"لم أعد أثق بدور النشر العربية، لا نشراً ولا توزيعاً ولا احتراماً للكاتب". بهذه العبارة يجيب الشاعر وديع سعادة على سؤال عن سبب نشره مجموعته الجديدة"تركيب آخر لحياة وديع سعادة"على الإنترنت. لكن الشاعر الذي لا يختلف اثنان على شخصيته الشعرية الخاصة والمؤثرة، لديه أسباب أخرى لهذه الخطوة:"النشر على الإنترنت يصل الى العالم كله مجاناً وبلا منّة. مضت فقط أيام قليلة على نشر المجموعة، اكتشفت فيها قرّاء من العالم لم أكن أحلم بهم مطلقاً. وما كُتب عن مجموعتي هذه فاق كلَّ ما كُتب عن المجموعات الصادرة عن دور نشر". في كل حال، هذه ليست المرة الأولى عند وديع سعادة. لقد سبق أن أصدر ثلاثة من أهم كتبه على نفقته الخاصة: "المياه المياه"،"رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات"و"مقعد راكب غادر الباص". وفي أحد هذه الدواوين كتب أنه لم يصدره عن دار نشر ولم يوزّعه عبر شركة توزيع"احتجاجاً على الإجحاف اللاحق بالشعراء من مؤسسات النشر والتوزيع". ويلخّص سعادة هذا الإجحاف في سياق ردِّه على الأسئلة بپ"تبرّم دور النشر بحجة أنها خاسرة تجارياً. وبغض النظر عن جعل الشعر سلعة تجارية - في المنطق النشري - إلا أنني أرى ذلك منطقاً كاذباً حتى تجارياً. فإذا سلّمنا بهذه الخسارة، فالمسؤولية تقع على عاتق الناشر وليس على عاتق الشاعر. الناشر اللبناني، والعربي عموماً، لا يستخفُّ بالكتب الشعرية وطباعتها فقط وإنما بتوزيعها وترويجها أيضاً. من خلال تجربتي مثلاً، أكثر من كتاب صدر لي عن دور نشر لبنانية لم يوزّع حتى على المكتبات اللبنانية، ولا حتى على الصحف لكتابة خبر عنه، فكيف يصل هذا الكتاب الى القارئ وكيف نتوخى وصوله الى دول عربية أخرى وهو غائب عن بلد مصدره؟ الإجحاف الآخر هو تغاضي دور النشر عن أي مردود مادي لشاعر، إلا إذا كان"نجماً". وإذا لم يكن"نجماً"يتقاضى"تمنيناً"على طباعة كتابه". ربما كان وديع سعادة صاحب الأحد عشر ديواناً على حق. ربما كانت دور النشر محقة أيضاً في حساباتها التجارية وفي معرفتها بسوق الكتاب، لأنَّ"الناشر ليس صاحب جمعية خيرية وهو لا يتلقى معونة من أحد، وعليه تقع المسؤولية في استمرار الدار. لذلك لا بد من الأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية، لتستمر الدار في تأدية رسالتها"على حد تعبير ماهر كيالي، مدير عام"المؤسسة العربية للدراسات والنشر". نحن أمام محكمة بين طرفين متنازعين من طريق الخطأ: الشاعر الذي لا يريد الاعتراف بتراجع موقعه في الحياة الاجتماعية ليحلَّ مكانه نجوم آخرون يكتبون الروايات أو يغنون أو يمثّلون أو يرقصون، والناشر الذي لا يتحمّل تراجع دور الشعر في المجتمع. إنها نوع من الجريمة التي لم يرتكبها أحد. ولكن بعيداً من"ميثولوجيا"موت الشعر، تبدو حكاية النشر في بيروت أبعد من هذا الموضوع. كانت الحرب الأخيرة وما تبعها من حصار، سبباً في تراجع قطاع النشر اللبناني بأكمله. هناك عشرات الدور والمطابع التي دُمّرت، وعشرات الدور وشركات التوزيع التي تعطّلت موقتاً على الأقل. الخسائر قُدّرت حينذاك ب75 مليون دولار. أسعار الورق أيضاً ارتفعت. وعليه، قلّص الناشرون من برنامجهم لموسم معرض الكتاب العربي والدولي، وتحديداً الكتب الشعرية. ويمكن القول افتراضاً إن الناشرين وجدوا في الحرب ذريعة للتخلّص من الشعراء ودوواينهم من دون أن يضطروا الى الشعور بالخجل. وعليه أيضاً، بات عدد لا بأس به من الشعراء مشرّدين بمخطوطات شعرية لا يجدون داراً تؤويها. الخسائر والشعراء إذا كانت الروائية رشا الأمير، مديرة دار"الجديد"، اكتشفت بعد 10 سنوات من العمل في النشر، أن"الناشر العربي كذبة. فالنجاح المعنوي عليه أن يكون مقروناً بالنجاح المادي"، فإن عمر حرقوص، صاحب"منشورات إكس أو"، يعتبر أن"الخسائر التي تكلفتها دار الجديد في التسعينات هي التي أنتجت شعراء". وبحسب وجهة نظر حرقوص فإن"التردي في سوق الشعر مسؤول عنه شاعر لا يكتب صحيحاً وقارئ يبتعد عن القراءة وغياب المؤسسات المدنية التي ترفع من مستوى الثقافة في العالم العربي والصفحات الثقافية التي لا تنشر إلا لذوي القربى والتي ينقصها النقّاد. من هو المتردي - إذاً - الشعر أم النقد؟". كانت تجربة"الجديد"رائدة في نشر الشعر بكثافة. نشرت لأنسي الحاج ومحمود درويش وأدونيس وشوقي أبي شقرا وعباس بيضون ووديع سعادة وبول شاوول وغيرهم الكثير، إضافة الى الترجمات المختلفة. لكن مغامرة الدار لم تكن في نشرها لأسماء مكرّسة، بل في تلك السلسلة الشعرية التي ضمّت شعراء لبنانيين وعرباً من أجيال شابة. كان الشعر على الدوام جزءاً ليس من سياسة النشر في"الجديد"، وإنما من أدبيات شخصين أرادا لعب دور ثقافي يتجاوز صفة الناشر الى صفة المشارك والمحرّك والمنشّط والمحرّض، هما لقمان سليم ورشا الأمير. وفي النهاية خلصت الأمير الى أن الأزمة ليست في الشعر بل في"المجتمع المريض. دور النشر لا يمكنها تغيير المجتمع. حتى إننا ترجمنا النزعة الفردية في شكل سيئ. مع افتتاح مرحلة الهزائم العربية ماتت الفردية. الجمهور يريد كتّاباً ملتزمين. المجتمع يبني وجوده على شعارات وأسماء. يكفي أن يغني كاظم الساهر للعم نزار قباني حتى يصبح هذا الأخير وحده الشاعر الحاضر والأول". تبحث الأمير عن أزمة النشر خارج ثنائية الشاعر والناشر. تبحث عنها في أزمة المجتمع والثقافة. أزمة عبّرت عنها الدار قبل سنوات حين وضعت كتاباً ضخماً على شكل قبر في معرض بيروت العربي والدولي، وكذلك من خلال كتيّبين يُعدّان تجربة عشر سنوات:"بيتنا زجاج ونرشق بالورد والحجارة"و"في قبر في مكان مزدحم". وبعد ذلك، اعتكفت الدار لتنشر كلَّ سنة عدداً من الكتب لا يتجاوز أصابع اليدين غالبيتها لشعراء شباب. اعتكاف تسميه رشا الأمير"مزاجاً". تجربة أخرى انتهت الى التوقّف هي تجربة"مختارات". عادت هذه الدار، التي نشطت في الثمانينات ثم خفتت فترة، الى الواجهة مع بدايات الألفية الثالثة. ظلت"مختارات"نحو أربع سنوات تنشر لشعراء وشاعرات معظمهم لم يسبق له أن نشر كتاباً أو بالكاد نشر ديواناً أو ديوانين. كانت سياسة النشر تلك على حساب الدار والتمني على الشاعر إقامة حفلة توقيع للمساهمة في تغطية الكلفة."ننجح أحياناً"، يقول مدير الدار جورج فغالي. وبالفعل استطاع بعض الذين نشروا في"مختارات"أن يقيموا حفلات تواقيع بدت في معرض الكتاب الدولي أشبه بحفلات اجتماعية وسط المدعوين والشراب وكاميرات الصحافة والتلفزيونات. لكن المفاجأة بحسب فغالي أنَّ الدار"لن تنشر هذه السنة سوى كتابين ولن تشارك في المعرض لأسباب خاصة أو لأسباب تتعلق بالأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية". لن يكون التفجّع حالات مناسبة لتجربتين ساهمتا ليس في نشر الشعر فقط بل في تنشيط كتابته وتحفيز الشعراء. والغالب أن نهاية تجربة لا تعني فشلها. تجربة وانتهت. تجربة ظلَّت تنجح حتى توقفت. تجارب كهذه لا تنتهي فعلاً، إذ تترك أثرها في ما نشرت من شعر تماماً كأثرها على ناشرين صاعدين يريدون أن يحطّموا الصخرة برؤوسهم. من هؤلاء عمر حرقوص. لا يعتبر حرقوص أن إصدار مجموعات شعرية لشعراء شباب مغامرة."المغامرة أن تبقى حياً في لبنان. بدل البحث عن فيزا للهرب، قمنا بالبحث عن تجارب إبداعية نقدّمها لجمهور يكاد أن ينقرض. ودافعنا الأساس كان الاحتفال والسهر بما نجنيه من أرباح وفيرة عند نهاية حفلات التوقيع". لكن صاحب دار"إكس أو"يعرف تماماً أن"النسخ الشعرية المطبوعة كانت ستبقى أسيرة الصناديق الكرتونية لولا أصدقاء الشاعر...إلا في حالات الشعراء الكبار في الاسم والعمر". أما"المؤسسة العربية للدراسات والنشر"فتبدو أرسخ وأكثر انتشاراً كما يظهر من العناوين الكثيرة والمتنوعة التي تصدرها. وبحسب ماهر الكيالي فإن"المؤسسة من أكثر دور النشر إنتاجاً للشعر. في الأعوام السابقة أصدرنا العشرات من الدواوين من مختلف الأقطار العربية. لكن هذا الموسم سيقل العدد كثيراً". وعلى رغم تقلّص عدد الدوواين الشعرية، فإن الدار تنشر تباعاً"الأعمال الشعرية"لعدد كبير من شعراء الستينات والسبعينات، الأمر الذي يُعدُّ مشروعاً مكلفاً قياساً الى حجم هذه المجلدات. وبحسب الكيالي"أخذت هذه السلسلة مكانتها في المكتبة العربية...ثم إن المردود المالي لهذه الأنواع من الكتب بطيء في ظلِّ الأوضاع العامة السائدة وإقلاع المثقفين عن القراءة والمطالعة". وبالنسبة الى الدواوين الإفرادية فإن الدار"تطلب من الشاعر المساهمة المادية في التكلفة، مقابل تزويده بعدد من النسخ، ليشعر المؤلف أنه حصل على حقوقه المادية والمعنوية من خلال مشاركة الدار في المعارض العربية والدولية وحرصها على الوصول بمنشوراتها الى القارىء العربي". بحثاً عن المغرب العربي وسط هذه الأجواء، وبعد تجارب بدت أنها دروس للقادمين، تتقدم"دار النهضة العربية"بمشروع شعري ضخم كما يشي حشد الأسماء الذي أعدَّ للمناسبة. هذا المشروع تديره: لينة كريدية، المديرة العامة للدار. ويضمُّ المشروع شعراء من المشرق والمغرب والمهجر من أمثال: سركون بولص، محمد بنّيس، شوقي أبي شقرا، محمد علي شمس الدين، محمود عبد الغني، عبدالله زريقة، محمد الأشعري، حسن نجمي، عائشة البصري، ربيعة الجلطي، سليمان جوادي، منصف الوهايبي، محمد الغزّي، عبد المنعم رمضان، طاهر رياض، ياسين عدنان، أكرم قطريب وسواهم. وردّاً على سؤال، يعّلق المسؤولون بأن"الأسماء متنوعة. هناك أسماء مكرّسة وهناك أسماء غير مكرّسة. أما الأسماء المكرّسة فهي لتحديد مستوى المشروع وبسبب القيمة الشعرية والأدبية لها. وكل من يمتلك هذه الخصائص والموهبة الصحيحة أهلاً وسهلاً به". من جهة أخرى، تعني خطوة كهذه"ضخَّ دم جديد في هذه الدار التي أصبح عمرها خمسين سنة تقريباً"بعدما اقتصرت منشوراتها على الكتب الأكاديمية والمدرسية. أما المشروع بحسب القائمين عليه فپ"يختلف عن تجارب الدور السابقة، فهو ذو بعد عربي شمولي. بمعنى أننا لم نكتفِ بالشعراء اللبنانيين أو شعراء المشرق العربي ، بل ذهبنا الى مناطق أخرى والى شعراء لم يتم النشر لهم في المشرق من قبل". والأهم"أننا رفضنا منذ البدء تقاضي أي مبلغ من أي نوع من أي شاعر موجود في المشروع". والحال، سيكون معرض الكتاب المقبل ضامراً بالإصدارات الشعرية الجديدة، وتحديداً اللبنانية. سينشر عباس بيضون في"المسار". سيصدر جوزيف عيساوي"القديس x"لأسباب لا علاقة لها بوضع النشر بطريقته الخاصة من حيث شكل الكتاب وحجمه ورسومه الداخلية. عقل العويط ما زال حائراً إزاء ديوانه الجديد: متى ينشر وأين؟ أما فادي طفيلي فسيعود الى أمستردام طاوياً مخطوطة ديوانه الجديد بانتظار عام آخر ربما. لقد شهدت السنوات الأخيرة الماضية طفرة شعر وشعراء، معظمهم شبان وشابات. وبعض هؤلاء استطاع أن يبيع نحو 300 نسخة في حفلة التوقيع كحال غسان جواد وفادي ناصر الدين اللذين نشرا في"مختارات". أما هذه السنة، فالأرجح أن الشعر سينتظر وزارة ثقافة تدعم الكتاب ولو بالكلام، وناشراً يحمل همّاً ثقافياً ولو بالادعاء، وقارئاً يشتري كتاباً بالكاد يتجاوز ثمنه سعر فنجان قهوة في"الداون تاون".