على رغم الصمت المطبق في واشنطنوأنقره وصلاح الدين، تسري في كواليس الأحداث والتطورات السياسية، خصوصاً في جبال قنديل الكردية العراقية المتاخمة للحدود مع إيران، حيث معاقل حزب العمال الكردستاني، همهمات تتحدث عن ملامح تطور سلمي لافت في خصوص القضية الكردية في تركيا. إجمالاً، يمكن تلخيص فحوى التطور في أن الحكومة التركية قد تكون أبدت للأميركيين وأكراد العراق استعدادها غير المباشر لقبول وقف النار الذي أعلنه حزب العمال قبل أسابيع. مصادر قريبة من حزب العمال تحدثت عن شروط وضعتها أنقره لمثل هذا القبول غير المسبوق في تاريخ الدولة التركية، بينها: تخلي الحزب عن سلاحه طوعاً وإغلاق قواعده العسكرية في كردستان العراق، إضافة الى حل بنيته التنظيمية. كل هذا، مقابل ضمانات تركية بعدم تنفيذ التهديدات بشن هجوم عسكري على كردستان العراق، والتوجه تدريجاً، نحو تحسين ملف حقوق الإنسان في المناطق الكردية، إضافة الى تسهيل اندماج التيارات الكردية المعتدلة في الحياة السياسية التركية. وأشارت المصادر ذاتها الى أن مسؤولين في المؤسسة السياسية التركية أكدوا، تلميحاً لا تصريحاً، لزعماء أكراد عراقيين ومسؤولين كبار في الإدارة الأميركية عدم استعدادهملأي تسوية سلمية قبل تنفيذ تلك الشروط بما فيها إعلان حزب العمال حل تنظيماته، مشددين على أن التسوية في مرحلتها الأولى لا تشمل الدخول في أي محادثات مباشرة ولا الشروع في تلبية المطالب الكردية، إنما التسوية في هذه المرحلة تعني تطوير وقف النار نحو إعلان حزب العمال حل نفسه ومن ثم تهيئة الظروف أمام حل سياسي وثقافي للقضية الكردية في مستقبل غير بعيديذكر أن حزب العمال أطلق في عام 1984 بقيادة زعيمه المعتقل عبدالله أوجلان كفاحاً مسلحاً ضد الدولة التركية فاقت أكلافه البشرية حتى الآن 36 ألف قتيل.هذا التطور الذي قد يتضح مضمونه خلال أشهر قليلة، وهو في الأصل فكرة أميركية، جاء في أعقاب الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان. فالأتراك خلال أسابيع الحرب أخذوا يطالبون الولاياتالمتحدة بإعطائهم الضوء الأخضر لاجتياح كردستان العراق بهدف ملاحقة مقاتلي حزب العمال الإرهابي المتحصنين في جباله. لكن واشنطن التي تواجه مشكلات عويصة في العراق واتهامات متزايدة بتأجيج نيران الحروب في الشرق الأوسط رفضت الطلب التركي. وما زاد من إصرارها على التمسك بخيار الرفض أن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني شدد في مناسبات عدة على أن قواته سترد بقسوة على أي هجوم تركي محتمل. في المقابل، أوضح الأميركيون أن البديل الأنسب لحال الاجتياحات العسكرية هو اللجوء الى الحلول الديبلوماسية الخفية أو العلنية. فالاسرائيليون الذينبنوا آمالاً على خيار اجتياح الجنوب اللبناني اضطروا في نهاية الحرب قبول الخيارات الديبلوماسية على رغم الآلة الحربية الكبيرة التي استخدموها. لهذا، يعتقد الأميركيون، بأن الحل الكردي لا يكمن في الملاحقة العسكرية، إنما في إقناع حزب العمال، من طريق وساطة كردية عراقية، بالتخلي عن سلاحه وإغلاق قواعده طوعاً والتهيؤللاندماج في الحياة السياسية في البلاد. وفي مسعى الى تسهيل العملية برمتها عيّن الرئيس الأميركي منسقاً خاصاً يقوم منذ أكثر من شهر بجولات مكوكية سرية بين صلاح الدين وأنقرهوواشنطن. لكن المشكلة أن بارزاني الذي تعول الولاياتالمتحدة على دوره الأساسي في الوساطة لا يبدي استعداداً للقيام بأي جهد في هذا الخصوص ما لم توضع وساطته في إطار عملية سياسية أوسع وأشمل تهدف الى حل سلمي وسياسي للقضية الكردية في تركيا. فبارزاني الذي يشتهر بين الأكراد بنزاهته السياسية يعتقد بأن تخلي حزب العمال عن سلاحه ليس هو الغاية بذاته، إنما الغاية تتمثل في اعتبار التخلي عن السلاح مقدمة لإيجاد حل سياسي متكامل للموضوع الكردي تقوم دعائمه على التزام تركي حقيقي برفع الغبن القومي عن الأكراد وضمان تحقيق الحد الأدنى من حقوقهم الثقافية والسياسية على الأقلالى ذلك، تواجه العملية التي لا تزال في بدايتها مشكلات أخرى بينها عدم استعداد حزب العمال للتخلي عن سلاحه ووقف نشاطاته العسكرية وتحوله الى تيار سياسي من دون حصول تقدم في موقف أنقره إزاء الحقوق السياسية والثقافية الكردية.المسؤولون الأتراك لم يعلنوا موافقتهم على طروحات كهذه، لكنهم لم يعارضوها ايضاً. رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان شدد في أول تعليق له على إعلان حزب العمال وقف النار من جانب واحد على أن أنقره تنتظر لترى مدى جدية الحزب في التزام إعلانه. أما حزب العمال فبادر من خلال تصريح مسؤوله البارز مراد قرإيلان الى تأكيد استعدادهالاندماج في العملية الديموقراطية والانضمام الى الجهود الأميركية الرامية الى مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط. يشار الى أن أنقره دأبت طوال العقدين الماضيين على رفض كل العروض التي قدمها حزب العمال لوقف النار مقابل حلول سلمية للقضية الكردية. أبرز تلك العروض أعلنها أوجلان نفسه في بيروت عام 1993. أكثر من مراقب سياسي في أربيل يعتقد بأن الولاياتالمتحدة التي تدرج اسم حزب العمال الكردستاني ضمن قائمتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية وتصنف تركيا كإحدى أهم حليفاتها في الشرق الأوسط بعد إسرائيل، ترغب في وضع حد للعمليات العسكرية المتبادلة بين الأكراد والحكومة التركية منذ اثنين وعشرين عاماً. فمن جهة تعتقد بأن عدم إيجاد حل سلمي للصراعات التركية الكردية قد يجر الى تحول حزب العمال الى حزب إرهابي مؤثر تطاول عملياته لا المصالح التركية داخل البلاد فقط، بل حتى المصالح الغربية في الخارج. كما تعتقد بأن وضع حد لتلك العمليات سيمهد الأجواء أمام تحسن ملحوظ في سجل حقوق الإنسان في تركيا، إضافة الى فتح آفاق كبيرة أمام عمليات التنمية الاقتصاديةوالسياسية والثقافية التركية. وهذا في حد ذاته سيزيل عقبات كثيرة من أمام انضمامأنقرهالى عضوية الاتحاد الأوروبي. الى ذلك، يمكن لوقف القتال الكردي التركي أن يؤسس لتحالف عراقي مع قوة إقليمية كبيرة مثل تركيا في الوقت الذي تدفع فيه دول إقليمية عدة أوضاع العراق الداخلية نحو الانهيار. هذا بالطبع، إضافة الى أن تطوراً سلمياً كهذا سيعزز دور تركيا في الحرب الأميركية ضد الإرهاب وفي صراعات واشنطن مع إيرانوسوريةلكل هذا يحاول الأميركيون بحماسة إقناع الأطراف المعنية بصفقة سلمية. ولا يستبعد المراقبون في أربيل أن تكون لزيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أربيل عاصمة الإقليم الكردستاني العراقي علاقة وثيقة بموضوع وقف النار بين حزب العمال والحكومة التركية. كما لا يستبعدون أن يكون الرئيس الأميركي جورج بوش بحث في الموضوع مع رئيس الوزراء التركي الذي زار واشنطن قبل اسابيع. الى هذا، لا يستبعدون حديثاً ألمانياًتركياً في الموضوع خلال الزيارة التي قامت بها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل الى أنقره قبل أيام. فالأوروبيون، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، راغبون في تهدئة الأوضاع الداخلية التركية لقناعتهم بأن الحرب ضد الأكراد تعيق الى درجة كبيرة محاولات أنقرة الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. ولكن،هناك عثرات كبيرة تعترض طريق المحاولة الأميركية. فالمؤسسة العسكرية التركية تشدد على ضرورة تجريد حزب العمال من سلاحه من دون أي مقابل سياسي. كما أنها تشكك في قدرة الحزب على التحول الى تيار سياسي. في المقابل يلجأ الساسة الأتراك الى المظلة الأميركية على أمل أن تفضي المحاولة الى تخفيف قبضة العسكر عن رقابهم في أنقره. * كاتب كردي عراقي