منذ نحو عشر سنوات تشهد الصين معدلات نمو عالية تراوحت بين 9 و 12 في المئة سنوياً. ويجر هذا النمو وراءه تعطشاً متزايداً إلى مصادر الطاقة الحيوية لتطور الاقتصاد الصيني. وعلى ضوء ذلك يتوقع المراقبون أن تزداد حاجة بكين إلى النفط بمقدار أربعة أمثال حاجتها الحالية خلال العقدين المقبلين. ويعني ذلك زيادة تبعيتها النفطية إلى بلدان منطقة الخليج التي تمدها حالياً بنحو نصف إجمالي وارداتها من النفط. غير أن مخاوف الصينيين من النفوذ المتزايد للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة وخصوصاً بعد احتلال العراق بالتعاون مع بريطانيا ودول أخرى جعلتهم يكثفون البحث عن بدائل نفطية في أمكنة أخرى في شكل هادئ. وفي إطار بحثها الحثيث عن ضمانات لأمنها النفطي وجدت بكين في أفريقيا أحد أهم هذه البدائل. وعلى هذا الأساس بدأت شركاتها النفطية قبل سنوات البحث عن النفط واستخراجه في السودان وبلدان أخرى مثل أنغولا والكونغو. كما وقعت الحكومة الصينية على بروتوكولات تبادل تجاري مع 40 دولة أفريقية أخرى خلال السنوات الخمس الماضية. وقد أثمرت هذه الجهود عن تعزيز العلاقات الاقتصادية، إذ تضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين في الفترة المذكورة ليصل إلى 20 بليون دولار حالياً. وبذلك تصبح بكين ثالث أهم شريك تجاري للبلدان الأفريقية بعد الولاياتالمتحدة وفرنسا. وفي هذا الإطار أصبح نصيب النفط الأفريقي يشكل ربع الاستهلاك الصيني حالياً. أما الصادرات الصينية إلى أفريقيا فلم تعد تقتصر على الأنسجة والمواد الغذائية والصناعية الخفيفة. فقد توسعت لتشمل معدّات متطورة وأجهزة اتصال وتجهيزات البنية التحتية. وانطلاقاً من فرص الصين القوية في السوق الأفريقية، تستمر حكومتها في سعيها لعقد المزيد من الاتفاقات التي توفر لها حصة أكبر في هذه السوق. وفي هذا السياق جاء توقيعها اتفاق تعاون يضمن لها الوصول إلى المواد الأولوية في زمبابوي خلال استضافتها رئيسها روبرت موغابي قبل بضعة أسابيع. غير أن الصينيين لا يكتفون بتعزيز حضورهم التجاري والنفطي في القارة السوداء. فقد امتد هذا الحضور أيضاً إلى فنزويلا وإيران وبلدان أخرى غنية بالنفط والثروات الباطنية الأخرى من جهة. وتريد الصين من خلال بحثها عن شراكات مع هذه الدول وغيرها الحصول على ورقة سياسية تساعدها في مواجهة الضغوط الأميركية المحتملة على أمنها النفطي في حال تأزم النزاع معها في شأن تايوان. ويؤكد هذا البعد السياسي لعلاقات بكين مع الخارج الخبير المعروف كاي مولر من مؤسسة العلوم والسياسة الألمانية. وما يعنيه ذلك برأيه أن بكين ستحاول من خلالها الحد من الهيمنة السياسية الأميركية وخصوصاً في شرق آسيا حيث النزاعات التي تمسها في شكل مباشر. وعلى الجانب الآخر سيكون في وسع الدول الشريكة لها تخفيف عبء الضغوط الأمريكية والغربية عنها من خلال اعتمادها على المنتجات والتكنولوجيا الصينية التي تتحسن جودتها عاماً بعد عام في شكل متزايد. ولعل ما يشير إلى ذلك نجاحها المتزايد في تعزيز موقع منتجاتها في الأسواق الأميركية والأوروبية. وتنتمي إلى هذه المنتجات تجهيزات صناعية وأجهزة إلكترونية معقدة. وخلال الأسابيع الماضية نجحت في طرح أول سيارة من صنعها سيارة لاندويند في أوروبا. وقد فوجئ المراقبون بالنجاح الذي حققته بسبب رحابتها وسعرها المناسب. ومع استمرار الصين الصاعدة اقتصادياً في عملية البحث عن شركاء، يتساءل المرء عن سبب عدم قيام الدول العربية بمبادرات أكثر جرأة من تلك التي تمت حتى الآن نحو إقامة شراكات لا بل علاقات استراتيجية طويلة الأمد معها. ونخص بالذكر منها تلك التي تتعرض للضغوط الأميركية والأوروبية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وما يجعل هذا التساؤل أكثر مشروعية، التطور المتسارع الذي تشهده العلاقات الاقتصادية بين الصين والعالم العربي منذ أكثر من عقد. فقد وصل التبادل التجاري بين الجانبين إلى نحو 37 بليون دولار خلال العام الماضي، أي بزيادة 10 مرات عما كان عليه عام 1994. وعلى ضوء الطلب الصيني المتزايد على المواد الخام من جهة وزيادة الواردات العربية على الأنسجة والمواد الغذائية والمنتجات الصناعية المختلفة، يرى المراقبون فرصة واقعية لوصول حجم هذا التبادل إلى 100 بليون دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. ومما يعنيه ذلك أن الوقت قد حان للقيام بمبادرات عربية تساعد على تنويع البدائل لعلاقاتها التي تحكمها ازدواجية المعايير مع الغرب. صحيح أن العلاقات مع الصين قد تخضع بدورها لمثل هذه الازدواجية، غير أنها ستشكل أحد البدائل الاقتصادية في المستقبل المنظور، والسياسية على المدى البعيد. وتتمثل هذه البدائل على سبيل المثال في فرص تصدير المزيد من المنتجات العربية وفي مقدمها المواد الخام إلى السوق الصينية في مقابل استيراد العرب للسلع الاستهلاكية والصناعية بأسعار منافسة من هذه السوق. ومع استمرار النمو الاقتصادي الصاعد للتنين الصيني يتوقع له أن يلعب دوراً سياسياً متزايداً على صعيد مسرح السياسة الدولية. ويتحدث المراقبون في هذا الإطار عن العصر الصيني المقبل بحلول العقود الثلاثة المقبلة. وعندها يمكن الشراكات الاقتصادية العربية مع بكين أن تكون بمثابة نوع من الدعم والوقاية لها ضد التهديدات الخارجية. * إعلامي وخبير اقتصادي