوات في دمشق من أن تأسرك، بنسيجها المعقد وعلاقاتها اللونية ذات القوة والفجاجة والسطوع. فالمفردات اللونية قليلة ومحدودة تتكرر وتتناوب وتتعارض وتنسجم من لوحة إلى أخرى، في مشهدية براقة، تعتمد على التوازن الجدلي بين الأفقي والعمودي، والحار والبارد، والأملس والخشن. قد تكون هذه الجدلية بلا قيمة أو جدوى لولا أسرار التقنية في سعيها إلى إيجاد تكاوين من ملامس الأرض وتعرجاتها ونتوءاتها. فالفضاء التجريدي تنهال عليه مقامات الألوان البرتقالية والحمراء والصفراء، لكأنها من حمم وبراكين، بينما ينبثق الإنسان من جذوره كجسم من مادة صلصالية صماء، ليبوح بوجوده المعذب والمقهور، حاملاً على صدره آثاراً من تراث وأبجديات قديمة، تتبدى أحياناً حروقاً من علامات الزمن. بشيء من الإبهام والكثير من التلقائية، يبدأ رياض نعمة في تحضير قماشته ذات السطح الخشن، مستخدماً الخامات والتقنيات المختلطة من رمل وغراء في معالجة تعتمد على التأسيس ومن ثم الحفر بأداة حادة داخل العجائن، ما ينتج حروفاً وأوشمة وطلاسم وزخارف تسعى إلى تحديد معنى حضارياً خاصاً بمقدار ما توحي باللبس والإيهام. علامات من فن السيميولوجيا، لأثر اليد وبصماتها ومساراتها ومداركها، في علاقة عضوية تتجذر في الذاكرة القديمة التراث من جهة والتجريد الحديث من جهة أخرى مرحلة ما بعد الحداثة. من هذه الثنائية، التي تتمحور حولها معظم التجارب التجريدية العراقية الشابة، يأخذ رياض نعمة ليفتش عن ذاته في مشهدية تدنو من الرؤى الكابوسية للواقع. فالوجوه تائهة والعيون تتكور كدوامات، في مناخات درامية لواقع اليوم، يعكس الوجدان الجماعي. نساء على مفارق الدروب الدامية، على بيان من خط الأفق معلقات بين السماء والأرض. أشلاء مقطعة من ذاكرة المجازر والجثث المتفحمة والرؤوس الكئيبة. ضجيج ألوان الحرائق وسط سحابات الدخان الأسود. هكذا تمثل اللوحة قيمة تعبيرية أكثر من أن تكون تشبيهاً لشيء محدد. فالتكاوين الظاهرة تعتمد على ثنائية الثبوت والحركة، الوجود والعدم، الحضور والغياب. السطح الأملس لا يلبيني يقول رياض نعمة:"في المقابل فإن الاشتغال على السطح التصويري يعيدني بقوة إلى ذاكرة الفن الرافدي، وهو ربط تاريخي وإرث غير مقيد لفرط ما يكتنفه من اللعب الذي يقربني من عفوية الطفولة. فاللون يأتي في المقام الأول، ثم تنشأ لديّ تكاوين لا ألبث أن أعطيها ملامح إنسانية خفية، لكأنني أواجه تعقيدات العالم الواقعي بكثير من التبسيط". قامات تنبثق من أثلام الأرض العميقة وتهيم في سماء برتقالية كي تصطرع. وجوه مهشّمة تحتل كامل اللوحة. إنها لنسوة في الإمكان تعيينها من الأقراط التي تتدلى أو الهدبين الساهرين في الظلام. وتتراءى الصورة السالبة لملامح تكاد تكون غائبة إلا من ظلالها وجداول الحروف التي تسيل على الخدين كدموع. فالتعارض الذي ينشأ من تجاور الأسود الفاحم للشعر الذي يتوج الرؤوس والبرتقالي الذي يحوطه، لا يلبث أن ينفرج مع ألوان الأخضر والبنفسجي والأزرق. فالنسيج اللوني الداخلي للكتلة ما هو إلا أرض شعثاء للاختبار والتجريب والتأويل. رياض نعمة انفعالي يقدم إنتاجه أعمالاً تحريضية تستفز العين بألوانها وجحيم براكينها ولوعة تعابير الشخوص التي تعترض مساحاتها. إذ في كل عمل يرسمه يظهر للعيان شخصاً وحيداً هو نفسه الذي يطرق كل مرة باب اللوحة ويدخلها.