بات التنافس أو التنازع بين حركتي"فتح"و"حماس"، وهما الحركتان الفلسطينيتان الرئيسيتان، يحتل المشهد السياسي الفلسطيني بأكمله، على حساب التصارع ضد إسرائيل وسياساتها في الأراضي المحتلة. طبعاً ليس ثمة مشكلة في اختلاف هاتين الحركتين حول القضايا السياسية، وفي تنازع القيادات فيهما على الصلاحيات، كما في تنافسهما على المكانة والشعبية، فهذه الظواهر يمكن اعتبارها من بديهيات العمل السياسي، بل وربما تعتبر من أهم الدلائل على حيوية وعافية النشاط السياسي، في حال تم ضبطها وتقنينها وتوجيهها للصالح العام. المشكلة في ما يحصل في الساحة الفلسطينية، هذه الأيام، أنه قد يتعدّى كل التوصيفات السابقة، حيث ثمة تخوفات حقيقية من احتمال تفاقم الأوضاع بين"فتح"و"حماس"، وانتقالها الى درجة عالية من الخطورة، ربما تهدد المشروع الوطني الفلسطيني برمته، فوق كل التهديدات والتحديات المحيطة به من قبل الطرف الإسرائيلي. ويكمن مصدر هذه التخوفات في العوامل التالية: 1- إن النزاعات والخلافات والتنافسات بين"فتح"و"حماس"لم تعد منحصرة في المساجلات داخل إطار المجلس التشريعي أو في تجاذب الصلاحيات بين مؤسستي الرئاسة في الحكومة والسلطة، أو لجهة حسم مكانة المرجعية والشرعية بين الحكومة وقيادة منظمة التحرير، إذ أن كل هذه المظاهر انتقلت الى الشارع، والحاصل فإن هاتين الحركتين باتتا وكأنهما تتعمدان تجاوز الحوار السياسي المباشر في القنوات المناسبة في محاولة منهما لشحن العواطف وتجييش الشارع شارع ضد شارع، في نوع من استعراض"قوة"متبادلة بينهما. 2- المعضلة الأكثر خطورة في المشاكل المقبلة اليوم بين"فتح"و"حماس"أنها أدت الى صدامات مسلحة، على رغم استمرار هاتين الحركتين بتحريم اراقة الدم الفلسطيني. والواقع أن اللعب بالنار في الساحة الفلسطينية جد خطير، لا سيما في ظل فوضى السلاح الحاصلة، وبالنظر لطغيان الطابع الأمني - الميليشياوي، للفصائل الفلسطينية الفاعلة، على طابعها السياسي، وايضاً بحكم تدني مستوى العلاقات الديموقراطية، وضعف البنى المؤسسية، والافتقار الى الوعي بالاحتكام للقانون، وتغليب المصالح الفصائلية الفئوية على المصالح الوطنية والعامة. ويكفي أن نذكر هنا أن عمليات المقاومة الفلسطينية أدت في العام الماضي 2005 الى مقتل حوالي 52 اسرائيلياً، في حين قتل 176 شخصاً من الفلسطينيين، في العام الماضي، بسبب فوضى السلاح وبسبب الاحتكام اليه في بعض المنازعات الداخلية! أي أكثر من نسبة 50 في المئة من عدد الشهداء الفلسطينيين، الذين لقوا مصرعهم برصاص الجيش الاسرائيلي، في ذات العام، والذين بلغ عددهم 311 شخصاً. 3 - باتت الساحة الفلسطينية تعمل وفق معادلة من الازدواجية السياسية، في اطار من تعادل القوى، بين حركتي"فتح"و"حماس"، وهي معادلة تستمد شرعيتها من نتائج الانتخابات التشريعية، التي أدت في ما أدت إليه، الى حصول استقطاب فلسطيني، غير مسبوق، لصالح هاتين الحركتين، بما يعنيه ذلك من تآكل حال التعددية والتنوع في البيئة الشعبية الفلسطينية، في ظل ضعف الفصائل الأخرى. ولا شك ان هكذا واقعاً يهدد التوازن والاستقرار والحيوية في الساحة الفلسطينية، ويضعف من إمكان تطورها السياسي الديموقراطي. كما ان هذا الوضع يجعل هذه الساحة تقبع تحت رحمة التوترات والعصبيات والمزاجات الفتحاوية والحماسية، ويحول دون قدرة أي من الحركتين المذكورتين على الاحتكام للفصائل الأخرى، أو الاتكاء عليها، لترشيد الأحوال والعلاقات السائدة بينهما. 4- أدت التوترات الفتحاوية - الحماسية الى تراجع جدول الأعمال الوطني، فبدلاً من التركيز على التناقض الرئيسي ضد العدو، تجري المبالغة بالخلافات الداخلية، الثانوية والآنية، المضرة. هكذا بات الصراع بين هاتين الحركتين يبدو وكأنه أهم من الصراع ضد اسرائيل! لكأن الصراع على حدود صلاحيات الرئاسة أهم من الصراع ضد جدار الفصل العنصري، أو اعتبار التنافس الفصائلي الداخلي أهم من التوحد لمواجهة التحديات، التي يمكن أن تنجم عن المشروع التصفوي الاسرائيلي المتمثل بالحل الأحادي الانطواء. أو كأن اللجوء للتهدئة ضد العدو ينبغي أن يقابله نوع من التوتير في الساحة الداخلية! وعلى ضوء كل ما تقدم يخشى الاستنتاج بأن الخلافات الدائرة في الساحة الفلسطينية، في هذه المرحلة، انما هي تحصيل حاصل للاخفاقات التاريخية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، بمجمل تكويناتها. فبغض النظر عن الرغبات والشعارات والأمنيات، فإن هذه الحركة، في حقيقة الوضع، لم تحرز النجاحات المناسبة في مجمل الخيارات التي أخذتها على عاتقها، سواء في المقاومة والانتفاضة، أو في التسوية والمفاوضة، كما في مهمات البناء، سواء كانت مهمات بناء الثورة أو بناء الكيان والسلطة، وذلك على الرغم من كل التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني، منذ ما يزيد على أربعة عقود مضت. الأسوأ من ذلك، أنه لا يمكن احالة هذه الاخفاقات فقط الى حجم التحديات الخارجية وأهمها الإسرائيلية بالطبع، التي ظلت تعترض المشروع الوطني الفلسطيني طوال المرحلة الماضية، ذلك أن قسطاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق العامل الذاتي الفلسطيني وهو ناجم عن تخلف إدارة الفلسطينيين لأوضاعهم ولصراعاتهم ضد إسرائيل، أي الى خلافاتهم وفوضاهم. هكذا فإن الفلسطينيين معنيون في حواراتهم المرتقبة، بالبحث جدياً في العوامل الذاتية لحال التأزم في العلاقات الداخلية ووضع حد نهائي لها، بتغليب لغة الحوار وتحكيم المؤسسات الدستورية والتشريعات القانونية، وتغليب مصلحة الوطن على مصلحة الفصيل. ولكن ذلك يتطلب اساساً عدم استعمال الشارع في الخلافات والتوجه نحو ترشيد العلاقة السياسية مع هذا الشارع عبر الارتقاء بوعيه وتوجيه طاقاته للصمود والتغلب على الملاءات السياسية واجراءات الحصار الإسرائيليتين. وفي كل حال لا مناص أمام الفلسطينيين من ابتداع حلول مناسبة للأزمة الحاصلة في نظامهم السياسي على ضوء الازدواجية في السلطة والقيادة والتعادل في المكانة الشعبية بين حركتي"فتح"و"حماس". ومعنى ذلك أن الفلسطينيين يقفون اليوم في مواجهة واحد من خيارين، لا ثالث لهما، فإما اختيار التوافق بين"فتح"و"حماس"، عبر التوصل الى قواسم سياسية وميدانية مشتركة، لمواجهة السياسات الإسرائيلية، وإما التحول نحو حسم واقع الازدواجية والتعادل بالوسائل الديموقراطية والدستورية، إن بتنظيم استفتاء شعبي للحسم في مجمل القضايا السياسية المختلف عليها بين"فتح"و"حماس"، ما يضمن الحفاظ على الواقع القائم على رغم اشكالياته، أو بالتوجه نحو تنظيم انتخابات مبكرة رئاسية وتشريعية في آن معاً، يقرر فيها الشعب الفلسطيني قيادته ومرجعيته السياسية، بما يضمن تجاوز الواقع الاشكالي الناشئ بشكل لائق وحضاري وبما يضمن سلامة المسيرة الفلسطينية أيضاً. * كاتب فلسطيني