من قال ان كسر ذرّة الهيدروجين واستئصال طاقتها النووية قد كشف كل عالم المادة الأولية بحيث يُفتح كتاب نشأة الكون؟ المادة لم تبحْ بكل اسرارها بعد، ولا بد لذلك من تحطيم شظايا الذرة بعد كسرها، بل شظايا النواة الذرية بعد كسرها. فمن المرجّح ان تكون كل شظية عبارة عن مجموعة من الجسيمات الأولية الصغرى التي لم تزل ملتحمة في جسيم أكبر! لكن كيف نصل الى ذلك؟ الامر ممكن بالطاقة الحرارية مثلاً، أي بتسريع هذه الانوية والجسيمات بحيث يبلغ معدل طاقتها مستوى حرارة قلب النجوم، أي عشرات بل مئات ملايين الدرجات المئوية، ومن ثم توجيهها في تيارين متعاكسين بغية صدمهما ببعض وتصوير الحدث واستثماره علمياً. لكن كيف يمكن التحكّم بمسار الجسيمات المشحونة الهائجة هذه ? المسماة بلاسما ? والامر يشبه بل يفوق صعوبة من بعيد تقنين مسار طلقة رصاص خرجت على التو من فوهة مسدس؟! الحقل المغناطيسي هو الحل، يقول العلماء. فبواسطته يمكن اخضاع كل جسيم في تيار البلاسما الى قوة كهرومغناطيسية يمكن التحكم بها تقنياً بحيث تُلزم البلاسما على اتباع المسار المرجو بدقة. هكذا مثلاً في"التوكاماك"، الجهاز النووي المخبري الاول الذي ابتدعه السوفيات في الخمسينات والذي لا يزال في صلب التجارب العالمية لانتاج الطاقة النووية الاندماجية، تعمل اجهزة كهربائية على انتاج حقول مغناطيسية مدروسة القوة والاتجاه بحيث تمسك بلاسما نووية شديدة الحرارة بعيداً عن جدران المفاعل المعدني كي لا يذوب. وكيف يُستثمر اصطدام الجسيمات المشحونة هذه، بل كيف يتم تصويرها والتعرّف اليها وهي اصغر بملايين المرات من الذرّة التي هي ذاتها لا ترى حتى بالميكروسكوب؟! نقاد البلاسما الى غرفة الاصطدام ويقال لها"غرفة الفقاقيع"، وهي علبة مجهزة بثلاث كاميرات احداثية، مملوءة بالهيليوم السائل المبرد الى قرب الصفر المطلق اعلى بقليل من 273 درجة مئوية تحت الصفر. في هذه الغرفة يتظهّر بفقاقيع الغاز مسار أي جسيم عالي الطاقة يعبر فيها، مثلما يتظهر بالدخان الابيض مسار طائرة نفاثة يرتسم خلفها في الجو. فالجسيم النووي الذي يعبر الغرفة يبخّر في طريقه جزيئات الهيليوم ويتركها على مساره كفقاقيع غازية قابلة لرؤية والتصوير. ومن دراسة الكليشيهات التي تسجلها الكاميرات قبل اصطدام الجسيمات وبعدها، يتم التعرف الى كتلة كل جسيم وشحنته وصفاته الحركية الاخرى. بهذه الطريقة ادرك العلماء ان"البروتون"مثلاً أي نواة ذرة الهيدروجين، والذي اعتقد طويلاً انه كالإلكترون جسيم اولي غير قابل لكسر، هو بالحقيقة اتحاد ثلاث جسيمات يسمّى واحدها"كوارك"، قد تكون هي اولية وغير قابلة للكسر... وقد لا تكون! خرجت اوروبا من الحرب العالمية الثانية منهكة، مدماة، تفتقر الى النخب العلمية والمؤسسات المهتمة بالبحث العلمي، وهي التي كانت الى امس قريب تفاخر بأنها مهد الفيزياء في العالم. فإذ بها تجهد للبحث عن فيزيائييها وتقفّي آثارهم بعد ان هُجّروا او هاجروا الى اميركا. لقد بدت اوروبا وقتها صحراء بالنسبة الى العلميين: لا فرق باحثة، لا مختبرات، لا اجهزة، لا دعم مادياً، لا اهتمام حكومياً... وتحوّلت اميركا الى جنة الفيزياء. وكان لا بد من اعادة بناء كل شيء في اوروبا. وكانت الذرة قد اثبتت ? ولو بفعلها الاجرامي في هيروشيما ونكازاكي ? انها عالم واعد وان الاستثمار في الفيزياء الذرية والنووية سيشغل حتماً أفق المستقبل في الدول المتقدمة. بدأ المشروع بعدد قليل من الفيزيائيين المتحمسين في فرنسا وسويسرا، امثال فرانسوا راوول دوتري، ولو كوارسكي، وبيار اوجيه، وفرانسوا دي روز، ودنيس روجمان، الذين راحوا يدورون في اوروبا كلها، خلال ثلاث سنوات بين 1949 و1952، يشرحون ويطالبون ويحاولون اقناع المجتمعات السياسية بجدوى الابحاث النووية ويشحذون دعمها. وقد توصلوا في النهاية الى اقناع حكومات 11 بلداً اوروبياً ان ينشئوا بمساعدة الاممالمتحدة والأونيسكو والولايات المتحدة الاميركية"المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية". وقد نشأ حينها على الورق"المركز الاوروبي للابحاث النووية""سيرن CERN"، وانضمت بريطانيا العظمى اليه لاحقاً عام 1953. وقد اختير الموقع وبُديء بتجريفه في ايار 1954، على بعد خطوتين من القرية السويسرية الحدودية"ميرن"Meyrin وعلى بعد مرمى حجر من جنيف ومن الحدود الفرنسية. وكانت ميرن وقتها قرية صغيرة هادئة لا يزيد عدد سكانها على 3000 شخص. اليوم، بعد خمسين سنة، تحولت"ميرن"بفضل المنشأة العلمية الاوروبية الجديدة الى مدينة صغيرة ونمت الى 20000 نسمة، وباتت تعج بالزوار العلميين المميزين، وبات اسمها كلفظة"إفتح يا سمسم"بالنسبة الى فيزيائيي العالم. لقد عرف المركز الاوروبي CERN بلا شك، في اوقات عدة، ازمات مختلفة وانقطاعاً في الدعم المالي وتراجعاً في المردود العلمي. ومثل هذه الازمات لا تزال تحصل له حتى في ايامنا هذه على رغم النجاح والشهرة. لكن على رغم كل الصعوبات، فإن CERN، مثله مثل مشاريع علمية اوروبية اخرى. كالمشروع الاوروبي JET للاندماج النووي، والمرصد الفلكي الاوروبي لرصد سماء نصف الكرة الجنوبي للكوكب، هو مشروع موثوق بحيث ان نتائجه العلمية معتمدة عالمياً. ويشرح المدير الجديد للمركز، روبير آيمر، اهم المشاكل التقنية التي تعترض مسيرة المركز:"مشكلتان تعترضاننا، كان علينا اولاً اعادة النظر بخطوط التبريد المعدة لتأمين حرارة منخفضة جداً ل1700 جهاز انتاج حقل مغناطيسي موزعة على دائرة طولها 27 كيلومتراً. والمشكلة الثانية تتعلق بتركيب هذه الاجهزة بغية التحكم بدقة بمسار الجسيمات. وهنا كان علينا الاستعانة بخبرات مختبرات اخرى للمساعدة في الانتهاء من العمل في الموعد المطلوب". ويكفي لتقويم CERN ذكر جوائز نوبل التي منحتها الاكاديمية الملكية للعلوم في السويد لباحثين في المركز. الجائزة الاولى مُنحت لكارلو روبيا وسيمون فان دريمر عام 1984 لنجاحهما باكتشاف جسيمات"البوزون Z وw النووية التي تخضع للقوى النووية الصغرى المسؤولة عن النشاط الاشعاعي للنواة. الجائزة الثانية اعطيت لجورج شارباك عام 1992 مكافأة على اعماله حول اجهزة كاشفة جديدة للجسيمات:"الغرف المتعددة الخيوط". وجائزة اخرى كان من المنتظر ان تتوج اعمالاً مهمة حول"التيارات المحايدة"لأندريه لاغاريغ في السبعينات لولا وفاته المباغتة قبل ترشيحه رسمياً لنيلها. في بداية تشغيله عام 1957 لم يكن في المركز سوى فريق من حوالى مئة شخص، وآلة بحثية متواضعة واحدة من نوع المسرّع المتزامن Synchro-Cyclotron SC. ثم تم بناء آلة جديدة ذات متسوى عالمي عام 1959:"مسرّع البروتون المتزامن". بعد ذلك تتالت الآلات المتخصصة:"تفاعل الحلقات المخزونة ISR"، ثم"المسرع الاكبر للبروتونات"Super Pronton Synchrotron SPS، ثم"الالكترون - بوزيترون الواسع LEP"، ثم الآلة الكبرى المنتظرة في اواسط العام 2007:"مصادم الهادرون الواسع LHC" . هكذا اصبح هذا المختبر الاوروبي الكبير احد الميادين الاساسية في مجال الابحاث النووية. وقد تطورت فعالية المركز تباعاً بفعل تطوير الآلات المعتمدة من جهة وزيادة عدد الباحثين والعاملين على هذه الآلات من جهة اخرى.