يبدو ان السؤال بسيط ولكن الجواب عسير، فالعراق الذي خرج من نفق الديكتاتورية المظلم دخل نفقاً آخر يسوده ظلام الاحتلال والارهاب والصراعات الاثنية والطائفية والفئوية. وفي خضم هذا الظلام يُطلب من العراقيين الآن كتابة دستور البلاد الدائم، وهو الوثيقة القانونية العليا والمرجعية التي تنير الطريق أمام الشعب وسلطاته الثلاث في تحديد الحقوق والواجبات والصلاحيات اللازمة لادارة البلاد. ومن ضمن ما يُطلب الآن هو تحديد علاقة الحكومات، سواء كانت فيديرالية أو اقليمية أو محلية، بثروات البلد الطبيعية وكيفية استغلالها والاستفادة منها. ان أهم ما يملك العراق من ثروات طبيعية هي الثروات الهايدروكربونية النفط والغاز الطبيعي. ويبدو ان الجدل احتدم حول تقاسم العوائد النفطية، حيث طالب الأكراد بداية ب 65 في المئة من عوائد نفط الشمال ثم تنازلوا الى 35 في المئة، في حين يدعو الائتلاف الوطني الموحد الى توزيع العوائد على المحافظات بموجب النسب السكانية. قبل أن أبدي رأيي في هذا الخصوص أود تبيان مدى أهمية العوائد النفطية للعراق عموماً، والحكومة المركزية خصوصاً. ان صادرات العراق غير النفطية تافهة من حيث القيمة نظراً لتخلف الاقتصاد العراقي. ومثال على ذلك، فإن حصة الصادرات النفطية من الصادرات الكلية بلغت 98 في المئة من 1975 الى 1989، وبعد تلك الفترة، أي في سنة 1990، غزا العراقالكويت وتعرض لدمار اقتصادي شامل نتيجة الحرب والحصار وأصبح بسبب ذلك يعتمد على النفط بصورة أشد. ويعني ذلك ان العراق يعتمد اعتماداً كلياً على الصادرات النفطية كمصدر للعملات الصعبة التي تمكنه من الاستيراد، علماً أنه يستورد من الخارج أكثر من ثلثي حاجاته من المواد الغذائية، كما يستورد معظم سلعه الاستهلاكية والسلع الأخرى. ويعني ذلك أيضاً أن العملات الصعبة التي يحصل عليها العراق من صادراته النفطية هي السند الوحيد لقيمة العملة العراقية الدينار. ومن دونها تنهار قيمة العملة كما حصل بعد فرض الحصار الاقتصادي وحرمان العراق من التصدير. وتعتمد الحكومة المركزية اعتماداً يكاد يكون كلياً أيضاً على العوائد النفطية في تمويل موازنتها الاعتيادية والاستثمارية، فتمول العوائد النفطية مثلاً أكثر من 98 في المئة من موازنة الحكومة لهذه السنة. وسبب ذلك ان العراق استمر في كونه دولة ريعية تعتمد اعتماداً مباشراً على الصادرات النفطية، ولم يطور مصادر ضريبية أخرى نظراً لضيق قاعدته الاقتصادية واعتمادها على القطاع النفطي، وضعف القطاع الخاص، وهو عادة الدافع لمعظم الضرائب والممول الرئيس للموازنة الحكومية. ان المسؤوليات المالية التي ستتحمل الحكومة الفيديرالية المقبلة عبئها ستكون كبيرة جداً خلال العقد القادم على الأقل، بعد أن خرج العراق من الحروب والحصار محطماً ويحتاج الى اموال طائلة لاعادة بناء البنى التحتية وتوفير الخدمات العامة وسداد الديون الخارجية، والصرف على خطط التنمية الاقتصادية، اضافة الى توفير نفقات موازنة الحكومة السنوية بما فيها تخصيصات الوزارات والحكومات المحلية. وبناء عليه فإن الدعوة الى توزيع العوائد النفطية على حكومة الاقليم والحكومات المحلية وتجريد الحكومة الفيديرالية من موردها الأساسي انما هي دعوة الى افلاسها. ان القاعدة في جميع دول العالم المتمدن هي ان الحكومة المركزية أو الفيديرالية هي المالكة لثروات البلد الطبيعية نيابة عن الشعب. وحتى الولاياتالمتحدة، وفيها يكون مالك الأرض مالكاً أيضاً لما تحويه من ثروات، فإن المالك الأكبر للأراضي هناك هي الحكومة الفيديرالية، واليها يعود حق استغلال الموارد الطبيعية في تلك الأراضي. كما ان الحكومة الفيديرالية هي القابضة للضرائب المفروضة بموجب القانون على دخول الشركات والأفراد، ومن ضمنها الضرائب التي تدفعها الجهات المستغلة للموارد الطبيعية في الأراضي الخاصة. أما الحكومات المتعاقبة للولايات المتحدة الأميركية فإنها تفرض ضرائب على دخول الشركات والأفراد بنسب بسيطة قياساً بالضريبة الفيديرالية، في حين تقوم بلديات المقاطعات والمدن والقصبات والقرى بجباية الضريبة على الأملاك العقارية سكنية أو غيرها لتمويل موازناتها الخاصة بالتعليم والشرطة وغيرها من خدمات. فدول العالم ذات الاقتصاد المتقدم تعتمد اعتماداً مباشراً على جباية الضرائب لتمويل الحكومات بأشكالها ودرجاتها المختلفة فيديرالية، مركزية، اقليمية، محلية ولا يجب أن يختلف العراق في المستقبل عن تلك الدول باعتماده على الضريبة في التمويل بعد أن يقوم ببناء قاعدة اقتصادية متطورة. ولكن كيف للعراق أن يبني قاعدة اقتصادية متطورة؟ ان ذلك - بإيجاز شديد - سيتطلب من العراقيين جهوداً جبارة في التخطيط والعمل، تبدأ بالتوجه نحو القطاع الخاص للاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وكذلك تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر Foreign direct investment بعد توفير البيئة المناسبة لنشاط القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية. ان النهوض الاقتصادي هذا سيستلزم جهوداً مخلصة وجادة لسنوات طويلة 10 - 20 سنة في أحسن الأحوال، ستضطر الحكومة الفيديرالية خلالها الى الاتكال على الموارد النفطية في تمويل موازناتها الاعتيادية والاستثمارية. وسيكون من مسؤوليات تلك الموازنات تخصيص موارد معقولة لحكومة الاقليم والحكومات المحلية، كل بحسب حاجتها الحقيقية. وبخصوص المناطق التي أصابها الاهمال والخراب في ظل العهد السابق، فإن الالتفات لها والعناية بها بصورة أكبر سيكون تحصيلاً حاصلاً نظراً لوجوب تعيين المشاريع وتخصيص الموارد لمناطق العراق المختلفة بحسب ظروفها وحاجاتها. ختاماً قد يقول قائل ان الذي ندعو اليه هنا قد طبق خلال نصف القرن الماضي، الا ان فساد الحكومات المركزية واستبدادها بعثر الأموال النفطية وآلت البلاد أخيراً الى الخراب. ان ذلك صحيح ولكن المفترض، بعد أن تخلص العراق من الفترة المظلمة خلال حكم صدام، أن يتجه العراقيون لبناء دولة عصرية بحكومات كفية تعمل بنزاهة وشفافية واخلاص وحرص تام على المصلحة العامة. أما اذا قُدر للفساد والانحلال أن تبقى، فإن قيام حكومة الاقليم والحكومات المحلية بالاستحواذ على حصة الأسد من العوائد النفطية سوف لن ينفع، ذلك ان الفساد مرض معدٍ، يتفشى وينتقل من حكومة أكبر الى حكومة أصغر، ولربما ينتهي أخيراً في كل بيت، والعياذ بالله! خبير النفط والاقتصاد في مركز دراسات الطاقة العالمية، لندن.