الإسلاميون الحركيون هم اليوم أكثر ذكاء، ولا دليل على ذلك سوى آلية التعامل التي انتهجوها مع"غزوة لندن"7 تموز يوليو، فهم لم يبادروا إلى ترحيب جامح كما كان حالهم في 11 أيلول سبتمبر عشية"غزوة مانهاتن"، فقد تم إحلال الترقب والخشية مع حدث لندن كآلية تعامل جديدة، بدلاً من الاندفاع الذي عُرف عنهم سابقاً. لماذا ؟ هل نرجع هذا الحذر إلى التحرك الأميركي الواسع والموجع في آن، الذي دفع بعض الحركيين إلى أن يعيدوا حساباتهم ويقيسوا كل خطوة لاحقة للتحرك الأميركي؟ القراءة العامة، حتى وقت كتابة هذا المقال، تذهب إلى أن تداعيات لندن لن ترقى إلى مثيلتها الأميركية، فالسكون أو بشكل أدق: البرود الإنكليزي يوحي بذلك، فلا ريب أن الهدوء في خطاب بلير، والحذر في لغة الصحافة الإنكليزية، أسهما إلى حد كبير في بلورة صورة التعقل، التي تظهر بها السلطة البريطانية، تلك الصورة التي لا يجيدها نظيرهم المارد الأميركي، فالبرود الإنكليزي - الآن - يجعل الإسلاميين في حيرة نسبية تجاه صياغة خطابهم حيال أوجاع لندن، فلم تبرز تعليقاتهم المؤسلمة سريعاً، كما كانت إبان 11 أيلول، وعلى غير العادة عند كل ضربة دموية تنال من كبريات دول العالم، وجدنا تلك الخطابات تخرج هذه المرة متقطعة، متضاربة الرؤى، إضافة إلى أن اللغة التي باركت"صباح نيويورك الأسود"عبر خطب الجمعة، غابت عن الخطبتين اللتين أعقبتا صباح لندن. ولكن، مع التحفظ والتقتير في ردود الفعل الحركية المتأسلمة، يمكن تصوير المشهد بطريقة قد تكون أكثر وضوحاً، من خلال تقسيم الحضور فيه إلى ثلاثة فرق: فريق أول يرفض الحدث اللندني، بعد أن كان مرحباً بما سبقه في أميركا. والفريق الآخر ما زال يرحب بالعمل، ويعتبر مرتكبيه من المنتسبين فكرياً إلى المشهد السلفي الجهادي. أما الفريق الثالث - المتذاكي - فهو يزعم ظاهرياً رفض الحدث، وفي واقعه ومجالسه الخاصة يباركه، ويرى فيه نصراً على قوة تجبرت وطغت على المسلمين. أول الفرق الثلاثة، هو ذلك الفريق الذي غير نظرته تجاه أي عدوان يمس دولة غربية. والمثال الحاضر حالياً لهذا الفريق، هو أحد أبرز الوجوه في الحراك المؤسلم داخل السعودية، فهذا الشخص الكريم كان مباركاً أحداث نيويورك ومؤيداً لها، من خلال مقال نشره في موقع على شبكة الإنترنت حمل العنوان الآتي: وقفات مع الحدث الأمريكي"وما كان الله ليعجزه من شيء"، قدم فيه صورة متعاطفة، مبررة للهجوم، على رغم أنه نشر المقال بعد أقل من ساعتين على الحدث. واليوم، المشهد يتغير لديه، فنراه لا يتعاطى مع أحداث لندن كما كانت حاله مع يوم نيويورك الشهير. وهنا لا يكفي المكان لسرد حالات عدة سجلت تبدلاً في الموقف تجاه الحدث الأخير، وفي غير مكان من العالم العربي، لكن، يظل تغير المواقف في المشهد السعودي الأبرز عن البقية. وثاني الفرق هم الثابتون في مواقفهم من نيويورك مروراً بلندن، وإلى حيث لا نعلم مستقبلاً، فهم مستمرون في تأييد كل هجوم يحدث، ويرون في ذلك نصراً على أميركا وحلفائها. وهؤلاء لا يبرزون حالياً على الساحة السعودية، لكن ساحات الحوار على شبكة الإنترنت خير مقياس للتعرف على ردود فعلهم الصادقة والمباشرة. ويمكن النظر إلى اللاجئ المصري في لندن هاني السباعي كنموذج حي لهذه الفرقة، فبعد يوم من تفجيرات لندن، ظهر على شاشة عربية متحدثاً عن عملية تنظيم"القاعدة"يقول:"هذا انتصار كبير له، وهذا يمرغ أنوف أكبر دول ثمانية رؤوس في العالم في الرغام، وهذا انتصار في ضرب مفاصل الاقتصاد الإنكليزي". مع أنه أصر - بعد مقولته الصريحة هذه - على أنه لا يتعاطف مع العملية ولا يبررها. وبعد هذا القول للسباعي لا أظن أن هناك حاجة إلى شرح وتفصيل أكثر حول آلية عمل الفريق الثاني. وفيما يدأب الفريق الثالث على التحايل في التعبير عن مشاعره، فهو يمثل فئة تبرز إعلامياً على أنها داعية للتسامح ونبذ العنف، وأنها حين ترفض أعمال"القاعدة"في الرياض، فهي بالتالي ترفضها في غيرها من مدن العالم، سواء في لندن أم في نيويورك، ولا ضير في أنهم ماضون في تسامحهم مع تل أبيب، مع الأخذ في الاعتبار الموقف الدائم ضد اسرائيل، هذا وفق تدابير حراكهم كفريق ثالث مختلف كلياً في آلية العمل. هذا الفريق يعتمد الظهور بهذه الصورة دائماً، أما بعيداً من الضوء فهو يشدّ من أزر سواعد المهاجمين على أي عاصمة أجنبية، لأن في ذلك بحسب منهجهم الخفي"عزة لله ولرسوله"، وهذا الفريق ليس محصوراً في السعودية"بل يمكن ملاحظة نسخ كثيرة منه في غير مكان عربي وأوروبي. ولكن، في الجانب السعودي، يتضح أن أحداث العنف في البلاد منذ العام 2003، دفعت الإسلاميين الحركيين إلى إعادة النظر تجاه"القاعدة"، ما يتضح في التعامل مع الحدث الإنكليزي، إذ إنهم لا يستطيعون التعبير المباشر بالتأييد ومباركة"غزوة لندن"، مثلما حدث مع"غزوتي نيويورك وواشنطن"، فاستحسان إحراق لندن هو بالتالي استحسان إحراق الرياض، لأن الفاعل واحد، والهدف واحد، ولا اختلاف إلاّ في الجغرافيا، مع مراعاة فارق التوقيت والفرص المتاحة اليوم، وقد يكون ذلك سبباً رئيسياً في تشكل ثلاثة فرق تتعامل مع ما جرى في لندن من منظور موقعها الحركي على الساحة الإسلامية السعودية. كاتب سعودي.