يتفاوت الطابع الذي يتركه الناقد الفرد أو الحركة النقدية على النص المقروء، إفراداً أو جمعاً. هذا التفاوت يطرح مسألة القيمة، ومن ثم يطرح نوع الغواية التي توقعنا بها القراءة المعاصرة في أسر النصوص المقروءة غير المعاصرة. وأعترف أن تأثير طه حسين - في عملية الغواية هذه - ترك أكبر الأثر في تكويني خلال مرحلة الشباب، ودفعني إلى أن أفتن بطريقته في القراءة فتنتي بشخصه الذي لا ينقضي عجبي منه وإعجابي به. وأول سبب في هذه الفتنة - في حالة النصوص الجاهلية من حديث الأربعاء - هو هذه البنية الدرامية التي لجأ إليها ليستدرج القراء المحايدين، أو المعاندين، أو - حتى - القراء البسطاء إلى موضوعه، ويفرض عليهم متابعة القراءة والمضي فيها بتوابل الدراما ووسائلها في التشويق. ومصداق ذلك أن"حديث الأربعاء"هو أدب وصفي عن أدب إنشائي - إذا استخدمنا لغة طه حسين، بمعنى أن تفسير النصوص القديمة يتحول إلى نصوص موازية لهذه النصوص، تناظرها في الخاصية الأدبية، وتوازيها في القدرة على تحقيق الإثارة أو الانغواء بما هو ? أصلاً - موضوع لكلا الأدبين: الوصفي والإنشائي. هكذا، يكتسب"حديث الأربعاء"عفوية الحديث وتلقائيته، ولا يخلو من المكر أو الغمز أو السخرية التي تثير البسمة في أغلب أحوالها، وتدفع إلى تأمل المغزى في كل الأحوال. ولذلك يصوغ طه حسين"حديث الأربعاء"في قالب حوار يدور بين شخصين، كأنهما البطل والبطل النقيض في القص. أما البطل - طاغي الحضور- فيمثل شخصية دارس الشعر العربي القديم، وهو تمثيل مباشر لطه حسين الذي يظل منذ البداية محباً لهذا الشعر، مدافعاً عنه، ويظل واثقاً من سلامة موقفه على امتداد الحوار، منتصراً في كل الأحوال، قادراً على الإجابة الصائبة والملاحظة العميقة، حريصاً - في الوقت نفسه - على توليد الحقيقة التي يريد الوصول إليها من الحوار، فيبدو الأمر كما لو كنا في ممارسة موازية للحوارات السقراطية بخصائصها المولِّدة للأفكار. أما البطل النقيض فهو - على الضد من شخصية البطل - تمثيل لنوع من المثقفين المحدثين، قرأ نتاج الغرب وليس الشرق، معجب متحمس لأدب الحاضر الأوربي، ونافر كاره لأدب الماضي العربي، فهو يقرأ آثار الشعراء الإنكليز والفرنسيين والألمان، ويجد فيها لذة لا تعادلها لذة، في حين ينفر من الشعر العربي القديم، لا يصبر على المضي في حدائقه المهملة، ويجد صعوبة بالغة في مطالعة شروحه القديمة، فينتهي الأمر به إلى الانصراف عن هذا الشعر وكراهيته، والإنسان عدو ما يجهل في ما حدثنا القدماء. ويبدأ الحوار بين الاثنين بداية مثيرة للفضول يتدافع فيها الحوار، وتواجه الحجة الحجة إلى أن يتفق البطل والبطل النقيض على قراءة الشعر الجاهلي معاً، ويغدو البطل رائداً يرود الطريق أمام رفيقه الذي يأخذ في التخلّي عن كراهيته ونفوره شيئاً فشيئاً، ليستبدل، تدريجاً، أسباب الإعجاب بأسباب النفور إلى أن يختفي النفور في النهاية، وتتحول الشخصية من النقيض إلى النقيض، خصوصاً بعد أن اكتمل لها فعل الغواية، وانغوت بما جعل منها"غاوية"بالمعنى الذي يصل الفعل غَوَي بالفعل هَوَي. وتنتهي الأحاديث بتحول الكاره إلى محب، لكن عبر تحولات وتوترات ومشوقات سردية ومثيرات رمزية، تتراكم بسببها متعة القراءة. ولقد صنعت معي أحاديث طه حسين عن الشعر الجاهلي ما أحدثه بطلها في البطل النقيض. صحيح أنني لم أكن قارئاً متعصباً للأدب الأوروبي، فقد كان محصولي منه بالغ الضآلة، يوم قرأت الجزء الأول من أحاديث الأربعاء، للمرة الأولي. ولم يكن محصولي في الأدب العربي نفسه يختلف كثيراً، خصوصاً بعد أن أفلح التدريس العقيم للغة العربية وآدابها في زيادة نفوري من النصوص العربية القديمة التي استبدلت بها، غير آسف، نصوص الأدب العربي الحديث، وعلى رأسها"أيام"طه حسين نفسه. ولولا حبي لهذه السيرة الذاتية الآسرة - بخاصة في جزئها الأول - لما أقبلت على قراءة كتاب"حديث الأربعاء"نفسه. ولكن ما إن بدأت القراءة حتى وجدتني متورطاً في هذا الخلاف بين عاشق الشعر العربي القديم وكاره هذا الشعر، وظللت استمع إلى هذا وذاك إلى أن أصبحت مثل الثاني قابلاً للغواية، ومن ثم منغوياً بسحر العارف الخبير ذي اللغة الرائقة الممتعة في إيقاعاتها. وكانت النتيجة أن أوقعتني الأحاديث في هوى موضوعها الذي كنت نافراً منه قبل معرفته، فاندفعت بالفضول الذي ظلت الأحاديث تبقي على وقدته إلى أن أكملت الأحاديث كلها، وانتقلت منها إلى غيرها لكي أرى تجليات أخرى من الحوار بين الأضداد أو - على الأقل - من الحوار بين طالب فتى - مثلي - وأستاذه الشيخ الذي كان قناعاً ثانياً لطه حسين - المُغْوِي الأكبر في مسيرتي الثقافية. وأذكر أنني حزنت لانتهاء الجزء الأول من أحاديث أربعاء الشعر الجاهلي، فعاودت القراءة للمرة الثانية لأستعيد المتعة التي شعرت بها أثناء القراءة الأولى، فتزايدت المتعة، واكتملت في القراءة الثالثة عملية الغواية التي أصبحت - بسببها - عاشقاً للتراث، واقعاً في غوايته، ولا أزال، إلى اليوم. صحيح أن هناك عمليات لاحقة من الغواية التي اكتملت بها محبة التراث وفتنته في داخلي وجعلتني عاشقاً من عشاقه الكثيرين، لكن تأثير طه حسين، يظل هو الأقوى لأنه الأول الذي كانت جذريته متساوقة مع خصائصه الأدبية التي جذبتني إليه، وعلمتني - على نحو غير مباشر، وربما غير مدرك في ذلك الزمان البعيد - أن لغة الناقد يمكن أن تجذب القارئ إلى موضوع النقد، وتسهم في استمالته إلى محاجة الناقد أو وجهة نظره، وقد تصد عن القراءة، فتنفّر القارئ منها وموضوعها على السواء. ولا شك في أن جذرية طه حسين أو أدبيته هي التي فتحت الأبواب المغلقة التي مضت منها قراءات لاحقة للتراث إلى آفاق أرحب وأكثر تنوعاً وجدة. ولكن لولا المحاولة الجذرية الأولى الرائدة ما كانت المحاولات اللاحقة. ولولا جسارة طه حسين التي لم تعرف المهادنة ما امتلكت المحاولات اللاحقة شجاعة المحاولة، ولا انطوت على رغبة الإضافة والمجاوزة في آن. ولذلك تظل قراءة طه حسين للشعر الجاهلي بمثابة الحب الأول في تكويني الأدبي، تذكرني دائماً ببيتي أبي تمام الشهيرين: نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل قد ينطوي الاستشهاد على بعض الرومنطيقية، والحنين الفطري إلى التجربة المعرفية الأولى، خصوصاً حين تكون جذرية في تأسيسها، بعيدة الأثر في ما خلفته في العقل والوجدان، ولكنني لا أزال أنجذب إلى قراءة طه حسين للشعر الجاهلي، ولا أزال أستمتع إلى جانب ما يقوله عن الشعر بالإيقاع الصوتي العذب للغته التي تدفعني - أحياناً - إلى قراءتها لنفسي بصوت مرتفع، مدركاً أن هذه اللغة لا تجذب الانتباه إلى نفسها فحسب، وإنما تضفي عدوى الغواية إلى النقد الذي تؤديه، والذي يتحدى كل قارئ متخصص، ويدفعه دفعاً إلى جهد مواز، ولكن في استفزاز مضمر لا يخلو من معاني الإثارة المقرونة بالتحدي. ولذلك ظلت قراءة طه حسين للشعر الجاهلي مغوية بصنع ما يوازيها، ويمضي في طريقها، أو يسعى إلى التفوق عليها ومجاوزتها بمعنى أو غيره، خصوصاً مع تقدم المعارف المساعدة والعلوم المعينة. وإذا كان طه حسين فتح الباب على مصراعيه لتعبره المحاولات الجسورة اللاحقة التي انطوت على الجذوة نفسها من التلهب المعرفي ورغبة الإضافة المحرقة، فلحسن الحظ أننا لا نظل أسرى الحب الأول طوال العمر، فالقلوب مغرمة بالجمال، غاوية مغوية بطبعها الذي يجعلها تتنقل كالنحل ما بين الزهور المتنوعة المتباينة، ما ظل عبير هذه الزهور ينطوي على الغواية الجاذبة التي يزداد تمكنها إذا وجدت مستعداً لها. ولذلك، وجدتني متأثراً - بعد طه حسين - بقراءة أستاذي يوسف خليف للشعراء الصعاليك. وكنت في عامي الجامعي الأول في قسم اللغة العربية. وقد قرأ يوسف خليف قصائدهم معنا بطريقته المائزة في الإلقاء، ودفعنا - نحن طلابه - إلى محبة الشعراء الصعاليك، وإلى تذوق ما وراء صعوبة لغتهم من جمال آسر وحنان فاتن وقيم إنسانية دافقة. وكان كتاب يوسف خليف"الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي"الذي أصدرت دار المعارف في مصر طبعته الأولى سنة 1959 نوعاً ثانياً من الأحاديث التي اكتملت بمحاضرات النصوص التي أشركنا فيها - نحن طلابه الذين أحببنا حبه للشعر الجاهلي - فذقنا بعض ما ذاق هو من متع هذا الشعر في كتابه الذي لم تفقده السنوات الكثيرة نضارته الأولى. ولا أزال - إلى اليوم - أذكر بعض الظواهر الفنية لشعر الصعاليك التي أوقفنا عليها يوسف خليف، لافتاً انتباهنا إلى أنه شعر مقطوعات يتميز بالوحدة الموضوعية والتخلص من المقدمات الطللية، ويغتني بنزعته الإنسانية التي اقترنت بالتحلل من الشخصية القبلية، ويزداد حيوية بنزعته القصصية، وواقعيته، وتوتره المتدافع الذي أطلق عليه يوسف خليف اسم"السرعة الفنية". وبفضله عرفنا لامية العرب للشنفري، وتائية تأبط شراً الشهيرة، وتنقلنا ما بين عوالم الجن والسعالي التي قهرها فحول الصعاليك، إلى أن استقر طوافنا على ما تبقى من شعر عروة بن الورد الذي لم يتوقف عن مجادلته زوجه ابنة منذر التي صاح فيها بمطلع قصيدته: أقلي عليّ اللوم يا ابنة منذر/ ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري ذريني ونفسي آمَّ حسانَ إنني/ بها، قَبْلَ أَنْ أَمْلِكَ البَيْعَ، مُشْتَري أحاديثَ تبقى، والفتى غيرُ خالدٍ/ إذا هُوَ أَمْسَى هَامةً فَوْقَ صُيِّر الطريف أن أكثر المحاولات التي تركت تأثيرها في تكويني الأدبي الأول - في سياق قراءة الشعر القديم - كانت لتلامذة طه حسين الذين مضوا في دربه. والأطرف أنني كلما تأملت أثر شوقي ضيف في نفسي - وهو من هو بين تلامذة طه حسين - وجدت هذا الأثر ضئيلاً لا يتناسب مع مكانة الرجل أو حجمه، ذلك أنه كان مهتماً بتاريخ النص أكثر من النص، وبإعداد تاريخ للأدب العربي في شموله أكبر من تدريب طلابه على متعة التذوق ولذة اكتشاف التفاصيل المرهفة لأدبية كل نص على حدة. ولحسن الحظ، كان يوسف خليف يتولى تعويض هذا الجانب بذوقه المرهف، وقد كان رحمه الله شاعراً عمودياً متميزاً إلى جانب كونه دارساً متمكناً. ولذلك، اقتسم مع شوقي ضيف تدريس الشعر القديم لنا، شوقي ضيف يغرقنا في تفاصيل تاريخ الأدب التي صنع منها -في ما بعد - موسوعته العظيمة عن تاريخ الأدب العربي، بينما يوسف خليف يمتعنا بتعريفنا إلى أرهف النغمات التي تتجاوب بها نصوص الشعر القديم. ولا أزال أجد في ما بنى عليه شوقي ضيف أطروحته للدكتوراه صدى واضحاً لطه حسين، خصوصاً حين يذهب - في كتابه"الفن ومذاهبه في الشعر العربي"الذي كان أطروحة تحت إشراف طه حسين - إلى أن الشعر العربي بدأ بالطبع، وانتقل منه إلى الصنعة، ومنها إلى التصنيع ثم التصنع، فالتعميم في الأطروحة يختزل حالات التعين، ويغض الأعين عن الملامح الفردية، ويوقع من لا ينتبه في أسر نزعة آلية تصل وصلاً ميكانيكياً بين تعقد الشعر وتعقد الحياة من حوله. ولم يكن الذوق الأدبي لشوقي ضيف، رحمة الله عليه، يتمتع بصفات الرهافة والنفاذ عند أستاذه، فظلت نظرته إلى الشعر نظرة المؤرخ الذي لا يرى في النص سوى وثيقة متعددة الدلالات، ولا يلمح في القصيدة الفريدة سوى كونها تمثيلاً لغيرها الذي يقع خارجها. وأظنه - رحمة الله عليه - كان مدركاً لشيء من ذلك، فاستعاض عن القراءة المعمقة للنصوص بالتأريخ لها، وهو أمر تناسب وثقافته التقليدية التي لم تتجاوز معارف الأزهر كثيراً، خصوصاً أنه لم يتح له ما أتيح لأستاذه العظيم من الاطلاع على الآداب الأوروبية، والتمثل الكامل لمناهج الدرس الأدبي وأسرار تفسير النصوص على أيدي أعلامها الكبار في أوروبا. خصوصاً من الذين تتلمذ عليهم طه حسين على نحو مباشر أو غير مباشر. ولكن هذه الملاحظة السلبية لا تقلل من قيمة أستاذي شوقي ضيف بحال، فقد نهض بما لم ينهض به غيره من تاريخ شامل كامل، وترك لنا موسوعته الكبرى في تاريخ الأدب العربي التي لا أظن أننا سنجد لها نظيراً في المدى القريب. رحمه الله، فقد كان عالماً موسوعياً فاضلاً، وثقة لا نظير له في علوم التراث ومجالاته. وأحسب أن مصطفى ناصف هو الأقرب إلى نهج طه حسين، والأكثر تأثراً به في التعامل مع النصوص. لا فرق بين الاثنين سوى أن الأستاذ تتلمذ على لانسون والمدرسة الفرنسية، بينما التلميذ كان من شداة اللغة الإنكليزية والمتأثرين بثقافتها. ولذلك وقع - وهو في إنكلترا - تحت تأثير نقاد من أمثال ريتشاردز صاحب"مبادئ النقد الأدبي"وپ"فلسفة البلاغة"وپ"النقد التطبيقي"وتلميذه إمبسون الذي اشتهر بتحليله النصي في كتابه الشهير"سبعة أنماط من الغموض". وهو التأثير الذي فتح عقل مصطفى ناصف على التأثر بمدرسة"النقد الجديد"الأميركية، خصوصاً في قراءاتها المدققة وتقنياتها الكاشفة التي كانت نقلة كبرى في مدى تحليل النصوص الأدبية. هكذا، مضى مصطفى ناصف في طريق أستاذه طه حسين، لكن بعد أن هجر نزعته الانطباعية، ووقع تحت تأثير النزعة الموضوعية التي رسختها في وعيه مدرسة"النقد الجديد"الأميركية التي تعلم منها تقنيات القراءة الحديثة، ونقل عنها أدوات الغوص عميقاً في طبقات النص من خلال القراءة الفاحصة التي تنطق ما في الثغرات من صمت، وتدرك ما في العلاقات والصور من مفارقات، غير غافلة عن إنطاق المسكوت عنه من المتضمنات القارة في تلافيف أبنية النص. وقد أصدر مصطفي ناصف"قراءة ثانية لشعرنا القديم"سنة 1981. وهي قراءة ممتعة، كاشفة، لا أنسى منها قراءة معلقة طرفة التي كانت نموذجاً للمبدأ الذي أعلنه مصطفى ناصف في مقدمة كتابه حين قال:"لا خير في أن يكتب المرء عما لا يحبه". وبالفعل، كانت فصول كتابه كتابة مفعمة بحب النصوص التي تكشف عن رهافة ذوق مصطفى ناصف، وثراء أدواته النقدية التي ساعدته على الغوص عميقاً، إلى حيث لا يغوص إلا العشاق المستعدون لتحمل مشاق وتضحيات العشق وغواياته. ولذلك لم يتوقف عند"قراءة ثانية"، فأتبعها بكتابه"صوت الشاعر القديم"الذي صدر سنة 2991، والذي كان إكمالاً للمنهج نفسه في الكتاب الأول، واستدراكاً بالتوقف على النصوص الجاهلية التي لم يتوقف عليها في القراءة السابقة.