العلاقة بين الفاتيكان واليهود حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل كانت الأكثر سخونة وتوترًا عبر التاريخ. وفي منتصف القرن الماضي ازدادت الخلافات بينهما بوجه خاص بسبب القضية الفلسطينية، خصوصًا وضع القدس. وكان هناك توافق كبير بين الفاتيكان والموقف العربي تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي. وكان واضحاً منذ اللحظة الأولى رفض الفاتيكان قيام دولة إسرائيل على ارض فلسطين. ونجد البابا بيوس العاشر يوجه رسالة عام 1904 إلى تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ردًا على رسالة سبق أن بعث بها إليه طالباً دعم الفاتيكان تهجير اليهود إلى فلسطين. يقول البابا بيوس العاشر في هذه الرسالة:"نحن لا نستطيع أبدًا أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية. إننا لا نقدر على منع اليهود من التوجه إلى القدس لكننا لا يمكننا أبدًا أن نقره. وبصفتي قيِّماً على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر". ويضيف بيوس العاشر:"اليهود لم يعترفوا بالسيد المسيح، لذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي، وإذا جئتم إلى فلسطين وأقمتم هناك سنكون مستعدين كنائس ورهبانا لان نعمدكم أي أن نحولكم مسيحيين جميعاً". كان هذا هو شكل المشهد الفاتيكاني اليهودي في بدايات القرن المنصرم، وهو يغاير تمامًا صورة العلاقة الرسمية بين حاضرة الفاتيكان والدولة العبرية في أواخر القرن ذاته وبدايات القرن الحالي، حين جاء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني 1961- 1965 ليفتح صفحة جديدة في العلاقة، ويرفع عمن تبقى من اليهود أحياء وزر قتل السيد المسيح بقوله في تصريح عن علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية:"ولئن كان ذوو السلطان والأتباع من اليهود عملوا على قتل السيد المسيح، إلا أن ما اقترف إبان الآلام والصلب لا يمكن أن ننسبه في غير تمييز إلى جميع اليهود الذين عاشوا آنذاك ولا إلى اليهود المعاصرين لنا وان كانت الكنيسة شعب الله الجديد فلا يعني ذلك أن اليهود أصبحوا شعباً مرذولاً أو ملعونًا من الله، كما لو كان ذلك منصوصًا عليه في الكتاب المقدس". منذ ذلك التاريخ اعتبرت الأوساط السياسية والدينية الدولية أن الفاتيكان أعطى إسرائيل الجديدة صك براءة، وان الدولة اليهودية لا بد وأن تكون ممتنة له امتنانًا عظيمًا. لكن واقع الحال كان غير ذلك، ولعل أفضل من عبَّر عنه هو شاعر بني أمية الكبير غياث بن غوث التغلبي الملقب بالأخطل حين قال:"وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات الصدور كما هي". وها هي الحزازات تتضح تجاه الفاتيكان من جديد، ما يعني أن كل ما قدمه الكرسي الرسولي من قبل لا تقيم إسرائيل له وزنًا وأنها تريد مع اعتلاء الكاردينال الألماني الأصل جوزيف راتسينغر السدة البطرسية بعث رسالة قوامها لا ينسحب على الحاضر فقط، ولكن يمتد على قادمات الأيام ومستقبل البابا الألماني الأصل بندكتوس السادس عشر... ما معنى هذا الحديث؟ أما عن الحاضر، ففي السابع والعشرين من الشهر الماضي وفي مقر استراحته في منطقة لي كوب الجبلية شمال إيطاليا، دان البابا بندكتوس العمليات الإرهابية ورأى أنها تهين الإنسان، إذ قال:"تعكر صفو الأيام الماضية بالأنباء المأسوية للعمليات الإرهابية التي سببت الموت والدمار والآلام في بلدان عدة مثل مصر وتركيا والعراق وبريطانيا. وفيما نوكل إلى الرحمة الإلهية الموتى والجرحى وأعزاءهم ضحايا أعمال الإنسان، فإننا نسأل الله الكلي القدرة كي يوقف اليد المجرمة للذين ارتكبوا هذه الأعمال بدافع التعصب والكراهية ويهدي القلوب إلى أفكار المصالحة والسلام". وما ان خلص البابا من تصريحاته حتى كانت إسرائيل تملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا كعادتها في تلبس ثوب الضحية، وتندد بتصريحات بابا روما وترى أنه تعمد عدم الإشارة إلى العملية العسكرية التي استهدفت بلدة ناتانيا الإسرائيلية. ولم يقتصر الأمر على الحاضر، إذ بدت حزازات الصدور واضحة في العودة إلى الماضي من خلال تصريحات الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية نمرود بركان لصحيفة"جيروزاليم بوست"التي انسحبت على الراحل البابا يوحنا بولس الثاني بقوله إن"الكرسي الرسولي يعتمد منذ سنوات سياسة تقضي بعدم إدانة الإرهاب في إسرائيل"، في إشارة منه إلى تحيز الفاتيكان الواضح إلى الشعب الفلسطيني. وبدا واضحاً أن تصريحات الخارجية الإسرائيلية تحاول إشاعة ما يوحي بقدرة تل أبيب على التدخل في شؤون الكرسي الرسولي من جهة، وتحاول إحداث شكل من أشكال الوقيعة بين البابا الجديد والفلسطينيين شعبًا وحكومة ومقاومة من جهة ثانية. وبعيداً عن ردود الفاتيكان الآنية، يتساءل المرء: لماذا جاءت التصريحات الإسرائيلية على هذا النحو، خصوصًا جهة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني؟ وللإجابة، نذكِّر هنا بمواقع ومواضع عدة أعلن فيها البابا الراحل عن رفضه لأشكال العنف كافة التي تحدث في الأرض المقدسة وعلى تراب فلسطين. ففي الثاني عشر من كانون الثاني يناير 1979، أي بعد نحو سنة واحدة من بدايات حبريته وفي لقائه بأعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، دان يوحنا بولس الثاني أعمال العنف بحق المدنيين ولصالح دولة إسرائيل في العيش بأمان وسلام. وفي الرابع من نيسان أبريل عام 1982 عبر عن ألمه للأحداث التي وقعت في الضفة الغربية وفي الخامس عشر من كانون الثاني يناير عام 1983 دعا يوحنا بولس الثاني إلى وقف اللجوء إلى العنف والإرهاب والثأر. أما أقوى مواقفه، فجاء في لقائه بالجماعة اليهودية في فيينا في الرابع والعشرين من حزيران يونيو عام 1988. يومها قال إن"تذكار المحرقة يعني رفض كل شكل من أشكال التحريض على العنف وحماية وتعزيز كل بذرة حرية وسلام بصبر ومواظبة". ويطول ذكر عدد المرات التي دان فيها يوحنا بولس الثاني ما تعرض له المدنيون اليهود من اعتداءات، لكن في كل مرة كانت إدانته لا تشفي غليل إسرائيل، ذلك لأنه وعلى الدوام ذكر بأن العنف الإسرائيلي يولد عنفًا مضادًا، ويؤكد أن السلام لا يبنى من خلال إقامة الحواجز وتعلية الجدران بل بتشييد الجسور، في إشارة إلى السور العازل الذي كانت إسرائيل بدأت في بنائه على الأراضي الفلسطينية. ولعل ما أورده الدكتور خواكين نافرو فالس مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي عبر عن أسباب الأحقاد الإسرائيلية الدفينة تجاه المؤسسة الفاتيكانية، إذ ذكر أن يوحنا بولس الثاني دان غير مرة كل شكل من أشكال الإرهاب ضد إسرائيل، ولم يكن ممكناً في كل مرة تتعرض فيها إسرائيل لهجوم إصدار إدانة على الفور لأسباب عدة، بينها أن ردود الفعل الإسرائيلية لم تكن تتفق دائمًا ومبادئ القانون الدولي وبالتالي كان من غير الممكن إدانة العمل الأول والسكوت عن الثاني. لم يشفع للبابا الراحل زيارته لإسرائيل ولنصب المحرقة ولحائط المبكى كأول بابا للكنيسة الكاثوليكية يقوم بتلك المراسم، كما لم تلق مطالباته بإحلال السلام قبولاً أو حظوة لدى صناع القرار في إسرائيل تكفل له عدم انتقاده بعد رحيله. والرسالة الإسرائيلية التي أحسبها حقيقية وتنسحب على البابا بندكتوس السادس عشر في مستقبل أيامه في الفاتيكان، فتتألف من شقين: الأول هو محاولة إبعاده عن القيام بأي دور مساند للقضية الفلسطينية ولا حتى دعمها أدبياً بتصريحات عادلة في اضعف الأيمان، سيما في ضوء أمر الانسحاب من غزة، ومن ثم التلاعب بمستقبل الدولة الفلسطينية التي ينادي الفاتيكان على الدوام بحق الشعب الفلسطيني في إقامتها، إضافة إلى محاولة إلزام الكرسي الرسولي في عهد البابا الجديد الصمت جهة الوضع في القدسالمحتلة التي تؤكد إسرائيل على الدوام أنها العاصمة الأبدية لها، ناهيك عن إرهاب الفاتيكان كي لا يدين أي اعتداءات إسرائيلية يمكن أن تحدث خلال فترة الانسحاب. فيما الشق الأخر يتعلق بحبرية البابا الجديد التي ربما تشهد فتح بعض ملفات الفاتيكان ودوره في الحرب العالمية الثانية وحضور الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا إبان النازية، ذلك أن إسرائيل تريد إصدار إدانة قوية دولية وعالمية ضد البابا بيوس الثاني عشر الذي اعتلى الكرسي الرسولي في فترة الحرب العالمية الثانية، والذي توجه له الصهيونية سهام الاتهامات بأنه لزم الصمت إزاء المحرقة التي تعرض لها اليهود. ومع اعتلاء بابا من اصل ألماني كرسي روما، فإن إسرائيل قد تراودها الشكوك جهة هذا البابا المحافظ الذي ترأس مجمع العقيدة والايمان لأكثر من عشرين عاماً، وهي شكوك تجاه رؤاه ورؤيته لإسرائيل وللقضية الفلسطينية ومدينة القدس التي لا يزال الفاتيكان يرفض الهيمنة والسيطرة الإسرائيلية المطلقة عليها، ويرى انه يجب أن يكون لها وضع خاص يكفل حرية الأديان الثلاثة وهو ما ترفضه إسرائيل. ولم تنس إسرائيل ولن تنسى أن الفاتيكان وفي عهد البابا بندكتوس الخامس عشر عام 1917 رفض وعد بلفور ورفع شعارًا تاريخيًا"لا لسيادة اليهود على الأراضي المقدسة"وانه كان وراء تشكيل لجنة التضامن الإسلامي المسيحي العام 1920 التي كانت مهمتها مطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور، فهل الأمر عند صناع القرار في دولة إسرائيل هو التخوف من البابا بندكتوس... أيّ بابا بندكتوس؟ * كاتب مصري.