أتصور أن المحاولة الأكمل للعودة إلى التراث الشعري والاختيار منه، وإعادة تفسيره، في سياق النظريات المحدثة، هي محاولة الشاعر السوري الأصل علي أحمد سعيد أدونيس الذي قضى سنوات طويلة من عمره دارساً للتراث، غاوياً به ومغوياً فيه، موازناً، مقارناً، مستخلصاً، كاشفاً عن التيارات المتعارضة التي تنوس ما بين الثابت والمتحول، أو ما بين الاتِّباع والابتداع، وهما الثنائية الضدية التي كانت أساس أطروحته - الكتاب"الثابت والمتحول"الذي هو دراسة في تقاليد الاتِّباع والابتداع عند العرب. وهي دراسة تسعى إلى كشف تقاليد الاتِّباع ونقدها، إدراكاً لتأثيرها السلبي المتواصل في الثقافة العربية، وكشفا عن دورها الذي لا يزال معادياً لكل محاولات الابتداع التي لا تزال موصومة، إلى اليوم، بالمروق الديني والسياسي والفكري والاجتماعي. وذلك كله في العملية المعرفية - والرؤية المنهجية - التي يسعى بها الكتاب - الأطروحة، ضمن مشروعه الأكبر إلى تقويض نزعات التقليد الجامد بالكشف عن طبقاتها الحجرية الضارة التي تراكمت عبر العصور، وتوحشت في أزمنة الضعف والهزائم. وفي المقابل، الإسهام في تأكيد حضور ثقافة الابتداع التي لا تزال مهمشة في كل مجالات المعرفة وميادين الأنشطة التي يتحرك فيها الوعي العربي. وانحياز الكتاب - الأطروحة واضح منذ البداية، بل منذ العنوان في ثنائيته الضدية التي تدفعنا معالجة الفصول إلى التعاطف مع طرف التحول فيها، ومن ثم مع الدافع المتجدد للحداثة والتحديث. والأولى فكرية إبداعية، أما الثانية فهي مادية صناعية. ولكن العلاقة متصلة بين طرفي الثنائية الجدلية في كتاب أدونيس، فالكتاب كله مبني من منظور نافر من التقليد الاتباعي، مؤثر للابتداع الحداثي في كل أحواله ومجاليه وأزمنته. وأتصور أن الكتاب يطرح الأساس النظري المتأخر لديوان الشعر العربي، أو هو التنظير الذي ترتَّب على السياحة المتأنية والقراءة الفاحصة للتراث العربي - الإسلامي بعامة، والشعري خصوصاً. ولذلك فالصلة وثيقة جداً ومتبادلة بين "الثابت والمتحول"وپ"ديوان الشعر العربي". كلاهما بمثابة إثبات لمنظور الآخر وتأكيد له في مجاله. ولذلك كانت بداية المحاولة المنهجية التي فرضتها رؤية العالم الأدونيسية - في تحيزاتها الحداثية - هي المختارات الموسَّعة التي صنعت"ديوان الشعر العربي"بمجلداته الثلاثة الضخمة التي تعد أوسع وأشمل وأعمق مختارات صنعها شاعر عربي معاصر، بعد مختارات شعراء النهضة الكبار، أمثال البارودي في مختاراته الشهيرة التي تتكون من مجلدات أربعة، تكشف عن ذوقه وعن نماذجه العليا في الصناعة الشعرية. ومختارات أدونيس قطعة من عقله، أو مرايا لتحيزاته الإبداعية التي تبحث عن الشبيه والنظير وليس عن النقيض، شأنها في ذلك شأن مختارات الشعراء الكبار الذين لا يرون من أسلافهم إلا ما كان منطوياً على هذا الملمح أو ذاك منهم. وطبيعي أن تقلب هذه التحيزات الميزان الموروث المتعارف عليه، فتمنح المهمش المجهول المكانة التي يستحقها، أكثر من غيره المشهور الذي يتضاد وهذه التحيزات. وفي الوقت نفسه، تعيد تفسير المعروف بما يسقط عليه من أضواء التأويل ما يجعله مغايراً. وقد صدرت الطبعة الأولى لديوان الشعر العربي عن دار المكتبة العصرية في بيروت ما بين 1964 - 1968، ونفدت طبعته الثانية التي صدرت عن دار الفكر في بيروت سنة 1986، الأمر الذي دفع إلى إصدار طبعة ثالثة عن"دار المدى"في دمشق سنة 1996، وذلك تلبية للرغبة العميقة عند القراء العرب في العودة إلى الشعر، والسفر فيه ومعه إلى مناطق من حياتهم، واقعاً ومثالاً، يَصْبون إليها، ويشعرون، عبر هذه الصبوة، بالغبطة والطمأنينة، وليس هناك ما يوصلهم إليها، أو يربطهم بها إلا الشعر. وقد صدرت مختارات"ديوان الشعر العربي"عن هذا المنطلق، وفي ظل إيمان عميق لم يتزعزع بأن الشعر هو خلاص العالم. وهو إيمان لا يزال قائمِاًَ في وعي أدونيس الذي ينطوي على تراتب أدبي صارم، يقع في القمة منه الشعر الذي لا يدنو من مرتبته العليا نوع أدبي غيره عند صاحب"زمن الشعر"الذي لا يزال يصعب عليه تصور أننا نعيش"زمن الرواية".. فالرواية لا تزال، عنده، وخصوصاً العربية، أضيق في أفقها ومنظورها من أن تؤسس لتجربة كيانية كونية كلية، وعلى العكس من ذلك الشعر الذي ليس هو ديوان العرب القدماء والمحدثين فحسب وإنما هو التجسد الأسمى للقيمة الإبداعية المطلقة التي لا تتجلى بتمامها إلا فيه، ولا تستمد حضورها الكوني والإنساني إلا منه. أما أن جائزة نوبل قد أخذتها الرواية العربية لا الشعر فهي مفارقة لا يعوّل عليها، واستثناء قد يكون له أسبابه غير الأدبية التي لن تمضي إلى ما لا نهاية، فالمجد للشعر وحده الذي ليس هو خلاص العالم فحسب، وإنما هو الطريق الأكثر فاعلية لحضور إنساني فاعل، يمكن أن يحتله الأدب العربي مستقبلاً. وكما ألهمت بعض قصائد الأقدمين المتميزة أمثال غوتة من شعراء الغرب، فمن المؤكد أن ترجمة الحداثي من الشعر العربي - مهما كانت عصوره - ستعدل الميزان، وتدخلنا من جديد إلى"زمن الشعر". ولذلك يعود أدونيس إلى التراث الشعري الذي يغويه ليجيب عن أسئلة، لا يزال يطرحها عن وضع الشعر العربي بوصفه الطاقة الإبداعية الأولى عن العالم، وفي العالم. هذه الأسئلة التي لا يزال يطرحها هي التي جعلته صارماً في المعيار الذي اعتمده أساساً للاختيار، بحيث استبعد نصوصاً كنا قد نشأنا على حبها، تقليدياً، وتشكلت منها ذاكرتنا الشعرية، وأدخل نصوصاً كنا نهملها عادة، وبحسب قيم متوارثة سائدة، فنهمشها أو نلغيها. وهذا كله طبيعي، فالاختيار في"ديوان الشعر العربي"اختيار شاعر يبحث عن الأشباه والأسلاف الذين يتأكد بهم حضوره، وتتأصل بهم جذوره، وذلك بما يصل حضورهم المتصل بحضوره الفاعل في الوجود الإبداعي. ولذلك يختلف اختيار الشاعر المنحاز عن اختيار العالم المحايد الذي يخلو، أو يفترض أن يخلو، من التحيز. ويبحث أدونيس الشاعر الذي يختار عن القيمة التي لا يزال يراها حية، متجددة، تصل ما بين الماضي والحاضر في الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى من ناحية، وطرح المزيد من الأسئلة من ناحية مقابلة، فترد الحاضر على الماضي، كما تبعث الماضي في الحاضر كالعنقاء التي تنهض من رمادها. هكذا، كانت فروسية الشاعر الجاهلي لا تعبر عن نفسها ببطش أعمى، بل بشهامة تحتضن حتى الأعداء. وينطلق الحب عند الجاهلي من الجسد، ثم تأتي النتائج النفسية والذهنية، ويتحول الشعر العذري كالحب العذري ليغدو تجسيداً للحياة في فشلها المقدس، وظمأها الأبدي الملازم لحنين الروح للجسد والحرارة التي لا تقدر على أن تثقب أسوار الحصار. والزمن عدو الشاعر الجاهلي عموماً، وعدو العاشق خصوصاً، فليس عند العشاق زمن بالمعنى الذي يتعارف عليه الناس، زمنهم هو لحظات هيامهم ولقائهم وحسب. لا يجري زمنهم متواصلاً كالماء، بل يتجزأ قافزاً كالفراشات. هكذا، يرى أدونيس إلى الشعر القديم، ويختار منه ما يؤكد - فضلاً عما سبق - أن الشعر العربي شعر شهادة، وأن غاية الشاعر العربي لم تكن تغيير العالم أو تخطّيه أو خلق عالم آخر، وإنما التحدث إلى الواقع ومعه ووصفه والشهادة له أو عليه. والعلاقة بين العالم وأشيائه من جهة، والشاعر الجاهلي من جهة ثانية، تسير وفق ضرورة عصية على إرادة الشاعر والأشياء معاً، فثمة ثقوب وشقوق يكشف عنها الشعر العربي في نسيج الواقع وجسده، نلمح كيف تنضح مللاً وتكراراً بحيث يبدو العالم شبحاً مخيفاً قد نفهمه لكننا نعجز عن مقاومته، ونقبل أن نغنيه، لكننا لا نستطيع له دفعاً. ولذلك يبدو حس الدهر حس التقطع، كما لو كان الشاعر - خصوصاً الجاهلي - يعيش في جدل مع الطبيعة المتموجة كالرمل، ومع الدهر القاهر، ومع الغياب الدائم. ومن السهل على أي قارئ لمختارات أدونيس الشعرية أن يلمح تأثير الحداثة الفرنسية بوجه خاص في تشكيل ذائقته الشعرية التي يتحدد المختار وغير المختار على أساسها. وهو تأثير يعترف به أدونيس نفسه الذي قال - في كتابه عن"الشعرية العربية""إن قراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني، خصوصاً في كل ما يتعلق بالشعرية وخاصيتها اللغوية". وما يقوله أدونيس عن الجرجاني - في هذا السياق - يمكن أن يقوله عن الشعراء وليس البلاغيين. ومهما يكن من أمر، فقد سبقه إلى ما يشبه الرأي نفسه، أو ما هو أصل له، ما ذهب إليه محمد مندور الذي قادته دراسة اللغة والأدب في فرنسا إلى أن يقول أكثر مما قاله أدونيس، ويرى في الجرجاني الوجه العربي من عالم اللغة السويسري الشهير فريناند دي سوسير. وقد عاد كمال أبو ديب إلى مقولة أدونيس - بصفته أحد حوارييه المتأثرين به - وكررها في كتابته على نحو أكثر مبالغة، وذلك في منحى يكشف لنا عن حضور المعايير الأدبية للآخر الأجنبي، وتدخلها في توجيه الوعي النقدي للشاعر أو الناقد المعاصر في الاختيار من القديم وإعادة قراءته. وهو الأمر الذي لم ينقطع من أيام طه حسين، ويشير إلى تعارض جديد يوازي التعارض الذي أشار إليه طه حسين - في الثلاثينات - بين اللاتين والسكسون، أو الانغلوفونية والفرانكفونية بلغة أيامنا. ويدفعني ذلك إلى لفت الانتباه إلى ما يحدث من غواية مزدوجة نتيجة التأثر بقيم الثقافة الأجنبية التي يقع الناقد أو الشاعر تحت تأثيرها، خصوصاً حين يتحول التأثير إلى غواية تلعب فيها الثقافة الأجنبية التي تأثر بها الناقد أو الشاعر أو الدارس دوراً مهماً في تجسيد تحيزاته الأدبية، خصوصاً حين لا يقاوم شعورياً هذا التأثير.. ولولا ذلك ما ذهب محمد عابد الجابري - في غير مجال الأدب - إلى أن الفارابي هو روسو العرب في القرون الوسطى، فمضى في الطريق نفسه الذي سلكه أدونيس، خصوصاً حين جعل من أبي نواس بودلير العرب، كما جعل من أبي تمام مالارميه العرب. ولا أجد على مثل هذه التشبيهات اعتراضاً كبيراً، ما ظلت في حدود البحث عن النظائر والمشابهة، وما ظلت تجاوباً محسوباً مع الثقافة الأجنبية المؤثِّرة. وأخيراً، ما ظلت قادرة على إدراك الخصوصية النوعية لكل طرف من أطراف المقارنة، ولا تدني بهذه الأطراف إلى حال من الاتحاد، سواء في علاقة الأطراف بعصرها أو زمنها وتراثها. وهذا هو الأمر الذي يدركه أدونيس الذي لا ينكر أن العدسات الحداثية التي تكونت له من خبراته بالشعر العالمي الحداثي الذي فتن به، وشغل بترجمته وتقديمه، قد أسهمت في تقريب هذا النموذج التراثي أو غيره من بؤرة هذه العدسة أو تلك، وذلك على نحو أفضى إلى اكتساب المنظور إليه بهذه العدسات بعض ما فيها. وهذا طبيعي في ظل المبدأ الذي كان يؤكده أحد أعلام البنيوية الفرنسية، رولان بارت الذي اقترنت به أكثر من غيره جملة:"لا توجد قراءة بريئة". ولذلك كانت قراءة أدونيس مثل قراءة طه حسين قراءة غير بريئة لا ترى - مع كثير من الاحتراس - إلا ما سبق أن خلعته على مُدْرَكات بصرها. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يتحدث أدونيس عن تيارات، تتخلل الشعر العربي، وينتهي إلى أنه ما بين الجاهلية وأواسط القرن الثامن الميلادي، هناك خمسة اتجاهات شعرية أو، على الأقل، ملامح بارزة تشير إليها. أولاً: الاتجاه الفكري القائم على التأمل في معنى الحياة وما وراءها، ومن ممثليه الأول عمرو بن قميئة وأمية بن أبي الصلت، ويمكن أن نعدهما الصدر الشعري العربي الأول لأبي العلاء المعري. ثانياً: الاتجاه القائم على الصورة الشعرية من حيث هي طاقة إيحائية بحد ذاتها، ويعد امرؤ القيس وذو الرمة بعده رائديه الأولين، ومن أغنى شعرائه، بعدهما، أبو تمام والشريف الرضي. ثالثاً: الاتجاه الأيديولوُي، ويمثله الكميت بن زيد، ففي شعره نرى للمرة الأولى تبشيراً بقيم وأفكار معينة يمثلها في الشعب اتجاه سياسي واضح. والكميت، من هذه الزاوية، شاعرنا الملتزم الأول. وقد تحول بشعره من القبيلة إلى الشعب، ومن الخليفة أو الوالي إلى الجماعة، ومن السياسة بقصد الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، إلى السياسة بقصد نشر العدالة وتحقيق المساواة، فنرى في شعره الإشارة إلى الفقراء والجائعين كما فعل عروة بن الورد، لكن مع إضافة الذين يتمتعون بالخيرات دون سواهم، من حكام أو مغتصبين. رابعاً: اتجاه اللامنتمين، أي الشعراء الذين اضطروا - لظروف كثيرة - أن يعيشوا خارج نظام القبيلة والإمارة والمملكة والمجتمع، فاستبدلوا بهذا النظام مملكة الطبيعة، حيث فضاء الحرية الذي أغوى الشعراء الصعاليك. وهناك، أخيراً، ما يسميه أدونيس الاتجاه السحري، ويمثله الحكم بن عمرو البهراني الذي لا يتردد شعره في تشويش النظام وعلائقه والثورة ضد ثبات الطبيعة، وذلك بما يجعل من كتابة القصيدة سحراً يخلق نظامه اللانظامي وطبيعته اللاطبيعية. ولست في حاجة إلى القول إن المراجع الدقيق لهذه التيارات، والمتابع لأدونيس في الوقت نفسه، سيلمح أيها أقرب إليه، وأقرب إلى دائرة زمن الشعر عنده، وذلك ابتداء من شعر الطاقة الإيحائية للصورة أو العبارة المكثّفة، مروراً بالنواسي - بودلير العرب - وأبي تمام - مالارميه العرب، وانتهاء بالمعرّي الذي أوصل التأمل الشعري في معضلات الوجود إلى ذروته. ويمكن أن نضع في ذيل التراتب الأدنى الشعر الإيديولوجي الذي هو عملية تبشير بقيم وأفكار معينة. وهي عملية يرفضها أدونيس ولا يطيقها في الشعر الذي يظل يراه في صفائه الإيحائي، ونقائه الصوري، وتجذره الاستعاري، وجموحه الخيالي، بعيداً عن الخطابة أو الدعاية. ويمكن أن نتفق مع أدونيس في تياراته الخمسة، أو نحذف منها، أو نضيف إليها، وكلها عمليات غير مهمة في تقديري، فالأهم من المخالفة أو الموافقة دلالة الاختيار والتأكيد والصفات المستخدمة التي هي - في النهاية - تعبير عن أولويات وأفضليات، ومن ثم عناصر جذب أو نفور في علاقة الغواية التي تصل الذات القارئة بموضوعها المقروء.