منذ تصريحات وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو الرافضة للنقاب لم يهدأ الجدل حول الموضوع، ومن بعده حول المسلمين ووجودهم وهويتهم في المجتمع البريطاني بشكل خاص، والغربي بشكل عام، وهو جدل يمكن القول بكل بساطة إنه لا يكاد يهدأ حتى يعاود الاندلاع، وذلك منذ مطلع التسعينات، وتحديداً منذ حرب الخليج. ليست هذه السطور دفاعاً عن النقاب، وللأمانة فأنا لست من المقتنعين به، وأرى بناءً على قراءات شرعية أن ما يتجاوز الحجاب التقليدي، ليس من الأوامر الشرعية المحسومة، بقدر ما هو إضافة ابتكرها بعض الناس، إما تبعاً للتقاليد أو بدعوى درء الفتنة، الأمر الذي لا ينطوي على كثير منطق، لأن أهل الفتنة لن يتركوا السافرات ليطاردوا المحجبات. ونشير هنا إلى أن شيخ السلفية الحديثة المحدث الألباني لا يرى وجوب غطاء الوجه. لو كان الأمر لي لنصحت الأخوات المعنيات، لا سيما في الغرب، بعدم وضع النقاب، والاكتفاء بغطاء الرأس والجلباب أو ما يقوم مقامه من الألبسة التي تحقق المطلوب الشرعي. لكن الجدل الذي اندلع في بريطانيا، وقبل ذلك على نحو مختلف في فرنسا وصولاً إلى قرار منع الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة، وكذلك في العديد من دول الغرب، هذا الجدل لا صلة له من الناحية الواقعية بالنقاب أو بالحجاب أو باللحية بقدر صلته بالموقف من المسلمين المهاجرين في تلك البلدان. نقول ذلك لأن مجتمعات لا تضيق بكل أشكال العري، كما لا تضيق بمختلف الأزياء والرموز التي تعبر عن ثقافات وأديان مختلفة، لا يمكن أن تصاب بعسر الهضم الثقافي حين يتعلق الأمر بالمظاهر الإسلامية. وفي أوروبا وأميركا وسواها هناك لباس الراهبات الذي لا يختلف عن اللباس الشرعي، وفي بريطانيا على سبيل المثال ثمة سيخ لا يتخلون عن عمامتهم المعروفة أو قصة شعورهم، وتراهم رغم ذلك يجلسون في المطارات يختمون جوازات السفر للقادمين والمغادرين، كما أن ثمة هنوداً لا يتخلون عن ألبستهم التقليدية التي تعبر عن ثقافتهم، وثمة حي في لندن لا ترى فيه إلا كل ما هو هندي. أما اليهود فحدث عنهم ولا حرج، حيث تمشي في لندن والعديد من المدن الأوروبية فتشاهدهم بالقلنسوة التقليدية يتجولون ولا يجرؤ أحد على التعريض بهم في مقال أو تصريح، فضلاً عن المس المباشر بهم أو إثارتهم، مع العلم أنهم كرجال يظهرون مظهراً دينياً أكثر وضوحاً، ربما باستثناء قلة من المسلمين الذين يصرون على لبس الدشاديش وإطالة اللحى على نحو لافت، بخلاف اللحى العادية التي تتوفر عند الجميع. لو توقف الأمر عند النقاب إذاً لهان الأمر، لكن خلفيات المواقف لا تقول بذلك، إذ من يضمن ألا يتطور الوضع ليصل الى ما وصل إليه في فرنسا، بل لماذا لا يتطور أكثر لتغدو المساجد جزءاً من التميز الذي لا بد من إنهائه، ثم أين تذهب معالم الحرية والتنوع التي يتحدث عنها المجتمع الغربي بعد ذلك؟ نعود إلى القول إن كل هذا الرفض للمظاهر الإسلامية دون سواها في المجتمعات الغربية، بل وحتى في النظم السياسية الغربية، إنما نتج عن ظاهرة جديدة في أوساط المهاجرين المسلمين تتمثل في قدرتهم على الحفاظ على هويتهم، وذلك بعد عقود من الذوبان في الثقافة الغربية. ونتذكر الخمسينات والستينات وحتى ما يقرب من نهاية السبعينات حين لم يكن بالإمكان العثور على شبان مسلمين يحافظون على هويتهم في المجتمعات الغربية. إضافة إلى هذا البعد، هناك التحدي الذي تواجهه الغطرسة الغربية في بلادنا من قبل المسلمين كشعوب، ويتمثل ذلك في المقاومة التي تندلع في أكثر من بلد عربي ومسلم ضد الصلف والعدوان الغربي، إلى جانب مطالب التحرر التي يرفعها المسلمون في وجه الولاياتالمتحدة والغرب والدولة العبرية. ربما قال البعض إن من حق الغرب أن يحدد طريقته في التعامل مع مهاجريه وجالياته، الأمر الذي يبدو صحيحاً من جهة، لكنه ليس كذلك من أكثر من جهة أخرى، لعل أولها مخالفة ذلك للعقد الاجتماعي القائم في دول الغرب على الحرية الفردية، فضلاً عن مخالفته لمبدأ المساواة بين الأقليات، فمن يسمح لكل تلك الأقليات الدينية والعرقية الاخرى بالتعبير عن هوياتها لا يكون عادلاً حين يخص المسلمين بالتمييز. أما الأهم فهو مسؤولية ذلك الغرب عن كثير من المصائب التي حلت وتحل بدولنا وتحيلها مجتمعات طاردة لأبنائها، أكان باستعمارها أم بسرقة ثرواتها أم بدعم أنظمتها الفاسدة. أي أننا إزاء مسؤولية أخلاقية، مع العلم أن ثمة مسؤوليات أخلاقية أكثر وضوحاً ومباشرة كما هو حال مسؤولية بريطانيا عن زرع الكيان الصهيوني في بلادنا، أو كما هو حال المسؤولية الأميركية - البريطانية عما جرى ويجري من قتل ودمار في العراق وأفغانستان، وحتى لبنان، وقبل ذلك الحصار والعقوبات على العراق وإيران والسودان وليبيا. ثم إنه لولا توفر مصالح سياسية الهيمنة والتأثير والاختراق، واقتصادية سياحة وعمالة رخيصة للغرب من ظاهرة الهجرة واللجوء لاتخذت إجراءات أكثر تشدداً في منعها، الأمر الذي بدأ يحدث منذ سنوات بعد القناعة بصعوبة تذويب المسلمين في الثقافة الغربية. خلاصة القول هي أن ما يجري في الغرب من استهداف للرموز والمظاهر الإسلامية هو واحد من تجليات المعركة السياسية القائمة بيننا وبين ذلك الغرب بسبب رفضنا لسياساته ومحاولتنا التمرد على عقد الذل الذي فرضه علينا منذ قرنين أو أكثر. في ضوء ذلك كله ليس أمام الجاليات المسلمة في الغرب، إلى جانب سعيها إلى ترشيد سلوكها وخطابها واختياراتها الفقهية على نحو يجعلها أقل صداماً مع المجتمعات الغربية، مع محاولة كسب الرأي العام لصالحها من خلال السلوك المعبر عن حقيقة الإسلام وأخلاقه الرائعة، ليس أمامها سوى النضال السلمي من أجل الدفاع عن حقوقها، أكانت تلك المتعلقة بوجودها وحياتها في الدول التي توجد فيها، أم دفاعاً عن قضايا الأمة الرئيسية هنا وهناك. بقي أن نقول إن بريطانيا لا تزال رائدة في ميدان الحريات والتعددية، وما قاله جاك سترو هو تعبير عن رأيه الشخصي. والأمل هو ألا يؤثر الجدل الدائر على المواقف الرسمية، فيما ندعو الله أن لا يتورط أي مسلم في أعمال عنف كتلك التي وقعت في لندن العام الماضي. * كاتب من الأردن