ارتفعت أخيراً احتجاجات في العراق ضد حكومة إبراهيم الجعفري لعدم تخصيصها موارد مالية كافية لتمكين المحافظات من تقديم الخدمات وإقامة المشاريع وتوفير فرص العمل. ويمكن أن يستشف من بعض أصوات الاحتجاج منحىً معادي لمؤسسات الدولة المركزية، وكأن ضعف المؤسسات المحلية ناجم عن هيمنة الحكومة المركزية التاريخي فقط، لا عن قصور في المؤسسات المحلية نفسها أيضاً ولا عن محدودية أفق الحركات السياسية المهيمنة في هذا الوضع المعقد. والمدهش أن بعض منتقدي حكومة الجعفري، ومنهم مثلاً محافظ البصرة، لا يحددون المسؤوليات، إذ تختفي الإشارة إلى دور الاحتلال والهيمنة الأميركيين على القرار السياسي والاقتصادي في العراق، على رغم ما يعرف من أن قلة التخصيصات المالية للإعمار والخدمات تعود إلى حد بعيد الى سياسات وقيود أميركية. وتكمن العلة في عدم استعداد حكومة الجعفري وعدم قدرتها على اتخاذ قراراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية بالاستقلال عن هيمنة الاحتلال. فالاحتلال لا يزال متمسكاً بمشروع اقتصادي فاشل يتطلب منع الاستثمار العام في كل ما يعتبره قابلاً للتخصيص، بما في ذلك أجزاء مهمة من البنية التحتية. وما استمرار تدهور بنية الخدمات الأساسية إلا طريق لفرض التخصيص بأبخس الأثمان. كذلك فإن تقليص الإنفاق الحكومي ضرورة لدفع هذه السياسة للحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي الذي يشكل ضمانة أساسية للرأسمال الأجنبي. وإذ يتعثّر حالياً دخول الرأسمال الأجنبي الخاص بسبب انعدام السيطرة على الأوضاع الأمنية، فإن الاحتلال لا يزال اليوم يحضّر البيئة الاقتصادية لخدمة مصالح مؤسساته، فهو يستهدف الحصة التموينية بحجج واهية. لقد تبخرت كل الوعود بالمعونات المالية لإعادة الإعمار ولا تزال أموال النفط العراقي تحت وصاية أجنبية. ومعنى ذلك أن نقد سياسة الحكومة الحالية لا يمكن أن يقف عند حد مطالبة الحكومة بتخصيصات إضافية. فالفشل لا يكمن الآن في مركزية القرار الحكومي في بغداد بل في فقدان الإرادة المستقلة لدى الحكومة. وليس هناك ما يدل على أن دعاة الفيدراليات والنزعة المحلية يمتلكون مشروعاً يعيد العافية إلى البيت العراقي ويسترجع القرار الوطني، فكل ما يعدون به جماهير الأقاليم هو حصة أكبر من كعكة أصغر، تُوزع بما لا يتعارض مع مشاريع الاحتلال. وهذا ما نجح فيه موقتاً الحزبان المهيمنان على إقليم كردستان عبر تحالفهما مع الاحتلال وهو ما يثير ضغينة أطراف أخرى. والحال أن ضعف الأداء الاقتصادي للحكومة يكمن كذلك في طبيعة أو نتائج ذلك الإنفاق بسبب استشراء الفساد وانعدام الكفاية، ناهيك عن استمرار حالة الحرب وارتفاع نسبة الإنفاق الأمني ونتائج أعمال التخريب المتعمّد. ولا تتحمل الحكومة الحالية وحدها كل هذه العوامل، إلا أن هذه الحكومة فشلت في معالجة مظاهر التدهور العام في البلاد، كما فشلت في وضع مسار للخروج من الأزمة، ما يدفعها إلى المزيد من الاعتماد على الوجود العسكري الأميركي. وبالتالي، فإن حكومة الجعفري تجد نفسها في مأزق الاحتلال الأميركي نفسه وهي تتلهّف لإرضاء صندوق النقد الدولي ونادي باريس للدول المانحة. إذاً ليست طبيعة العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات المحلية هي المفتاح لمعالجة هذا الوضع الاقتصادي المتردّي، بل إن موضوع مركزية أو لا مركزية الإدارة أمر يُفترض أن يُعالج في شكل تدريجي وعلى نطاق وطني عام وعبر بناء مختلف المؤسسات المعنية وتحديد الصلاحيات وتوضيح العلاقة بينها. وفيما تعاني المؤسسات المحلية حالياً ضعف التخصيصات نسبة إلى احتياجات المحافظات، فإن الأمر لا يقتصر على محافظة دون أخرى، وبالتالي يجب معالجة هذا الأمر على نطاق وطني وبمشاركة المحافظات كافة. أما معالجة الإهمال المناطقي المتوارث ودمار الحروب، فيجب أن تتم، لا عبر المزايدة حول التعرض للظلم، بل عبر تعبئة الطاقات المتوافرة وتوجيهها نحو الإعمار وتحسين ظروف المعيشة وتطوير المزيد من الموارد لإكمال البناء. وينبغي أن يكون من أهداف السياسة الاقتصادية تحقيق مستويات من الخدمات على نطاق البلاد ككل، مع اعتبار خاص للمناطق الأفقر. وانتشرت في الآونة الأخيرة دعوة لتوزيع عوائد النفط على أساس النسب السكانية للمحافظات. وإذ تبدو هذه الدعوة معقولة وعادلة ظاهرياً، فحقيقتها ليست كذلك. ولهذه الدعوة أثران رئيسان، أولهما إضعاف القدرة على تنفيذ مشاريع ذات نفع عام يتجنبها القطاع الخاص عادة، وثانيهما إضعاف القوة التفاوضية الوطنية تجاه الشركات الاحتكارية التي تتربص بالثروة النفطية الوطنية العراقية. فبُعيد الاحتلال جرى حديث محموم حول التوزيع النقدي لعوائد النفط كبديل للحصة التموينية، واليوم نسمع بمطالبات المحافظات باقتسام نسبي لعوائد النفط أسوة بما فرض على العراق من طريق الحصار ومشروع النفط مقابل الغذاء. والواقع أن هذا الأسلوب خاطئ اقتصادياً وجائر اجتماعياً ومكرس للتجزئة السياسية. فمن المعروف أن نسبة عالية من عوائد النفط التي استثمرها مجلس الإعمار في الخمسينات كانت أنفقت في المنطقة الشمالية على مشاريع السدود، في حين أن معظم ثمار هذه المشاريع قطفتها وتقطفها محافظات أخرى بل فئات اجتماعية معينة في تلك المحافظات. ومن جهة أخرى، استوعب جنوبالعراق نسبة ليست قليلة من استثمارات السبعينات في مشاريع النفط والغاز والموانئ والحديد والبتروكيماويات. إذاً لا يعني التقسيم الجغرافي لعوائد النفط التوزيع نفسه في المنافع، بل يجب اتباع معايير علمية ومنطقية للتخصيص الوظيفي والقطاعي والمحلي للموارد. وينبغي أن يكون من الأهداف الرئيسة للسياسة الوطنية تقليل الفوارق بين الدخول والثروات على مستوى الأفراد والجماعات والمناطق وتحسين الأداء على مستوى الوطن. والواقع أن دعوات الأحقية المحلية أو التوزيع النسبي لعوائد النفط التي تنادي بها بعض النخب والجماعات السياسية، لا تمثل سياسة اقتصادية بديلة لتفشي الفساد وضعف الأداء الحكومي ولا تشخّص الداء الأكبر المتمثّل في الاحتلال. * أستاذ اقتصاد الشرق الأوسط في جامعة إكستر، بريطانيا.