حين جلا الجيش الفرنسي عن سورية ولبنان، عام 1946، نشأت دولتان لا يكفي وصف"الأخوّة"العربي لجعلهما أخوين. ذاك ان البلدين الوليدين كان يفرّق بينهما أكثر من عنصر يطال التكوين والمعنى، مخفّفاً من أثر الاشتراك في لغة واحدة وتاريخ جامع ورقعة أرض معينة. فسورية الحديثة كانت استجابة لفكرة الوحدة التي لم تتحقق مع فيصل الأول بعد الحرب العالمية الأولى. وهو ما أوجد في الوعي السياسي السوري شعورين يزيد التعبير عنهما أو يقل، إلا انه لا يختفي. فمن جهة، صُوّرت الكيانات المشرقية الصغرى، كلبنانوالأردن وفلسطين، أجزاءً من سورية خلقها الانتدابان الفرنسي والبريطاني وأنها، للسبب هذا، تحمل في ذاتها بذوراً مناهِضة للوحدة. ومن جهة أخرى، قُدّمت سورية ضحيّةَ مؤامرة قضت بتصغيرها، ابتدأت بمعاهدة سايكس - بيكو في 1916 ولا تزال مستمرة. في المقابل، كان لبنان الحديث استجابة لفكرة الحرية. والحرية المقصودة هي تلك التي تحرزها أقليات دينية ومذهبية تريد ان تتجاور وتبني تجربة لا يهيمن عليها نموذج أحادي كاسح. وبدل دولة الأمير فيصل التي احتلت اللاوعي الجمعي للسوريين، وجعلَ حزبُ البعث علمَها علمَه، كانت المتصرفية في جبل لبنان، أواخر القرن التاسع عشر، الصورة المرجعية للبنانيين في وصف دولتهم. وإذ كانت الحكومة الفيصلية نوعاً من استئناف للسلطنة العثمانية العابرة الحدود بقالب قومي عربي، شكّلت المتصرفية المحاولة الناجحة في إحراز حكم ذاتي يحررها جزئياً من السلطنة إياها. ولأن الوحدة تكبت حرية الأجزاء، فيما الحرية ترد الوحدة الى ذوات مستقلة، اتّسمت النزعة اللبنانية بخوف دائم من الوحدوية المتهمة بالسعي الى دمجها، مثلما اتّسمت النزعة السورية بحذر دائم من الكيانية المتهمة ببث الفرقة في الجسم القومي الافتراضي. وعن افتراق أصلي كهذا نشأت افتراقات اخرى. فسورية شاءت، أقلّه حتى قيام عهد حافظ الأسد في 1970، ان تنفي ذاتها وتؤكد انها خطوة على طريق وحدة أكبر. هكذا ألحّت، وهو غير مألوف في الدول، على تذويب نفسها مطالبةً بوحدة اندماجية مع مصر. وخلال ذاك العهد الذي امتد ما بين 1958 و1961 غدت، بمحض إرادتها،"إقليماً شمالياً"في"جمهورية عربية متحدة". فحين انهارت الوحدة أمست"جمهورية عربية سورية"، ومنذ وصول البعث الى السلطة في 1963 أضحت"قطراً". وهو ما جعل سورية تبدو أقرب الى وظيفة في خدمة العروبة المُتَخيّلة منها الى بلد. فهي تصمد وتتصدى وتحبط وتواجه أكثر بكثير مما تتحدث عن تعليمها وطبابتها واقتصادها وانتاجها. وهي، الى هذا، لا تكفّ عن تنبيه"الأخوة"الصغار الى واجباتهم في حق أنفسهم. فحين يبدو لها الفلسطينيون متهاونين في حقوقهم، تصير دمشق الطرف الأكثر تشدداً في المطالبة بالحق الفلسطيني، وحين يلوح لها اللبنانيون أو الاردنيون مُتراخين حيال الغرب، تضغط عليهم كي لا يتراخوا. وبالمعنى هذا، فإن سورية كلما تواضعت في تمثيلها الوطني تعالت في تمثيلها الإيديولوجي"القومي"، ما يجعلها ناطقاً بلسان الكلّ والمُطلق قياساً بالآخرين الذين ينطقون بلسان الأجزاء. وهو سلوك انجرّت عنه ديبلوماسية تجتمع فيها الغيرية اللفظية والأنانية الفعلية وتتكاملان. والمقصود ما رأيناه بين أواسط السبعينات وأواسط التسعينات من إصرار على تفاوض جماعي مع اسرائيل، منعاً ل"الاستفراد"، ومن عقاب للذي يتفرّد لا تخالطه الرحمة، وطبعاً لا يراعي واقع الدول والسيادات. أما لبنان فولد، منذ ولد، زاهياً بنفسه حتى النرجسية. وربما كان البلد هذا بين أشد بلدان الأرض امتداحاً لذاته من قبل شعرائه ومُغنّيه وصنّاع فولكلوره ورموزه حتى ليبدو، في نظر ايديولوجيته، غاية قائمة بذاتها. ولأنه صغير وضعيف، نراه يمتنع عن وعظ جيرانه في ما خص واجباتهم تجاه انفسهم، يقف طموحه عند مطالبتهم بالعزوف عن التدخل في شؤونه. لكن نزعة الوصاية السورية على الجيران أؤلئك ترافقت مع إيجابية واحدة هي الثمن الذي تتطلّبه أبويّة"الدور القومي": فمنذ نزوحهم في 1948، عومل فلسطينيو سورية بشكل لائق ومُنحوا الحقوق النظرية التي يتمتع بها السوريون ما خلا التجنّس. وهو ما لا يصحّ في لبنان المكتفي بذاته والذي اشتُهرت أدواته الأمنية والعسكرية بقسوة على الفلسطينيين صاحبَها تمييز بلغ ذروته في قانون العقوبات. ومنذ نشأتها الأولى، احتلت"القوة"موقعاً مركزياً في الايديولوجيا الوطنية السورية. فالأبطال الذين تتغنى بهم هم خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وفي الزمن الأحدث عهداً، يوسف العظمة وجول جمال وعدنان المالكي. وهؤلاء جميعاً عسكريون وقادة لعبوا أدواراً في محاربة عدو غريب او قضوا على يده. وتعبيراً عن نزوع الى القوة كهذا، وهو من شروط الوحدة ، ارتبط التاريخ السياسي الحديث بالمؤسسة العسكرية. هكذا لم يكن مصادفاً ان أول الانقلابات العسكرية الناجحة في العالم العربي هو الذي شهدته دمشق في 1949، بعد اقل من ثلاث سنوات على الجلاء. وما بين هذا الانقلاب الذي نفّذه حسني الزعيم حينذاك وحكم البعث الذي دام 42 سنة، يمكن القول ان التاريخ السياسي لم يكن الا تاريخ توطيد السلطة العسكرية. أما لبنان ف"قوته في ضعفه"، حسب عبارة شهيرة لأحد قادته السياسيين، مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل. صحيح انه بنى جيشاً، الا ان جيشه ظل جزءاً من الفولكلور الوطني تتغنى به القصائد الشعبية مثلما تتغنى بجمال الطبيعة والعادات الريفية والمآكل. لهذا ضم أبطالُ الايديولوجيا اللبنانية شخصياتٍ ميثولوجيةً كأدونيس وعشتروت، ورجالَ دين وُصفوا بالتسامح كالإمام الأوزاعي، ووجوهاً أدبية وثقافية كجبران والريحاني. ولئنْ دخل في خانة الأبطال حكامٌ وقادةٌ، كفخر الدين الثاني وبشير الشهابي، فقد قُدّموا، بقليل من الدقّة وكثير من التصنيع الإيديولوجي للماضي، رموزَ تعايش بين طوائف اللبنانيين وآباءً مؤسسين لوحدتهم. وكان من نتائج تطوير المجتمع العسكري في سورية قيام أنظمة قمعية اشتُهرت في تجاوزها على حقوق الانسان وممارسة الحكم عقداً بعد عقد بموجب قانون الطوارىء، بينما أدى الدور الضامر للجيش اللبناني الى التمتع بحريات ملحوظة وبقاء القمع، في لبنان التقليدي السابق على الحرب، محدوداً بحدود محتملة. وبدورهما تشاركت الايديولوجيتان السورية واللبنانية في تمجيد"شهداء 6 أيار"ممن أعدمهم الجنرال التركي جمال باشا عام 1916. لكنْ بينما ربطت الايديولوجيا السورية بين شهادة هؤلاء وانتصارهم ل"القضية العربية"، ربطت الايديولوجيا اللبنانية بين شهادتهم وتعددهم الطائفي الذي يقوّي فكرة لبنان واستقراره. وقد عمل التوازن الطائفي في البلد الأخير على استبعاد الانقلاب العسكري، فلم يتعرض لبنان إلا لمحاولة هزيلة نفّذها القوميون السوريون في آخر أيام العام 1961، هي التي أُجهضت بعد ساعات على قيامها. أما رؤساء لبنان، قبل اندلاع حرب 1975، فكانوا كلهم مدنيين باستثناء واحد هو قائد الجيش فؤاد شهاب الذي اضطر للحفاظ على النظام البرلماني والتكيّف، بطريقته، معه. وبعد ست سنوات قضاها شهاب في الرئاسة، بين 1958 و1964، رأيناه يعزف عن التجديد لنفسه، على رغم احرازه اكثرية نيابية كانت تتيح له ذلك. ولئن شارك الجيش السوري في حروب 1948 و1967 و1973 العربية - الاسرائيلية، وغدت مشاركته هذه مصدراً لأساطير وُظّفت في تصليب السلطة السياسية وعبادة حافظ الأسد، فإن الجيش اللبناني لم يشارك إلا في حرب 1948، وكانت مساهمته محدودة اقرب الى الرمزية. في المقابل، لئن نهضت الايديولوجيا السورية على فكرة"الواحد"، نهضت الايديولوجيا اللبنانية على فكرة"المتعدد". فالأولى فاخرت ب"الهوية العربية"فيما فاخرت الثانية بخليط من الهويات والحقب تحتل فيها الحقبة العربية موقع الأول بين متساوين. وهو ما تأدّت عنه صور ورموز متباينة: فدمشق، في الايديولوجيا السورية،"قلب العروبة النابض"بينما بيروت، في الايديولوجيا اللبنانية،"جسر بين الحضارات"تُستحضر معه مدرسة بيروت الرومانية، كما يُستعان بالوظائف السياحية والمعاني والدلالات الكوزموبوليتية. وسار هذا في موازاة موقفين من"الغرب". ذاك أن اللبنانيين حافظوا على الرواية القديمة ل"النهضة العربية"ومفادها الضمني أن التقدم اقتراب من المثال الغربي وقيَمه. وإذ عمل لاحقاً اقتصادُ الخدمات الوسيط والتوسّعُ في تعليم اللغات الأجنبية، فضلاً عن السياحة والهجرة، على تعزيز الرؤية هذه، بقي الغرب موضوعاً يتراوح بين الحذر والعداء في النظرة السورية: فهو المتهم بتجزئة سورية، علماً أنها لم تكن مرةً موحّدةً بصفتها هذه، وهو المُدان بسبب رعايته الدولة العبرية تأسيساً وانتصاراتٍ واستمراراً. وبين مفهوم التقدم اللبناني بوصفه تماهياً مع الغرب، ومفهوم التقدم السوري بوصفه صراعاً ضد الغرب، أكّد اللبنانيون على الروابط المصنوعة التي تنجم عن الاقتصاد والمصالح والتعليم. أما السوريون، من ناحيتهم، فأكّدوا على الروابط المعطاة والموروثة التي تنبثق من الاشتراك في اللغة والتاريخ والأرض والقرابة. فسورية، بالمعنى هذا، محفورة حفراً في المكان العربي، وفي زمانه كذلك. اما لبنان، كما ترسمه ايديولوجيته، فيأبى ان ينحصر في الرقعة التي هو فيها، مثلما يأبى الإنئسار بحقبة واحدة في الزمن. وللغرض هذا تستنجد الايديولوجيا اللبنانية بالمهاجرين الذين يربطون المنبع المحلي بالمصبّ العالمي، على رغم ريفيّةٍ وأبرشيّةٍ لم يبرأ منهما التعقّل اللبناني للعالميّة والعالمي. وامتداداً لفكرة"الواحد"تعتمد الايديولوجيا السورية على نظام الحزب الواحد والحقيقة القومية التي لا يرقى اليها شك ولا تشاركها فكرة أخرى. ولئن وجد الاتجاه هذا تتويجه، عام 1963، مع استيلاء البعث على السلطة، فإن الضابط الانقلابي أديب الشيشكلي كان قد أسس، إبان امساكه بالسلطة مطالع الخمسينات، حزباً حاكماً دعاه"حركة التحرير العربي". وخلال السنوات الثلاث من عمر الوحدة ، حُلّت الاحزاب جميعاً وسُلّم الحكم ل"الاتحاد القومي"ومن بعده"الاتحاد الاشتراكي العربي". وقياساً بهذا العيش المديد داخل إطار ناظم للحياة، مُمسك بتلابيبها، روّجت الايديولوجيا اللبنانية، بقدر من الصحّة وقدر من الإنشاء، للتعايش بين الجماعات والطوائف، وتالياً الأحزاب، رافعةً إياه الى سويّة الشرعية التأسيسية. وقد وُجد سبب آخر فصل بين البلدين الوليدين. ذاك أن سورية وطن أكثري في وعيه السياسي ، فيما لبنان بلد أقليّ. فقرابة 70 في المئة من السوريين مسلمون سُنة، ودمشق عاصمة الأمويين الذين أنشأوا الإمبراطورية المسلمة السُنية الأولى، والنُصب التاريخي الأهم فيها هو الجامع الأموي وفيه قبر صلاح الدين الذي استعاد القدس من الصليبيين كما نكّل بالشيعة. صحيح أن التركيبة الطائفية للسلطة كثيراً ما تغيرت فيما بعد، إلا أن العناصر الأيديولوجية التي تبنّاها البعث وعمّمها لم تتغير، مُتيحةً للحكام غير السنّة أن يحكموا بموجب وعي قومي-سنّي. أما لبنان فبلد أقليّ شكل المسيحيون فيه لدى تأسيسه حوالى 60 في المئة من السكان، إلا أن أكثريتهم المارونية لم تكن تعدّ أكثر من ثلثيهم، فيما توزع الثلث الآخر بين سائر الطوائف المسيحية. ولئن عدّ المسلمون آنذاك 40 في المئة، فقد انقسموا طائفتين كبريين هما السُنّة والشيعة، فضلاً عن الطائفة الدرزية الصغيرة. فوق هذا، مجّدت الأيديولوجيا السورية السائدة الكثرة بينما مجّدت الأيديولوجيا اللبنانية السائدة القلّة. ففي دمشق كان التركيز على"القومية"و"الرسالة الخالدة"و"معركة المصير"، وفي بيروت ساد تركيز، لا يقلّ فولكلوريةً وتبجّحاً، على فرادة اللبناني ونبوغه. وقد ركّزت الأولى، وتركّز، على شعبوية الجماعة: فهي التي تحفظ الهوية كما توفر اسباب القوة جيشاً واقتصاداً. وهو ملحوظ في عموم التيارات السياسية والايديولوجية التي تحكمت بالتاريخ السوري الحديث، لكنه ملحوظ خصوصاً في الحيّز الضخم الذي تشغله الدولة في الاقتصاد. أما الايديولوجيا اللبنانية التي تترك مجالاً واسعاً للفرد، فتتغنى بالمبادرة الفردية التي يُنسب اليها انشاء لبنان وازدهار بنيه. وهذا، بدوره، يردّ الى نموذجين: فالثقافة السياسية السورية مرجعها في"الأمة"المستقاة من النموذج الالماني - الايطالي لأواخر القرن التاسع عشر، فيما الثقافة السياسية اللبنانية مرجعها البناء التعاقدي المُستقى من تجارب كالبلجيكية والسويسرية. وكثيراً ما تباهى لبنانيون، انساق بعضهم وراء ابتذال التشابيه، بأن بلدهم"سويسرا الشرق"، يشبهها طبيعةً واجتذاباً للرساميل، ويشبهها خصوصاً في الضعف الذي لا تُجتَنب أضراره الا بالحياد بين متخاصمين أقوياء. وفي الصورة السورية يغيب الانشقاق، فلا يُذكر بتاتاً ان دمشق وحلب مدينتان متنافستان، وان الثانية"عاصمة الشمال"، حسب تسمية لا تخفي البَرَم بواحدية المركز الدمشقي. بل لا يُذكر ان السوريين طوائف علاقاتها ليست دوماً على ما يرام. ولا يُستدلّ على وجود أكراد في سورية إلا حين ينفجر شغب كالذي عرفته منطقة الجزيرة في آذار مارس 2004. لكن الصورة اللبنانية تقول، بتفاؤل وردي لا يخلو من مبالغة، ان لبنان لقاءُ البحر بالجبل، على ما كتب ميشال شيحا، وان تركيبه لا يقوم على"الأخوّة القومية"بل على طوائف تبغي، أو يُبغى لها، ان تتعايش. وتبعاً لايديولوجيته، يستحي لبنان بلحظات الانقطاع في تاريخه، مؤكداً على استمرارية الشعب والمؤسسات تأكيداً يوغل في الأسطَرَة أحياناً. لهذا تبدو الحرب المديدة حدثاً عصيّاً على التفسير عملاً بنظرة تجمع بين الطوبى والخجل بنقص الحداثة الذي أشعل الحرب. وتبعاً لايديولوجيتها، تنهض سورية على احتفال متواصل بلحظات الانقطاع. ففضلاً عن الانقلابات العسكرية الكثيرة التي تشكّل تاريخُها الحديث على ضوئها، وكان كل منها يعيد كتابة التاريخ حاذفاً الحقبة الأسبق، نهضت الشرعية البعثية على ثلاث من لحظات القطع مع التاريخ: انقلاب 8 آذار 1963 حين وصل الحزب الى السلطة، وانقلاب 23 شباط فبراير 1966 حين أطاح عسكريو الحزب"اليساريون"مدنييه"اليمينيين"، وانقلاب 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970 حين تفرد الأسد بالحكم بعد قيامه بما أسماه"الثورة التصحيحيّة". وكان لافتاً أن العهود الانقلابية الثلاثة صحبها، أو تلاها، إغلاق للحدود مع لبنان، حتى لجاز القول إن هذه القدرة الزجرية حيال الجار الأصغر أحد الشروط التكوينية للنظام البعثي. غنيٌ عن القول إن الأيديولوجيا السورية حظيت بجاذبية أكبر في"العالم الثالث"حيث تتمتع الشعوب الكبيرة والجيوش القوية والأسواق المستوعبة للصناعات الثقيلة بمرتبة تكاد تكون مقدسة، فيما الاختلاف والصغر لا يشجّعان الجيران على احترام صاحبهما، وقد يشجّعان، في ظل ضعف التقاليد السياسية والدستورية، على استغلال ضعفه من دون رحمة. لكن النزعة الأكثرية السورية كانت متشظّية وقابلة للتفتّت، تماماً كما أن النزعة الأقليّة اللبنانية لم تحل دون مطامع أكثريّةٍ عبّرت عنها الطوائف الأقوى، كلما أتيح لها ذلك، حيال الطوائف الأضعف. وعلى العموم، كان في لبنان شيء من حواء التي جعلتها الرواية التوراتية مصدر الغوى بسلاح لا يتعدى التفاحة. وكان في سورية شيء من آدم الذي لا يرى في حواء إلا ضلعاً من أضلاعه. لكنه آدم مُتباهٍ قوي في الظاهر، وأضعف، في واقع حاله، من تفاحة. فحرية الصحافة في لبنان، أو لجؤ معارضين سوريين اليه، تسبّبا ويتسببان بمخاوف تنمّ عن عُظام أكثر بكثير مما تنمّ عن رسوخ. ذاك أن البلد الصغير الذي لا يرفع القوة، ولا الوحدة، علَماً، يتجانس مع تفتّته أكثر مما تستطيع"شقيقته"التي تعيش في إنكار انقساماتها، والمعرّضة لامتحان متواصل وكاشف تمليه المزاعم القومية الكبرى. فهناك، وبعيداً عن الرطانة، استحال للدولة - الأمة الجديدة أن تتوطد تحت ضغط التناقضات الكبيرة وأهمها تنافس دمشق وحلب. ومعروف أن الأولى شدّتها مصالحها التجارية وعواطفها السياسية إلى الأردن وفلسطين ومصر والسعودية، فضلاً عن لبنان. أما الثانية فانشدّت دوماً إلى العراق وتركيا. والأولى كان لها حزبها التاريخي الذي هو"الكتلة الوطنية"، والثانية كان لها"حزب الشعب". وإنما بسبب التنافس المرير بينهما قفز الجيش إلى السلطة عام 1949. لكن حسني الزعيم، ذاك الضابط المصاب بالعُظام، لم يتمكن من البقاء في الحكم إلا أربعة أشهر، أسقطه بعدها معاونه سامي الحناوي فحكم بضعة أشهر أخرى ليتسلم السلطة الضابطُ الذي أنشأ أول ديكتاتورية عسكرية متماسكة نسبياً في بلده وهو الشيشكلي. فعندما أطيح الأخير أواسط الخمسينات، انفجرت حرب الاغتيالات والتصفيات التي تغلّب بنتيجتها مؤيّدو مصر على مؤيّدي العراق الهاشمي ممن يقودهم سياسيّو حلب. وقد تظاهر المنتصرون باستعادة الحياة البرلمانية، لكن تناقضات المجتمع والسياسة أفشلتهم ودفعت بهم إلى المحاولة غير المسبوقة، وهي الارتماء في أحضان الرئيس جمال عبد الناصر. ولئن سقطت الوحدة بانقلاب الضباط الدمشقيين عليها، فالضباط غير الدمشقيين سريعاً ما انقضّوا على زملائهم الانفصاليين. واستمرت الحال هكذا حتى آذار 1963 حين استولى على السلطة ضباط بعثيون وناصريون أعلنوا أنهم سيعيدون الوحدة مع مصر الناصرية. إلا أن البعثيين منهم ما لبثوا أن صفّوا الناصريين بعدما وقّعوا، في 17 نيسان أبريل، معاهدة لإقامة وحدة ثلاثية، مصرية - سورية - عراقية. وأدرك عبد الناصر أن البعث يناور بالوقت وبالدم، كي يوطّد مواقعه في السلطة، فأبطل المعاهدة واتهم البعثيين بخيانة"الشعب العربي"والأهداف القومية. ولم يقف التدهور هنا. ففي 1966 انقض بعض البعثيين"اليساريين"على رفاقهم"اليمينيين"فأطاحوهم. وبعد أربع سنوات انقض أحد هؤلاء، وزير الدفاع حافظ الأسد، على رفاقه بانياً ديكتاتورية عسكرية منيعة تكبح كل تناقض يمكن أن يهدد السلطة ومُنشئاً، للمرة الأولى في تاريخ سورية الحديث، دولة مركزية صارمة متراصّة. وقد جاء رحيل عبد الناصر في العام ذاته، 1970، يوجد"مشروعية"جماهيرية للسعي وراء زعامة راديكالية عربية. هكذا تبدّى العجز السوري عن إقامة دولة قابلة للحياة خلال 1949 - 1970 سبباً وجيهاً من أسباب عدم الاستقرار في الشرق الأوسط كله. أما بعد 1970، فتبدّى أن بديل الفوضى دولة استبدادية شديدة المركزية تطرد تلك الفوضى الى خارجها وتصرّفها فيه. وبدوره، بدا لبنان دولة أكثر معقولية وثباتاً. فالحرية التي فرضها التنوع الديني واعتماد النظام البرلماني والبحبوحة الناجمة عن دور الوساطة، كما عن استقبال الرساميل العربية الهاربة من تأميم الأنظمة العسكرية المجاورة، عملت كلها على تقديم نموذج مقبول وعلى نشوء طبقة وسطى هي أعرض مثيلاتها في المنطقة. صحيح أن زعماء الطوائف الدينية عاثوا فساداً بالإدارة التي ملأوها بالأزلام والأقارب، إلا أن اللبنانيين، على ما يبدو، فضّلوا الفساد من دون قمع على الفساد المصحوب بالقمع. وقد يتشارك البلدان، ومعهما سائر بلدان المشرق، في الافتقار الى عناصر الإجماع والاستقرار التي تستدعيها الدولة-الأمة. غير أن لبنان يعوّض جزئياً عن افتقاره بالاستقرار في المنطقة حين ينشأ استقرار: هذه كانت حاله في السنوات القليلة ما بين استقلاله في 1943 وقيام دولة اسرائيل، ثم في السنوات القليلة الأخرى ما بين أوائل الخمسينات، حين العرب جميعاً كانوا منضوين في المعسكر الغربي، و1956 عندما أمّم عبد الناصر قناة السويس. ولأن المنطقة هي على ما هي عليه، فإن مصلحة لبنان المثلى تقتضي تجميد المحيط والتاريخ معاً. أما سورية فتتطلّب العصف وإشاعة الفوضى في المحيط والتاريخ، مستفيدةً من امتناع السلام مع الدولة العبرية، أو من هبوب"حركة التحرر الوطني"وبعدها"الثورة الإسلامية"الإيرانية اللتين اهتز ويهتز لهما لبنان. ولئن كان الأخير قريباً من المعسكر الغربي، ذهبت سورية بعيداً في صلاتها بالمعسكر السوفياتي. فقد كانت دمشق العاصمة التي باشرت كسر الاحتكار الغربي للتسليح في الشرق الأوسط من خلال المعونة العسكرية التي منحتها إياها موسكو في آذار 1955، مكافأةً لها على عدم الانخراط في"حلف بغداد". وفقط بعد أشهر، في أيلول سبتمبر من العام نفسه، توصّلت مصر الناصرية الى صفقة السلاح التشيكي الشهيرة التي عُدّت الخطوة النوعية في كسر الاحتكار. وفي موازاة تعاظم وزن العسكر في السلطة السورية، راح يتعاظم الاعتماد على موسكو التي باتت تسلّح جيشها كلياً، كما تصدّر له نظمها وعقائدها العسكرية. لكنْ بينما كانت ألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية الدولتين الكبريين قياساً بألمانياالشرقية وكوريا الشمالية، بدا الأمر معكوساً في حالة لبنان وسورية حيث سكان الأول خُمس سكان الثانية التي تحدّه من الشرق والشمال. وبما أن الحدود اللبنانية الجنوبية مع اسرائيل مغلقة، وهي لسنوات طويلة مناطق حربية، لم يبق للبنان الا البحر في غربه. وكان للتفاوت هذا أن جعل الالغاء والتجاهُل ومحاولات الخنق والحصار من السمات الملازمة لنزاعات البلدين-النموذجين. والحال أن علامات التنافُر بينهما لم تتباطأ في الظهور. فقد حرص السوريون، مع نشأة الكيانين، على ألا يقوم تمثيل ديبلوماسي وسفارات بينهم وبين الجار الأصغر. وكانت هذه إشارة منهم، استثنائية بين جميع دول العالم، إلى ضرورة إبقاء الرقابة على السيادة اللبنانية. فعلى عكس الأردن وفلسطين، عجّ لبنان بالطوائف التي يسمح تنافُرها بالتجاوز على سيادة دولتها. وعلى عكسهما، هما الخارجان من الانتداب البريطاني، شارك لبنانُ سوريةَ الخروج من الانتداب الفرنسي فبدت مصادرته أكثر"شرعية"نظراً للتشارُك في فسحة من التاريخ أطول ونطاق من العلاقات والمصالح أعرض. وهذا جميعاً فيه من الحياة أكثر مما فيه من السياسة وتقلّب الأنظمة. كاتب ومعلق لبناني.