لا يبدو أن شعرنا العربي اليوم يقف على أبواب مرحلة جديدة، وهو الذي بات في حاجة الى نقلة نوعية تُخرجه من حالة الركود التي يعيشها الآن. يبدو هذا الشعر مرهقاً بما حمله من مهمات ثقيلة ناء بحملها، وكذلك بما تكاثر حوله من نباتات طفيلية حجبت الى حد بعيد لمعان بعضه الجيد، الذي انطوى على اشاراته المتوهجة. هل نقول ان طفرة الحداثة الشعرية التي بدأت عندنا قبل اكثر من خمسين عاماً قد استنفدت اليوم جميع طاقاتها، ولم تفضِ - بعد مرور هذا الزمن - الى احتمالات للمغامرة من جديد؟ هل نقول ذلك؟ وكيف عسانا نصف حالتنا الشعرية الراهنة؟ يعاني الشعر العربي حالياً من عزلة خانقة، وذلك بعدما فقد الوسائل التي تتيح له ولو علاقة مقبولة بجمهور الناس، أو على الاقل بنخبة من هذا الجمهور. لقد استنفد شعرنا الحديث مختلف الطرائف والموضوعات التي عوّل عليها من أجل التوجه الى المتلقين والتأثير فيهم. وقد استنفد ايضاً في هذا السبيل مختلف النظريات الادبية والنقدية التي كان له أن يتصل بها على هذا النحو أو ذاك. لقد حمّل شعرنا الحديث نفسه مهمات جليلة، منذ انطلاقته. ولم يحصر هذه المهمات في المجال الفني أو الشعري، وإنما تطلع الى التغيير في جميع المستويات. أراد العمل على تغيير الذائقة العامة والتأسيس لحساسية معاصرة، تكون تهيئة لفكر جديد، ولثقافة جديدة من شأنها ان تواكب العصر وتستوعب مستجداته. كأن شعرنا الحديث - في بداياته - إنما رمى الى تغيير المجتمع مبتدئاً بتغيير في الشعر. كأنه أراد من التغيير الذاتي أن يكون الباب الى تغيير عام. أما الآن - وبعد مرور اكثر من نصف قرن - يجد شعرنا نفسه أعزل عاجزاً حيال تلك المهمة الكبيرة التي أحبّ الاضطلاع بها. كما يجدُ نفسه محبطاً حيال انجازاته الفنية الداخلية اذا صحّ التعبير التي تبدو مثله في حالة عزلة. لقد جرّب شعرنا العربي الحديث ما قُدّر له أن يجرّب. راوغ السياسة وراوغته. كابد الالتزام وعدم الالتزام. واكب القضايا الوطنية والقومية وأراد ان ينطوي على نزعة انسانية شاملة. حاول الخروج الى"العالمية"التي هي نفي لأي نوع من الحدود أو الحواجز. جادل التراث وحاوره وسعى الى تجاوزه. تطلع الى افتتاح آفاق جديدة للتعبير والرؤى والتصورات. حاول كل ذلك، وها هو اليوم يقف حائراً أمام أوهامه التي انكشفت. يقف حائراً لا يدري هل يعترف بانكساره، أم يكابر فيقول ان الظروف قد عاكسته وانه لا يزال يخوض المعركة؟ يقف شعرنا اليوم حائراً حتى حيال جدوى المحاولة من جديد. هناك من يقولون ان الشعر ليس له مهمة سوى العمل على تجديد نفسه باستمرار، ويضيفون أنه في ذلك انما يعمل تلقائياً على تجديد العالم واعادة ابتكاره. وقد بذل شعرنا الكثير تحت لواء هذه المقولة، فحاول جاهداً تطوير تقنياته وتجديد اشكاله. وشهدت الساحة الشعرية في هذا السبيل سجالات لم تهدأ حتى الآن دارت حول قضايا الايقاع، والوزن، والبناء، واللغة الشعرية، والاسلوب، وغير ذلك. وقد بلغ الامر بهذه السجالات ان ارست نوعاً من التصنيف جعل القصيدة العربية الحديثة إما قصيدة وزن أو قصيدة نثر، ولم يتوقف التصنيف عند هذا الحد، وانما ذهب الى أبعد منه، فوجد أشكالاً متمايزة في القصيدة الاولى، وكذلك وجد أشكالاً متمايزة في القصيدة الثانية. لقد خاض شعرنا الحديث تجارب كثيرة في الداخل وفي الخارج، أي في ذاته وفي محيطه. وها هو اليوم يجد نفسه منهكاً بعد تجاربه تلك. لا يكاد يشعر بنتائج لمغامرته التي تميزت بالتوتر في بعض مراحلها، والتي أثارت غباراً كثيراً حول قضايا تتعلق بالتراث والهوية والعلاقة بالغرب... وغير ذلك. رب قائل ان نتائج المغامرة الشعرية لا ينبغي لها ان تظهر على أرض الواقع، أي لا ضرورة لانعكاسها على الواقع الاجتماعي، وانما هي ظاهرة مكتفية بذاتها. وربّ قائل ان حركة الشعر العربي الحديث قد أدت ما أخذته على نفسها، فهي على الاقل أثارت حسّ المغامرة لدى كتّاب الشعر، وأقنعتهم بضرورة التجديد المستمر وبضرورة مقاومة التقليد. لقد قامت هذه الحركة بذلك، وان كانت قد انتهت بالشعر وبالشعراء الى حالة من العزلة أو الغربة عن المجتمع. وربّ قائل ان شعرنا الحديث قد أنتج أعمالاً جيدة، وإن كانت قليلة بالنسبة الى الكميات الكثيرة من الكتابات التي صدرت باسم الحداثة أو تحمساً لشعاراتها ومقولاتها الاساسية. لا يبدو أن شعرنا اليوم يقف على ابواب مرحلة جديدة. ولكن حالته الراهنة التي وصفناها بالحائرة أو المنهَكة أو المحبَطة أو المعزولة تجعلنا نقول إن أوان المغامرة الجديدة قد أتى. ولا بدّ لهذه المغامرة - كي تكون مغرية كسابقتها - أن تقوم على تساؤلات عميقة حيال ما آلت اليه التجربة السابقة. لا بد لهذه المغامرة المرتجاة، لكي تكون جديدة حقاً، أن تبتكر أوهامها المختلفة عن أوهام الماضي. أجيال شعرية متوهمة الى جانب حالة الركود أو المراوحة التي أتينا على ذكرها، هنالك خلل كبير في تقويم الكتابات الشعرية الحديثة وتصنيفها. هذا الخلل يتمثل بتجنب ما هو جوهري والاهتمام بما هو سطحي في التقويم والتصنيف على السواء. من ذلك مثلاً الكلام على أجيال شعرية تعاقبت في خلال العقود الاخيرة. فبعض الكتّاب المهتمين بقضايا الشعر يحلو لهم أن يصنفوا قائلين: جيل التسعينيات، وجيل الثمانينيات، وجيل السبعينيات، وجيل الستينيات... وهكذا. اذا كان مصطلح"الجيل الشعري"لا ينطوي على أي معنى فني، ماذا نجني من استخدامه في الكلام على الشعراء وتصنيفهم؟ لا نجني - في رأيي - سوى طمس ما ينبغي البحث عنه من ملامح أو خصائص للقول أو التعبير الشعري في مرحلة من المراحل، وعن كيفية تغير هذه الملامح أو الخصائص من مرحلة الى مرحلة. لا نجني سوى طمس ذلك لصالح اظهار ما هو ثانوي أو سطحي في مجال الكلام على الشعر، أي لصالح ادراج الاسماء - أسماء الشعراء - في مجموعات تبعاً لاعمار الشعراء أو لأزمنة ظهورهم في الوسط الثقافي أو الاعلامي، وتداول الاسماء في هذا الوسط بات لا يستند بالضرورة الى مقومات فنية كافية. قد يظهر على السطح اسم لشاعر لا يمتلك الحد الادنى الذي يجب توفره في كاتب جيد. وفي المقابل، قد يبقى مطموساً اسم لشاعر جيّد لم يجد سبيله الى المسرح المتمثل بمنابر الاعلام والترويج. ماذا ينفع - في مثل هذه الحالة - أن نقول هؤلاء هم شعراء التسعينيات، وأولئك هم شعراء الثمانينيات... وكيف لنا ان نعرف - في هذه التقسيمات -ما الذي يجمع شاعراً من هذه المجموعة بشاعر من مجموعة ثانية؟ بل كيف لنا ان نعرف ما الذي يجمع بين شعراء المجموعة الواحدة، وما الذي يميّزهم جميعاً عن شعراء مجموعة ثانية؟ قد يقول قائل ان الأخذ بالمعنى الزمني لمصطلح"الجيل الشعري"قد تكون له فائدة توثيقية أو تاريخية أو احصائية. ولكنّ هذه الفائدة التسجيلية - اذا صح التعبير - من شأنها، اذا لم تقترن بفوائد أخرى، أن تحجب القيم الجوهرية للشعر، وأن تبقي مكانها مجرد أوهام أو ادعاءات. وفي الكلام على شعرنا العربي الحديث، لا يخفى تذمر الكثيرين من تقسيم الشعراء الى جيل أول هو"جيل الرواد"، تليه أجيال تسمى بحسب العقود. وفي هذا ما فيه من غبن يلحق ببعض من أتوا بعد الجيل الاول. في المعنى الاساسي لكلمة"جيل"كما جاء في معاجم اللغة، أنه الجنس من الناس. ويستشف من ذلك أن"الجيل الشعري"ينبغي ان يشير الى جنس أو"نوع"من الشعراء، أي الى نوعية فنية من الشعر. ولو عدنا قليلاً الى الوراء، أي الى ما قبل الحداثة في شعرنا العربي، لوجدنا أن التصنيفات الشعرية كانت أكثر تضمناً لمعنى النوعية الفنية، منها في أيامنا هذه. ففي النصف الاول من القرن العشرين كانت التسميات، في اشاراتها الى مراحل شعرية، تركّز على المدارس أو التيارات أو الاتجاهات الشعرية، أكثر من تركيزها على مجموعات من الشعراء توالت الواحدة منها بعد الأخرى. فمثلاً نجد التسميات الآتية: الشعراء الاحيائيون، الشعراء الرومنطيقيون، جماعة الديوان، جماعة أبوللو، شعراء المهجر، الشعراء الرمزيون،...الخ. "الجيل الشعري"إذن هو أبعد من أن يحصر في عقد أو عقدين أو غير ذلك من التحديدات الزمنية. ومن المؤسف ان معظم التصنيفات الشعرية اليوم تفتقر الى مسوغات فنية، حتى تلك التي تسعى الى هذه المسوّغات أو تتوسلها، مثل: قصائد التفعيلة، قصائد النثر. ففي هذا التصنيف، يؤخذ بمعيار فني شديد العمومية هو الوزن. وكأن كل من يحافظ على الوزن في كتاباته يكون تلقائياً في جانب أو في اتجاه شعري، وكل من يتخلى عن الوزن يكون تلقائياً في جانب أو في اتجاه شعري آخر! مصطلحات التصنيف المستخدمة حالياً لا تقدم فائدة تذكر في النظر الى شعرنا الحديث وتقويمه، وبالأخص مصطلح"الأجيال الشعرية". ولو قال قائل ان شعراء الحداثة العرب لا يشكلون سوى جيل واحد، في اشارة منه الى ضآلة الفروق بين الذين أتوا من قبل، والذين أتوا من بعد، لأمكنه ان يطرح علينا من الاسئلة والمهمات والهواجس ما هو اكثر عمقاً من أولئك الذين يستهويهم تصنيف شعراء الحداثة بحسب العقود، ناسبين الى كل عقد جيلاً قائماً بذاته. بعض المصطلحات، أو التصنيفات، أو التسميات، تشوّش اكثر مما توضح، وتطمس أكثر مما تظهر، وتلغي ما هو جوهري لتحتفي بما هو سطحي. ولكي نبحث اليوم عما هو حقيقي وجيّد في شعرنا العربي الحديث، علينا - في نظري - ألا نقيم وزناً لكل التصنيفات الشائعة حالياً، لأنها اجمالاً لا تقيم وزناً كبيراً للفروقات بين شعراء المجموعة الواحدة. علينا ان نعيد الاعتبار للتجربة الفردية، وأن نتجنب التسميات التي تتجاوز الافراد لكي تضع مكانهم المجموعات، دون تدقيق أو تحليل أو تسويغ. إن الاجيال الشعرية التي يرغب الكثيرون من الكتّاب الكلام عليها في تناولهم لشعرنا الحديث، والتي يجعلونها عادة بحسب العقود، ليست في المعنى الفني إلا نوعاً من الافتراض أو التوهم، الأمر الذي يعرقل تسديد عملية التقويم. هذه العملية بنبغي لها ان تكون سديدة لكي تساعدنا على الانخراط في مغامرة شعرية جديدة.