لا تنفصل الحملة التي تشهدها بريطانيا هذه الايام، سواء على ألسنة ساستها او في اعمدة صحفها، حول قضية ارتداء النقاب، عن المناخ العام الذي اخذت تتعرض له علاقات الجالية المسلمة مع اكثرية افراد المجتمع، وخصوصا منذ تفجيرات 7 تموز يوليو العام الماضي والمؤامرة لتفجير طائرات وهي تعبر المحيط الاطلسي، قيل ان مواطنين بريطانيين مسلمين خططوا لتنفيذها في شهر آب اغسطس من هذا العام. فما نقل عن وزير الخارجية السابق جاك سترو، من انه يفضل أن تنزع السيدات المسلمات في دائرته الانتخابية النقاب عن وجههن عند زيارته لعرض قضاياهن عليه، لا بد أن يدفع الجالية المسلمة الى الاهتمام بتحول يطرأ على التوجه الاجتماعي في هذا المجتمع. فكلام سترو ليس وليد نزعة عابرة، بل ان الرجل نفسه ذكر في المقال الذي كتبه بهذا الصدد انه فكر في الامر مليا قبل أن يطلق رأيه هذا الى العلن. كما لم يعرف عنه سابقا، لا عند توليه حقيبة الخارجية ولا قبلها في وزارة الداخلية التي تعنى مباشرة بمسائل الهجرة والعلاقات مع الجاليات، انه يحمل أي مواقف عدائية او عنصرية تجاه المسلمين، وهم الذين يشكلون ثلث الناخبين في الدائرة الانتخابية التي يفوز فيها بمقعده النيابي. سبب الاهتمام المطلوب من الجالية المسلمة في بريطانيا بمثل هذه التصريحات انها تضع افراد هذه الجالية مجددا في الواجهة. ومع أن موقف سترو من النقاب، لا يلقى اجماعا، حتى بين زملائه في الحكومة او بين كتاب التعليقات وقادة الرأي، فإنه يبقى ان الظروف التي يطلق فيها مثل هذا الموقف الآن تختلف عن ظروف ما قبل عشرين او ثلاثين سنة مثلا، حيث كان المجتمع البريطاني اقل مبالاة بما تضعه سيدة مسلمة على رأسها او على وجهها عندما تسير في الشارع. هذا يعني أن النقاب او الحجاب ليس هو المشكلة بالنسبة الى المواطن البريطاني، بصورة عامة، بل المشكلة صارت في"التصريح"السياسي الذي يقدمه مثل هذا الملبس وفي الخلفية الامنية التي ترافقه. في هذا الاطار يمكن فهم الخبر الذي تم تسريبه امس في بعض الصحف اليمينية البريطانية عن تخفي رجل مطلوب في قضية ارهابية بارتدائه النقاب، وهو ليس خبرا غريبا على كل حال اذ ان دولا عربية واجهت المشكلة نفسها في ملاحقاتها لمتهمين بأعمال ارهابية. بكلام آخر، ادى المناخ الامني الذي نشأ في السنوات الاخيرة الى تراجع في قابلية المجتمع البريطاني، والمجتمعات الاوروبية عموما، للمظاهر الاجتماعية وللانتماءات الدينية المختلفة عن النسق الاجتماعي العام. ومن المغالاة القول ان هذا الامر يقتصر على المسلمين، لان معاداتهم تنبع من اسباب تتصل بمعاداة للدين الاسلامي. فالكاثوليك في بريطانيا مثلا وهم مسيحيون تعرضوا لمثل هذه الحملات من التشكيك ولأكثر منها، عندما كان النزاع في ايرلندا الشمالية مع الحكومة البريطانية ومع جيشها على أشده. كانت احياء في لندن مثلا، تخضع لرقابة دائمة من شرطة"اسكتلانديارد"لمجرد أنها احياء ذات هوية كاثوليكية. ثم، لو كان الامر يتعلق بحملة على الدين بعينه، فلا بد من أن يسأل المرء نفسه: لماذا لم تظهر مثل هذه الحملة عندما كانت ابواب هذا البلد مشرعة في وجه القادمين اليه من الوان واطياف وديانات مختلفة، يحصلون على جنسيته ويكسبون قوتهم من العمل فيه ويوفرون لابنائهم في مدارسه وجامعاته ما يصعب أن توفره لهم البلاد التي فرضت عليهم ظروفهم الهجرة منها؟ طبعا، لا يغفل هذا الكلام أن هناك اتجاهات عنصرية في المجتمع البريطاني، مثلما هي الحال في كل مجتمع، ترفض"الغريب"شكلاً ومظهراً وديناً، لمجرد انه"غريب". لكن واجب الجاليات الوافدة، وفي طليعتها الجالية المسلمة، على الاقل حرصا على مصالحها، أن يعمل قادتها ما يستطيعون لإبقاء هذه الاتجاهات في حجمها الحقيقي، أي اقلية في صفوف المجتمع. مهمة اخرى تلقيها هذه التطورات على عاتق المسلمين، وهي مهمة السعي الى الاندماج في المجتمع بدل الانعزال عنه. فالذين يعترضون على النقاب يبررون اعتراضهم بأن من ترتديه توجه رسالة الى محيطها تقول:"لا اريد ان اكون جزءا من مجتمعكم". ومن الصعوبة أن يعيش فرد في مجتمع وهو في حالة نزاع يومي معه. ثم ألسنا نحن الذين نطالب الوافدين الى مجتمعاتنا باحترام ثقافاتنا ومراعاة تقاليدنا؟ أليس من الطبيعي أن تطالبنا المجتمعات التي تستقبلنا بما يشبه ذلك، وهي التي منحت الكثير من الوافدين جنسيتها وأفسحت لهم مجال المشاركة في الحقل العام، الذي يرقى الى الشراكة في صنع القرار السياسي؟