اكثر ما اثار الاستهجان والاستغراب في الشريط المنسوب لأسامة بن لادن قوله بتبجّح ان احدهم قد قال له... هكذا بكل بساطة ان عدد الذين دخلوا الاسلام بعد تفجيرات نيويوركوواشنطن في هولندا لوحدها قد فاق كل الاعداد التي سُجلت من قبل، وانه "سمع" من الراديو ان الكتب التي تتحدث عن الاسلام في الولاياتالمتحدة قد فُقدت من المكتبات بعد الحادي عشر من ايلول سبتمبر. هذه النظرة السطحية للامور والتحليلات البعيدة عن الواقع والعقل والموضوعية تعبّر عن عقلية هؤلاء الذين غرّروا بمئات الشبان الابرياء وورّطوا العرب والمسلمين في محنة خطيرة، كما تفسّر سرّ السقوط المدوّي لحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" في افغانستان. فالحقيقة المرّة التي لا يريد البعض ان يعترف بها هي ان ممارسات هذه الفئة أضرّت الاسلام وأعطت الذرائع والحجج للاعداء لكي ينفثوا عن حقدهم ويستأنفوا حملاتهم المغرضة ضد الدين الحنيف وكل ما يعبّر عنه من قيم حضارية واخلاقيات سامية، كما ان وقفة مع النفس تستدعيها الظروف الراهنة تُظهر لنا ان ممارسات التطرّف وآخرها تفجيرات واشنطنونيويورك أساءت لملايين المسلمين في ديار الاغتراب وأضرّت بالدعوة للدين الحنيف التي بدأت تعطي ثمارها في الآونة الاخيرة. ثلاثون عاماً ونيّف من العمل الجدّي لإظهار الصورة السمحة للاسلام ضُربت في لحظة واحدة، وجهود الخيّرين والمخلصين من ابناء الامة وقياداتها كادت تُجهض في عملية مُستنكرة لا نتائج لها سوى الخراب والدمار وتشويه صورة الاسلام. مئات المساجد والمراكز الاسلامية والمدارس أُقيمت في الغرب، في الولاياتالمتحدة واوروبا واستراليا خلال هذه الفترة ليستفيد منها الملايين من ابناء الجاليات العربية والاسلامية الذين انقطعت صلاتهم بأوطانهم، ولتكون منبراً لإظهار سماحة الاسلام وعظمة الايمان بالله عزّ وجلّ على أسس الخير والمحبة والسلام. عشرات الكليات الجامعية والمعاهد والمراكز والمقاعد الاسلامية في أعرق الجامعات الغربية تم افتتاحها لتدريس تاريخ الاسلام وحضارته مبادئ الدين الحنيف والشريعة السمحة. مئات الندوات والمؤتمرات واللقاءات والمعارض التي كان موضوعها الاسلام والحضارة العربية الاسلامية شهدتها اكبر عواصم الغرب وعاشت معها بدايات حوار بنّاء وتفهّم لمشاعر المسلمين وتطلّعاتهم وحقوقهم في الحياة الكريمة والاحترام والعيش بسلام والمشاركة في الحضارة العالمية بكل فروعها ومشاريعها. كبار الزعماء والقادة والمسؤولين الغربيين ساهموا ورعوا، او حضروا احتفالات افتتاح المراكز والمساجد والمعاهد الاسلامية والعربية، كما شاركوا في احتفالات الجاليات الاسلامية وأعيادها ولا سيما في شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، وما زلنا نذكر الخطاب التاريخي المهم للأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في مركز الدراسات الاسلامية في جامعة اوكسفورد العريقة وحديثه الشيّق المدعوم بالمعلومات والوثائق عن الحضارة الاسلامية ودورها في بناء الحضارة الغربية. مئات الالوف من العرب والمسلمين توافدوا على ديار الغرب خلال السنوات القليلة الماضية للعمل او للدراسة او للبحث عن ملجأ آمن فقوبلوا بترحاب وقدّمت لهم تسهيلات وحصلوا على حقوق لم يحصلوا على مثلها في اوطانهم وكثير منهم حصلوا على جنسيات الدول التي أقاموا فيها بلا مشاكل ولا عوائق. صحيح ان هناك بعض الموجات العنصرية والحملات المعادية وأحاديث عن "الاسلاموفيا" وصراع الحضارات ولكنها كانت محدودة ومحصورة ومعزولة عن التوجه العام: الشعبي والرسمي. وفجأة انقلب كل شيء رأساً على عقب: كل ما تم البناء عليه بنجاح واقتدار كاد يُهدم بفعل فاعل مجنون ظن انه بقتل الوف المدنيين الابرياء او تهديم برجين في نيويورك او مبنى البنتاغون في واشنطن يحقّق انتصاراً مدوياً ويسيطر على العالم فإذا به يُسيء للاسلام ويعرّض الملايين من ابناء الجاليات لأخطار وتهديدات ويشرّد الآلاف ويضرب مستقبلهم ويهدّد امن العديد من الدول العربية والاسلامية ويُطلق يد اسرائيل وشارونها للتنكيل بالشعب الفلسطيني وتنفيذ اغراضها التوسعية واليهودية في فلسطين. والآن، وبعد ان هدأت النفوس قليلاً، لا بد من وقفة مع النفس لتحليل الموقف والعمل على الاستفادة من دروس الحدث ودروس الماضي، اي ما قبله، والتخطيط لما بعده، لانقاذ ما يمكن انقاذه. اولاً ثم العمل على بناء الثقة والبدء بحوار جدي بنّاء يقوم على ركائز ثابتة ابرز عناوينها: - الاحترام المتبادل، مما يعني ان الآخر يجب ان يجاهر باحترامه للاسلام والمسلمين والعرب وقيمهم ومبادئ شريعتهم وعاداتهم وتقاليدهم. - تأكيد رغبة الطرفين في اجراء مثل هذا الحوار من موقع الندية والعمل المشترك من اجل الوصول الى صيغة ثابتة للمستقبل. - توحيد المواقف بين المسلمين من اجل وضع اسس المبادئ العامة لمثل هذا الحوار وحلّ الخلافات والاختلافات حول امور كثيرة جدلية تسيء للاسلام وتتيح المجال للآخر لكي يرفض التعاون مع كيان واحد وواضح المعالم. - نبذ التطرّف والعنف واستخدام لغة العقل والمنطق في الحوار وتأكيد الاحترام للآخر وقوانينه ومبادئه. - اشراك المؤسسات الفاعلة مثل الفاتيكان والامم المتحدة والمنظمات الدولية والانسانية والثقافية مثل اليونسكو وغيرها. - اشراك المسيحيين العرب في التمهيد لهذا الحوار مع الغرب والمسيحيين بشكل عام وتشجيعهم على لعب دور فاعل في هذا المجال والتخلي عن السلبية نتيجة لممارسات معروفة، ولا سيما بالنسبة للجاليات المقيمة في الغرب والولاياتالمتحدة بالذات، وهي فاعلة ومؤثرة ويمكن ان تكون ندّاً منافساً للوبي الصهيوني لو استطاع العرب استعادة ثقة هؤلاء واحتواء مشاعرهم ومعالجة شكاواهم واسباب ابتعادهم عن اوطانهم وقضاياهم بسبب عوامل الفرقة والخلافات والممارسات الخاطئة والاساليب المتعثرة. - التمهيد لهذا الحوار بحملة اعلامية وثقافية في الغرب تستخدم العقل والمنطق باسلوب حضاري يشارك فيه ابناء الجاليات بشكل فاعل لأنهم أدرى بشعاب الغرب من المنظّرين والمثقفين المزعومين الذين يتصدّرون موائد الحوار ومؤتمراته في ديارنا. هذه الركائز وغيرها مما لا يتسع لها المجال هنا لا بد ان تنطلق بسرعة لمنع انتشار رقعة الشرخ الذي تسببت به عمليات التفجير وما قبلها من حرب في افغانستان ومواقف وتصريحات مسيئة أُطلقت من هنا وهناك وصبّ فيها اعداء العرب والمسلمين، ومعظمهم من الصهاينة، الزيت على النار. واذكر ان المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز كان اول من تنبّه لاهمية الحوار الاسلامي الاسلامي اولاً ثم الاسلامي المسيحي فبدأ برعاية لقاءات بين قادة علماء من السنّة والشيعة وعمل على التقارب مع ايران وباكستان وتركيا واطلق دعوة التضامن الاسلامي الشهيرة ثم اتبعها بإرسال وفد اسلامي الى حاضرة الفاتيكان حيث عقدت جلسات حوار عدة ناجحة كان مقرراً ان تنجم عنها نتائج مثمرة لكنها توقفت بعد اغتيال هذا الزعيم الفذّ في 25 آذار مارس 1975. واكمل الملك فهد بن عبدالعزيز هذه المهمة وسعى ومعه الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي والامير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لاطلاق عملية حوار جديدة انطلقت ايضاً من خطوات جمع الشمل ورأب الصدع والتضامن الاسلامي وحلّ الخلافات والتقارب مع ايران ثم أردفت بانشاء مراكز ثقافية اسلامية واكاديميات ومراكز دراسات اسلامية في الغرب والشرق. ولم تغفل القيادة السعودية دور المسيحيين العرب بل عملت على تدعيمه، باحلال السلام بين المسيحيين والمسلمين في لبنان عبر اتفاق الطائف بعد حرب اهلية مدمّرة وبالدعوة لوحدة الصف، واذكر ان الملك فهد ركّز في حديث اجريته معه عام 1989 انه "حينما نتكلم عن الامة العربية، فإننا هنا نقصد الاطار الكبير، ونقول العرب كل العرب بمختلف مستوياتهم ودولهم وطوائفهم. فبالنسبة للاخوة المسيحيين العرب نقول انهم جزء منا" كما ان الامير عبدالله وجّه لفتة مماثلة اخيراً عندما استقبل المثقفين والمفكّرين العرب المشاركين في مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة. بمثل هذا الاسلوب يمكن الانطلاق نحو الانفراج وفتح باب الحوار على مصراعيه واغلاق ابواب الصراع التي يحاول فتحها اعداء العرب والاسلام ويقدّم لهم بعض ابناء امتنا الذرائع والحجج من اجل اشاعة اجواء العنصرية والحقد والعداء وما تتسبب به من دمار واضرار فادحة. ولدى العرب الكثير من الاوراق المهمة والوثائق الدامغة التي تؤكد دورهم الحضاري عبر التاريخ كما تثبت بما لا يدعو للشك سماحة الاسلام وتسامح المسلمين عبر العصور، من بينها "العهدة العمرية" التي قدّمها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسيحيين في القدس وللمطران صفرانيوس بطريرك القدس يوم الفتح الشهير، واحترم المسلمون حتى يومنا هذا كل ما فيها من مبادئ تضمن الامن والسلامة والحرية والاستقرار للمسيحين ومقدساتهم ولم يتعرضوا للتهديد والترحيل والارهاب وتدنيس هذه المقدّسات الا على يد الصهاينة بعد احتلال القدس والمدن الفلسطينية الاخرى. بل ان اهم ورقة بيد العرب والمسلمين في مثل هذا الحوار تتمثل في حقيقة ثابتة ودامغة ان المسيحيين واديرتهم وكنائسهم وممتلكاتهم وأرواحهم ظلت محمية وسالمة وآمنة منذ اكثر من 1420 سنة ولم يتعرض لها اي مسلم مع ان السيطرة الاسلامية كانت كاملة وشاملة ولم تكن هناك اي قوة دولية مؤثرة تمنع التعرّض لها بسوء. وفي مبادئ الدين الحنيف الكثير من المسلّمات التي تحث على المحبة والسلام والبرّ "بأكثر الناس مودة للمسلمين" او بالجنوح للسلم ومنع الاعتداء على النفس البشرية ولا مجال للافاضة بها هنا ولكن الكثير من رجال الدين المسلمين المستنيرين أشاروا اليها وتحدّثوا عنها في مناسبات مختلفة. وحتى ينجح الحوار وتستوفى متطلباته وتُقام ركائزه لا بد من التأكيد على ان تشعّباته كثيرة: سياسة واقتصاد وثقافة وحضارة وعمل وقدوة… ونجاح العرب والمسلمين يتطلّب الكثير من الجهد واعطاء المثل بالعلم والاعمال الحضارية وبناء الذات وحلّ مشاكل الناس من فقر وجهل وأمّية واصلاح مناهج التعليم ونبذ التطرّف وتفعيل دور الرعاة ورجال الدين والعلماء والاعلام والاهل والمدرسة والجامعة واصلاح المفاهيم الخاطئة عن امور كثيرة واقتلاع جذور الارهاب من اسسها التي أشرت اليها. في المقابل لا بد من اعتراف "الآخر" بأن اي حوار يجب ان يبدأ بنبذ العنصرية والتطرّف والارهاب المقابل ولا سيما الارهاب الصهيوني وانهاء معاناة الشعب الفلسطيني، واحلال السلام العادل والشامل في الشرق الاوسط بعد ردع اسرائيل، وايجاد حلول عادلة لقضايا اسلامية اخرى مثل الشيشان وكشمير وغيرهما، وتأمين مشاركة اكبر للدول العربية والاسلامية في النظام العالمي الجديد، وايجاد حلول لمشاكل الفقر وآثار العولمة على هذه الدول وإبداء الرغبة بمصالحة حقيقية معها ومع شعوبها من اجل "ضمان مصالح كل الاطراف ونزع صواعق التفجير وبدء مرحلة جديدة تقوم على التفهّم والتفاهم والتسامح والاحترام المتبادل ولا سيما بالنسبة للحضارة الاسلامية العريقة. هذه الركائز والقيم والمبادئ والثوابت يمكن ان تشكّل اساساً لبناء جسر حوار الحضارات وتقف سدّاً امام مزاعم صراع الحضارات وتؤكد ما ذهب اليه الاسلام من دعوة للخير والمحبة تقوم على "الحكمة والموعظة الحسنة". اما بالنسبة لنا نحن معشر العرب فان اهم درس يجب ان نستفيد منه في التطورات الاخيرة هو الكفّ عن الممارسات البالية على كافة المستويات وايجاد خطاب حضاري اعلامي سياسي نجابه به الآخر ونتحاور معه لمحو آثار ما فعله "السفهاء"! * كاتب وصحافي عربي.