ما من شك بأن الملك فهد كان زعيماً فذّاً قدم خدمات جليلة للأمة العربية والإسلامية طيلة عهده المليء بالإنجازات إن على الصعيد الوطني أو العربي أو الإسلامي. وأتيح لي أن أعرفه عن قرب وألمس حصافة آرائه وبعد نظره في مواقف عدة خلال إقامتي بالمملكة سفيراً لبلدي طوال ثلاثة عشر عاماً، وهي فترة أعتز بها لأنها كانت مليئة بالمكاسب. ثم لما صرت عميداً للسلك الديبلوماسي في الرياض زاد قربي منه فجالسته ورافقته وسمعت منه الكثير. عايشت الزعيم الراحل في مؤتمرات إسلامية عدة فكان الوفد السعودي يبادر بإجراء الإتصالات والمشاورات بتوجيه من الملك فهد لرأب الصدع وإعادة اللحمة للصفوف انطلاقا من المبادئ التي أرساها مؤسس الدولة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه. ولاحظت أن الملك فهد حريص مثل إخوته على تلك الثوابت التي ميزت المملكة وجعلتها منارة للعالم الإسلامي. وأذكر أن الملك فهد كان متمسكاً بالثوابت حتى في أصعب الظروف الدولية وأدقها، فقد عبر عن موقف واضح وصريح من القضية الفلسطينية مثلا وكانت المملكة تقول كلمتها بصدق وجرأة إزاء تطاول الصهاينة واستهتارهم بحقوق الشعب الفلسطيني. كذلك أذكر أنه قدم للقمة الإسلامية في الدار البيضاء، بالإضافة للقمة العربية في فاس، أفكاراً واقتراحات حكيمة تم تبنيها وكانت ترمي للبرهنة على أننا دعاة سلام بالفعل وليس بالشعار، مما أحرج الطرف المقابل وأثبت أن حجة العرب في أيديهم وأنها حجة قوية. ومن ميزات الأسلوب الذي توخاه الملك فهد أنه كان يتوسع في الإجتماع كي يمتص المشاكل المطروحة ويقنع الطرفين، وهذا ما لاحظته خلال قمة الطائف الإسلامية الأولى والتي عُقدت في ظرف دقيق إذ تزامنت مع الحرب العراقية - الإيرانية، وكذلك في مؤتمر الطائف الخاص بلبنان والذي غدا مرجعاً للبنانيين كافة. وكنت شاهداً في محطات أخرى على دوره البارز في إصلاح ذات البين وتكريس الوئام بين الأشقاء، فكلما نشأت أحداث بين بلدين عربيين أو إسلاميين إلا ورأيته سبَاقاً إلى تقريب الشقة مثلما فعل بين المغرب والجزائر في السبعينات لحقن الدماء ومنع المواجهة العسكرية أو بين اليمنين سابقاً على أيام التشطير. ومن خصاله أنه يضع كل ثقله لتطويق المشكل بأقصى السرعة انطلاقاً من إيمانه بأن العرب ينبغي أن يبقوا متماسكين ومتحدين لتُسمع كلمتهم. أما على الصعيد الثنائي فكان له دور كبير في المشاريع التنموية التي أنجزت في بلدي إن كانت مؤسسات على غرار الشركة التونسية السعودية للإستثمار الإنمائي، التي تحتفل قريباً بذكرى مرور ربع قرن على تأسيسها، أم سدودا أم موانئ أم معاهد جامعية أم واحات... وفي علاقاتنا المتسمة بالدفء وجدنا أبوابه مفتوحة دائماً ولن نلق منه سوى المساندة المطلقة لأي فكرة أو مبادرة ثنائية. ولن أنسى أنه كان دائم الحرص على التنسيق والتشاور مع تونس قبل أي لقاء عربي أو إسلامي سواء في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة أو الرئيس زين العابدين بن علي، ولمست في لقاءاته التي حضرتها مع الرئيسين مقدار المودة التي يكنها لبلدي، ولذلك كانت أول زيارة أداها الرئيس بن علي لبلد شقيق بعد وصوله إلى سدة الرئاسة للمملكة العربية السعودية. كما لن أنسى أيضاً إنجازاته التنموية في السعودية إن على صعيد البنية الأساسية أم الخدمات الإجتماعية أم المعرفة والجامعات أو في الإطار الديني وبخاصة أعمال التوسعة في الحرمين الشريفين وتحديث أماكن الإقامة وتطوير الخدمات بما حقق الراحة لضيوف الرحمن. وأنا واثق بأن الملك عبد الله سيكون بمثل حرص شقيقه الراحل فهد على الثوابت التي سطرها والدهما المؤسس الملك عبد العزيز، خصوصاً أن إسهاماته كانت واضحة في جميع تلك المجالات أيام كان ولياً للعهد، مما يجعل ظروف النجاح متوافرة بإذن الله، وعليه أتمنى له مزيد التوفيق وللمملكة دوام العز والسؤدد لمتابعة دورها الريادي على الساحتين العربية والإسلامية. رئيس جمعية البرلمانيين التونسيين. سفير تونس عميد السلك الديبلوماسي في الرياض سابقاً.