لكل شخصٍ منا عائلة، أب وأم، أخت أو أخ، خال أو عم أو ابن عم. ولكل منا هوية يفتخر بها وقيم اجتماعية وشخصية يعود إليها كلما اشتدّت عليه ظروف الدهر. وهذا أمر طبيعي لكون الكائن البشري يعيش ضمن مجموعات ويبني حياته النفسية على علاقاتٍ تؤمّن له التواصل مع سائر أفراد الوسط الذي يعيش فيه. ولكن، هل يستطيع أي شخصٍ منا أن يجيب عن أسئلة من مثل: ما العائلة؟ وكيف تتكوّن الهوية؟ وما هي الثقافة، وأين تقع حدودها؟ وما قيمة الفرد، في حياته النفسية وفي علاقاته الاجتماعية؟ هذه أسئلة قد تبدو بديهية، ولكن الدراسات الأنتروبولوجية والأثنولوجية التي ازدهرت على طول القرن العشرين وعرفت في أوروبا وأميركا تطوّراً كوَّن منها"عالم معرفة متميّزاً"، وكرّسها مصدر معرفة وأداةً تحليلية تستعين بها سائر العلوم الإنسانية، هذه الدراسات أدَّت إلى رؤيةٍ جديدة للمجتمع البشري وإلى وعيٍ موضوعي لكل ما يضطلع به الكائن البشريّ من علاقات فردية ووظائف تواصلية وعوامل اجتماعية. يأتي مُعجم الأثنولوجيا والأنتروبولوجيا الذي شارك في وضعه ما يقارب من ثلاثمئة عالم ومتخصص بإشراف بيار بونت وميشال ايزار، وقد نقله الى العربية الباحث مصباح الصمد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر - بيروت، والمعهد العالي العربي للترجمة - الجزائر، 2006، ليقدّم - وبطريقة مبوّبة تبويباً ألفبائياً - المفاهيم الأساسية والنتائج الميدانية التي توصلت إليها هذه الدراسات. يقول المترجم في مقدمته:"لقد نشأ هذا العلم موصوماً، ليس عن ظلم كبير، بغاية استعمارية أو تبشيرية، أي لدراسة شعوب مستعمرة أو يُراد استعمارها أو تبشيرها. ولكنه ما لبث أن تجاوز ذلك وأخذ يرسخ دعائمه ثم ينمو ويتشعب ويتفرع، مقيماً صلات وعلاقات مع الكثير من العلوم الأخرى، إلى أن أوشك اليوم على الإحاطة بمختلف مظاهر الحياة اليومية والاجتماعية والفكرية والخيالية والفنية". وهذا يعني أنه على رغم أن هذا المعجم يقوم على قاعدةٍ علمية واضحة، فإنه لا يتوجّه حصراً إلى المتخصصين في مجال الأثنولوجيا والأنتروبولوجيا، بل يتعدّاهم ليضمّ في عِداد قُرائه المتخصصين في مجمل العلوم الإنسانية وكذلك المثقفين العاديين. فإذا كانت المفاهيم المعرّفة تشمل الميادين العلمية الأساسية مثل أسطورة، وعِرق، واستعمار، وتنظيم اجتماعي، وخرافة، وغيرها من أساسيات الأنتروبولوجيا، فإننا نجد كذلك دراسات تعرّف بالتجارة، والزواج، والحيوانات الداجنة، والشرف، والعمل، إلى ما هنالك من الحقول والموضوعات التي تمسّ كل شاردة وواردة من الحياة البشرية، من القانون والسياسة إلى الهوية والدين، مروراً بالبيئة والزراعة والتقنيات الحديثة. ومن دلائل"انفتاح"هذا المعجم على سائر العلوم الإنسانية أمران: أولهما أن الباحثين الذين وضعوا تعريفاته ووسّعوها ليسوا كلهم من المتخصصين المحصورين في مجال الأثنولوجيا والأنتروبولوجيا فقط، بل يوجد من بينهم علماء في علم النفس، والمجتمع، والتواصل، وغيرها، ولكنهم جميعاً استفادوا من المناهج الأنتروبولوجية واستعملوها في ميادين أبحاثهم المتفرقة. أما الأمر الثاني، فهو أن هؤلاء المؤلفين لا ينتمون إلى مدرسة علمية واحدة أو إلى اتجاه فكري معيَّن، بل تشمل أعمالهم ومدارسهم مذاهب وتيارات متعددة كما ينتمون إلى جامعات وبلدان مختلفة، مثل الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، إضافة إلى جامعات فرنسا طبعاً. يقول الباحثان المشرفان على هذا العمل في التمهيد للنسخة الفرنسية الأصلية إنّ كل ثقافة تعطي رؤيتها الخاصة لفعل الإنسان بحسب عبقريتها الذاتية الخاضعة في الوقت نفسه لقيودٍ معرفية وعملانية عالمية. ثم يضيفان:"ولكي تُعرض الأنتروبولوجيا أمام جمهور واسع، كان من المناسب إذاً، على الأقل، قول ما الذي تقدّمه الأنتروبولوجيا للآخرين وكيف تعرّفهم به. لقد اخترنا عرض الوسائل التي تعتمدها الأنتروبولوجيا للوصول إلى فهم الأمور التي تعمل عليها. وهي وسائل ترتبط إلى حدٍّ كبير بتشكيل منظومة مفاهيم يعمل أيّ معجم بطبيعة الحال على تكوينها"ص. 14. تحت عنوان"جسد"وپ"جسديّة"ص. 435-440، على سبيل المثال، نكتشف أن تصوّر الإنسان لجسده يتغيَّر بتغيّر الزمان والمكان، وتتنوّع أشكاله بتنوع الثقافات والشعوب. فهو"علامة الموت"، وهو إما يُفصل عن الروح كما عند الغربيين، ويكون بذلك موطن البؤس البيولوجي ومركز الآلام الفيزيائية والنفسية والاجتماعية، أو أنه يتّحد مع الروح في سبيل"دمج الشخص البشري بالصعيد السماويّ"بحيث يصبح الإنسان ذلك"العالم الأصغر"، العالم بكلّيّته وجوهره، الذي يختصر الكون في ذاته. أما الزواج ص. 533-536، فإنه يتعدّى كونه"اتحاد رجل وامرأة بحيث أن الأطفال الذين يولدون من المرأة يعترف بهم الأهل شرعياً"، بحيث يكوّنون العائلة التي هي أساس المجتمع البشريّ. فهو يحمل دلالات تواصلية أوسع وأبعد من مجرّد تكوين العائلة. هناك مثلاً"شكليات انتقال الأموال التي ترافق الزواج في معظم الأوقات"، وهناك الأنواع المختلفة من"التبادل والمقايضة والتقديمات المادية والرمزية"التي تسوس العلاقات بين المجتمعات الغربية والقبائل الإفريقية على حد سواء، بحيث تنخرط عمليات التزاوج في قلب البنى المعقّدة التي تقوم عليها هيكلية كلّ مجتمع بشري. وليس انحلال الزواج، وشيوع المساكنة، وظهور الزواج المثلي إلا ظاهرة من المظاهر التي تدلّ على تحوّل جذري لا في تركيبة العائلة فحسب بل في مسار المجتمع وبنياته الداخلية العميقة أيضاً. من ناحية أخرى، يهتمّ هذا المعجم أيضاً بأعلام الأثنولوجيا والأنتروبولوجيا. فهو يضمّ في طياته دراساتٍ لأهم العلماء في هذه العلوم. فنجد لكلّ عالم نبذة سريعة عن حياته مع تعريف بأهم الأفكار التي أتى بها، والمدرسة التي أسّسها، والأعمال المكتوبة التي وضعها. هذا إضافة إلى أن كل بحث من الأبحاث المقدمة يُذَيَّل بقائمة بأهمّ المراجع والدراسات المتعلقة به، باللغتين الفرنسية والانكليزية. ومما تتميز به هذه الترجمة العربية هو أنها تجمع بين الدقة في المصطلحات والسلاسة في التعبير. فعلى رغم المستوى العلمي والمرجعية الأكاديمية اللذين تتمتع بهما المواد التي يعالجها هذا الكتاب، جاءت الجملة العربية في أسلوب يبتعد عن التقعير والصعوبة، وهذا ما يتلاقى مع الأهداف التي وضعها المؤلفون في النسخة الفرنسية. والجدير ذكره أنّ مصباح الصمد، مترجم هذا الكتاب، معروف في هذا المجال. فهو إضافة إلى كونه أستاذ مادتي الأنتروبولوجيا والنقد الميثولوجي في الجامعة اللبنانية، قد قام بترجمة العديد من الكتب والأبحاث في هذا المجال، نذكر من أهمها"الأنتروبولوجيا - رموزها، أساطيرها، أنساقها"و"أثنولوجيا - أنتروبولوجيا"الصادرين عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت. وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن هذا المعجم يُنشَر بالاشتراك مع"المعهد العالي العربي للترجمة"الجزائر الذي أسسته جامعة الدول العربية منذ أربع سنوات تقريباً. وهو يندرج ضمن سلسلةٍ من المعاجم والموسوعات يخطط المعهد لنقلها إلى العربية ونشرها في إطارٍ علميّ لا يكتفي بترجمة النص الأصلي ترجمة عالية المستوى بل يضيف إليه دراسة علمية المقدمة وملاحق وفهارس تساعد القارئ في الرجوع إلى مواده بسهولة وسرعة.