لم يسبق لرئيس حكومة في لبنان ان كُلف بشبه إجماع المجلس النيابي. كما لم يسبق ان دعمت غالبية نيابية مطلقة رئيس وزراء مكلفاً. لكن فؤاد السنيورة لم يتمكن، رغم تسجيله هذين السبقين التاريخيين، من اعلان تشكيلة حكومته العتيدة بعد مرور اكثر من اسبوعين على تكليفه في الاستشارات الملزمة. وحتى لو اعلن السنيورة حكومته مطلع هذا الاسبوع، فانه يسجل سبقاً آخر يتمثل في عدم القدرة على ترجمة نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة التي افرزت غالبية واضحة، بما كان يفرض ان يكون اعلان الحكومة، بعد التسمية، مجرد اجراء شكلي، ما دامت الاكثرية واضحة والتيارات المنتصرة في الانتخابات واضحة والدعم المضمون واضحاً ايضاً. كل ذلك لم يحصل. وهذا يعني ان ديموقراطية الانتخابات التي تحدد في المبدأ منتصراً ومهزوما لم تعمل في لبنان. في النظام الديموقراطي، هناك فائز في الانتخابات ينتقل الى الحكم، وهناك مهزوم ينتقل الى المعارضة. فالديموقراطية تعمل في المبدأ، لانها تظهر ان طرفاً يحوز على ثقة شعبية اكثر من غيره، وتعطي لهذا الطرف حق الحكم بغض النظر عن حجم انتصاره الانتخابي. في الحالة اللبنانية، تعثرت اربع محاولات لتشكيل الحكومة، رغم توافر كل العناصر التي تفرضها الديموقراطية ليكون الرئيس المكلف مطلق اليدين في اختيار طاقمه الحكومي وبرنامجه للحكم. اذن، ما عرفته محاولات السنيورة لترجمة الانتصار الانتخابي للتيار الذي ينتمي اليه، يخرج نهائياً عن سيرورة العملية الانتخابية وما تفرضه، وذلك على نحو يصبح التساؤل معه مشروعاً عن معنى الانتخاب. حتى لو تحفظ الجميع عن النظام الانتخابي الذي جرى في ظله الاقتراع الاخير. اكثر من ذلك، فُهم من الفشل الذي اصاب المحاولات الاربع لتشكيل الحكومة ان المشكلة الاساسية لهذه التشكيلات انها"تفتقد"الثلث المعطل، اي ان تتضمن الحكومة ثلث عدد اعضائها من غير المحسوبين على رئيسها، بما يتيح تعطيل اي قرار لا يصوت عليه هذا الثلث. اي ان هذه التشكيلات فشلت لانها لا تتضمن العنصر الذي سيشل حركتها لاحقاً. وبذلك، يمكن لرئيس الجمهورية الذي فقد صلاحية اختيار الحكومات ورئيسها عبر الاستشارات الملزمة وحل البرلمان اذا لم يعط الثقة لاي من هذه الحكومات، ان يُفشل اي حكومة ما لم يضمن فيها قدرته على تعطيل عملها. ويصبح تشكيل الحكومات مرتبطاً بمدى تضمنها عنصر إفشال عملها، وذلك بغض النظر عن قوتها النيابية والتحالفات التي تنسجها. التعديل الدستوري الذي جاء به اتفاق الطائف، لا يعطي لرئيس الجمهورية وحده الحق في احتكار"الثلث المعطل"، وإن في مقدوره المطالبة به وضمانه من اجل توقيع مراسم التشكيل. بل هو حق يمكن ان يطالب به ايضاً اي طرف يتمتع بقوة برلمانية يحتاج اليها اي رئيس مكلف لضمان الثقة لحكومته. وهو ما اشترطته كتل برلمانية كبيرة على السنيورة. ولما كانت هذه الكتل يغلب عليها اللون الطائفي، ينقلب"الثلث المعطل"الذي اريد منه ان يكون اداة توازن في الحكم بعد نهاية الحرب الاهلية الى فيتو في ايدي الطوائف اللبنانية الكبيرة واداة تعطيل للعمل الحكومي. جاءت تسمية السنيورة في اطار مضاعفات اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وبعد موجة التعاطف، خصوصاً في الوسط السني، والتي جاءت ترجمتها الانتخابية غالبية للمعارضة السابقة الممثلة بتياره وحلفائه. لكن التوازنات التي ارساها اتفاق الطائف لا تعطي حصة سنية في الحكم بحجم الانتصار الانتخابي. فجاء تعقيد التشكيل الحكومي ليصحح هذا الحجم، وليظهر ان الطوائف الاخرى، خصوصاً الشيعة، لن تتنازل عما اعطاها اياه الاتفاق، لا في الحجم ولا في السياسة. لكل هذه الاسباب تعثرت ولادة حكومة السنيورة. ولا شيء يدعو الى توقع حياة طبيعية للحكومة المقبلة مهما كانت الصيغة التي سترسو عليها.