تميز الشاعر اللبناني محمد العبدالله منذ انطلاقته في بداية السبعينات بالمزج الموفق بين الشعر والفكر من جهة، والشعر والحياة من جهة اخرى. ذلك ان شعره على غنائيته الظاهرة وإيقاعه التفعيلي لم يكن ينم عن نزعة جمالية محضة او رغبة في استعراض المهارات اللغوية بقدر ما كان تعبيراً صادقاً عن تحديات الواقع وأسئلته الملحة. وكانت قصيدته"بيروت"، التي نالت الجائزة الأولى في مهرجان كلية التربية الشعري، تجسيداً بالغ الدلالة لوجدان ذلك الجيل الذي تحدّر من مناطق الريف النائية باتجاه الجدران الإسمنتية العالية للعاصمة الموزعة بين الوعود الفردوسية والقلق الجهنمي. وعبرت قصيدته المميزة الأخرى"مصرع دون كيشوت"عن ثقافة الشاعر العميقة وغناه المعرفي المتصل بقضايا الإنسانية الكبرى. على ان محمد العبدالله على رغم ذلك لم يتعامل مع الشعر بصفته امتيازاً اجتماعياً او حقلاً للاستثمار النخبوي، ولم يتعامل معه بصفته وسيلة لإهدار الحياة كدحاً ودأباً مرضيين بل اعتبره طريقة شديدة الخصوصية لإعادة رسم الحياة نفسها وتركيبها وفقاً لرغباته وميوله. لهذا يبدو شعره منذ"رسائل الوحشة"وپ"بعد ظهر نبيذ احمر"وصولاً الى"وقت لزينتها"وپ"بعد قليل من الحب"وغيرها مهموماً بالحياة لا باللغة وبالصدق، لا بالتفنن والتحذلق وبإصابة كبد المعنى لا بالدوران حوله. هذا الصدق في قول الأشياء اوصل الشاعر احياناً الى لمحات ابداعية مدهشة ودقيقة التصويب، ولكنه جعله احياناً اخرى يضرب بعرض الحائط الكثير من المفاهيم المألوفة عن أوزان الشعر وبحوره وتقنياته. وليس الأمر بغريب على الشاعر ما دام يؤمن بنزول الشعر كاملاً مكتملاً على الشاعر وبأن كل تدخل لاحق قد يؤدي الى تشويه الرعشة الشعرية وإفراغها من البداهة والتدفّق العفوي. ولأن العبدالله لا يرى للشعر تعريفات مسبقة وأشكالاً نهائية وجاهزة فهو لم يقف عند حدود الكتابة بالفصحى بل استسلم في الوقت ذاته لنداءات المحلية وإغراءاتها. ولم يقف ايضاً عند حدود القصيدة التفعيلية بل لم يجد حرجاً في العودة الى العمود الخليلي تارة وفي التقدم نحو قصيدة النثر طوراً. تأتي مجموعة محمد العبدالله الجديدة"حال الحور"بعد سبع سنوات على صدور مجموعته السابقة"قمة الثلج على النارنج". وهذه الفجوة الزمنية الطويلة نسبياً بين المجموعتين لا تفاجئ احداً من قراء الشاعر الذين قد لا يفاجئهم ايضاً عزوف العبدالله عن الشعر في لحظة معينة أو انصرافه الى الرواية او المسرح او أي تعبير فني مماثل. ذلك لأن الحياة في نظره هي الأصل وكل فن لا يصب في خدمتها او تجديد بهائها او هجاء حماقاتها او التغني بملذاتها هو فن باطل. وليس علينا نحن القراء ان نبذل كبير عناء لكي نكتشف البعد الشهواني في لغة الشاعر التي تضج بمتع الحياة ولذاذاتها بقدر ما تضج بمديح الجمال والشغف به. لكن الجمال عند العبدالله لا يشترط حضوره اناقة مفرطة في التعبير، كما هو الحال عند سعيد عقل على سبيل المثال، بقدر ما يشترط شغفاً داخلياً واقتحاماً ايروتيكياً للأشياء. لا بل ان الإسراف الجمالي في اللغة والإيقاع يؤدي دوراً معاكساً معظم الأحيان ويفضي الى تغييب الجمال الحقيقي وحجبه عن الظهور في رأي الشاعر. لكن ذلك لا يعني اسرافاً في تجاهل العناصر النغمية والصورية والتأليفية حيث نلمس في قصيدة"حورة"عودة من نوع ما الى بدايات الشاعر التي يتضافر فيها الغناء والبورتريه التصويري والحكاية الشعرية:"هبّ نسيم فيها ولها/ حتى لعب الأخضر بالفضة والفضة بالأخضر/ وانتظم الناس صفوفاً.../ قالت: سأهبّ عليكم افواجاً افواجاً/ فالتزموا كلّ دوره/ لأقول لكم من أختار/ انا الحورة". تتفاوت قصائد"حال الحور"من حيث طبيعتها وعمقها وتقنيات تعبيرها حتى لتبدو احياناً وكأنها لم تصدر عن مؤلف واحد، سواء في ما يخص القصائد المكتوبة بالفصحى او تلك المكتوبة بالعامية. فثمة فارق شاسع بين قصيدة"لغو"التي تبدو كأنها مجرد طرفة منظومة وقصيدة"لغة"التي تطرح، على قصرها، إشكالية العلاقة بين قسوة الواقع ومتعة الفن بقدر ما تطرح أسئلة مماثلة عن التأويل والنقصان وحيرة الكتابة:"ما الذي يجعل من صورة المجزرة / تحفةً / ومن لوعة العاشقين / أغنية / سوى شبهة الوعد / ان الفضيحة لم تنفضح كلها بعد / ايها الأبيض النرجسي المشعشع فوق صراخ القتيل / حصاناً يطأطئ منكسراً / قبل ان يجمح مندلعاً في الصهيل / ايها الأبيض المتوهج في زرقة الماس / هل لاقتطافك بالعين من باليد / من لغةٍ أو سبيل". تبدو قصيدة"زد"المنشورة في آخر المجموعة تجسيداً نموذجياً للمسافة التي قطعها محمد العبدالله على طريق الشعر خلال العقود الثلاثة المنصرمة. فالقصيدة التي كتبها الشاعر في عقد السبعينات تبدو أقرب الى روح الالتزام بقواعد الشعر المعروفة حيث البنية الايقاعية الصارمة، على تنوع بين البحور، وحيث الرصانة الجمالية واللغوية، وحيث الجمع بين الذات والعالم وبين النزوع الفردي والانتماء الى قضايا العصر. ولا أعرف، بالمناسبة، السبب الذي دفع الشاعر الى النشر المتأخر لقصيدة"زد"في حين انه، بحدود علمي، لم يعمد حتى الآن الى نشر قصيدة"بيروت"التي حملت وجدان جيل كامل وشكلت انطلاقة ثابتة وجريئة لمغامرة العبدالله الشعرية. أما قصائد"فصل في كاثرين"فتشكل التعبير الموازي عن التجربة المتأخرة للشاعر الذي لم يتردد في ارتياد الجغرافيا الحرة والشاسعة لقصيدة النثر وفي الافادة الى أبعد الحدود مما يسمح به غياب الأوزان والقوافي من اطلاق اللغة على سجيتها وتحويلها ما يشبه التضرع او التعويذة او النشيد المفعم بحرارة الحب. ففي هذه القصيدة يستنفر الشاعر جماع ذاكرته وجماع طاقاته الايحائية الخاصة ليعيد لتجربته ذلك التألق، الذي يتراجع بعض الاحيان على مذبح الكسل او الطرفة العادية، مستعيداً جمالية"نشيد الانشاد"ومتصادياً مع اكثر من تجربة حب عالمية وعربية:"الزنبقة الى هشيم روحي / لكي يهمي رذاذ متواصل على يباس اللغة... / التي وقعت اليها كما يقع البؤبؤ في العين / وكما يقع حرف العين في وسط الفعل / وكما تنبثق العيون على قدمي جبل صنين / المقطوف فائض فتنتها بعينيّ الى سهر الساعة الواحدة / بعد منتصف الليل وإلى نعاس الأمهات... / المنعشة فتنتها لقلق اللغة الكسولة ولحزن الشعراء". ومع ذلك وعلى رغم النفس الابتهالي المثقل بالوجد لهذه الأناشيد فإن الحاجة الى العبث الساخر ما تلبث ان تستبد بالشاعر فيقلب الطاولة على نفسه وعلى القارئ ويكسر السياق الوجداني عبر تضمين النص لعبارة محكية منتزعة من احدى الاغاني العربية العاطفية"وأنا عندي كلام عايزه قولولك". هذا التدخل المباغت والصادم لاعادة القارئ الى مناخ السخرية يشبه في شكل أو آخر ما يفعله زياد الرحباني في ألحانه وأغانيه حين يعمد الى كسر الجملة الطربية ومنع المتلقي من الاستسلام الطويل للشجن الرومنسي. واذ اعترف في الختام انني لم استسغ كثيراً التجربة المحكية لمحمد العبدالله والتي لا تضيف شيئاً يذكر الى مناخات المحكية اللبنانية الا انني لم أر في هذه التجربة سوى تعبير عن رغبة الشاعر في كسر الحواجز التي تفصل بين الانواع وفي التجول بحرية تامة داخل حقول الشعر المترامية. لكن شاعرية محمد العبدالله تلمع، في رأيي، في مكان مختلف وفي قصائد أخرى.