لم تنفع كل الحجج والمبررات السياسية التي استخدمها طرفا الصراع في لبنان من اجل الوصول الى مخرج للأزمة. ويتعلق هذا الفشل بكون كل فريق اعتبر ان اولوياته هي المصيرية. وبات كل طرف اسيرا لاولوياته، بغض النظر عن الدوافع والاسباب، الذاتية والمحلية والاقليمية، الكامنة وراء مواقفه. ولم يتمكن احد من اقناع الآخرين بأنه يمكن التوفيق بين هذه الاولويات. وثبت من جلسات الحوار، قبل حرب تموز، وبعدها في جلسات التشاور، ان التعايش داخل الحكومة بات مكلفا لكل من الطرفين. فاختار"حزب الله"وحركة"امل"الخروج من الحكومة والتحول الى المعارضة العلنية. وتعامل فريق"14 آذار"مع هذا الخروج برفض الاستقالة، حفاظا على شكلية دستورية، لكنه عاجز في الوقت نفسه عن ايجاد بدائل من هذا الخروج من اجل ان تتطابق هذه الشكلية مع الدستور. نظريا، تستمد الحكومة شرعيتها من التصويت الاكثري البرلماني. وعمليا لا تزال حكومة السنيورة تتمتع بهذه الاكثرية. والمفارقة هي ان رئيس المجلس النيابي ورئيس الجمهورية اللذين يستمدان شرعيتهما ايضا من البرلمان هما في المعارضة. ولا يكمن المأزق في كون الغالبية اقل قدرة على إحداث تغيير في رئاسة الجمهورية، تمهيدا لانتخابات جديدة يتطابق فيها الدستور مع الثقل الحقيقي لكل طرف. وانما يكمن في كون"الاقلية"النيابية تضم ممثلي طائفة بأكملها الشيعة وبعضاً من طوائف اخرى. ولتصبح قاعدة الغالبية والاقلية عاجزة عن حسم المأزق. وفي هذا المعنى، تعطل الدستور المنبثق عن الطائف، لأنه لم يعد قادرا على القيام بوظيفته الاساسية، وهي توفير مخارج من الازمات السياسية الحادة. لقد اعتبر واضعو الدستور ان مجرد تخصيص الرئاسات الثلاث الجمهورية، المجلس، الحكومة للطوائف الرئيسية، والعمل بأكثرية الثلثين في البرلمان ومجلس الوزراء، يضمن التوافق والعيش المشترك. اذ افترضوا ان الثلثين سيكونان موزعين بين قوى عابرة للطوائف. ولم يتوقعوا خروج طائفة بأكملها من الحكومة، وربما من البرلمان لاحقا. كما لم يتوقعوا عجز رئاسة الحكومة من اختيار بدائل منهم، نظرا الى الاحتكار المحكم للتمثيل الطائفي، او خروج طائفة بأكملها من العملية السياسية. لا يمكن مقارنة خروج الشيعة من الحكم بما كان يسمى"تهميش"المسيحيين، منذ تطبيق الطائف وحتى الانتخابات الاخيرة. اذ ان"التهميش"كان للزعامات المعارضة للنفوذ السوري وحدها، وأمكن استقطاب زعامات مسيحية اخرى لتغطية التمثيل المسيحي، من جهة. ومن جهة اخرى، لم تكن الزعامات الخارجة عن العملية السياسية قادرة على التأثير او التخويف او التهديد لأنها كانت مجردة من السلاح. في اي حال، تواجه الحكومة الحالية وضعاً لا سابق له. وليس مستبعدا ان يكون في حسابات القيادة الشيعية ان خروجها من العملية السياسية لا يجعل منها معارضة دستورية، وانما يؤدي الى مأزق دستوري على الحكومة ان تتدبر امرها في معالجته. وهذا صحيح الى حد بعيد. ركز الشيخ حسن نصرالله، في طلته الاعلامية الاخيرة، كثيرا على الوضع الاقليمي ليستخلص ان هزيمة واشنطن في المنطقة ستنعكس هزيمة لحلفائها في لبنان. وتالياً يمكنه ان ينتظر لقطف ثمار هذه الهزيمة. اما حكومة السنيورة، فعليها مواجهة استحقاقات ضاغطة، بفعل مسؤوليتها اولا وبفعل الاولويات التي تعمل لها، ومنها اقرار المحكمة الدولية وتنفيذ القرار الدولي 1701 والنهوض الاقتصادي. الفريق الآخر استقال. لكن اعتبار الاستقالة مناورة لإفشال المحكمة والتنديد بلا شرعية رئيس الجمهورية الممدة ولايته، والشكوى من التفرد في قرار الحرب، كل ذلك لا يعيد التوازن المفقود. وبعدما اقرت الحكومة مشروع تشكيل المحكمة، آن الاوان ان تبتدع"قوى 14 آذار"مبادرة سياسية، تتجاوز حساب العدد في مجلس النواب والشكلية الدستورية، وتتيح الانفتاح مجددا على الشيعة وتفادي وصول المأزق الى المواجهة الطائفية. وهي المواجهة التي تطيح البرنامج السياسي الذي تدافع عنه والمستهدف من تعطيل التوازن.