"هواء الأعالي"تعبير يردُ كثيراً في كلام الفيلسوف الألماني نيتشه. وهو تعبير ذو دلالات وأبعاد كثيرة. ومن خلاله يمكن التفكير في الكثير من الحالات التي يحياها المبدعون، من الشعراء والفلاسفة بخاصة، والفنانين بعامة: التفوّق، التعالي، التسامي، التفرُّد، العزلة، النقاء، التوحد، الوحشة،... الخ. وإذا كان التفوق واحداً من المعاني التي يلح عليها نيتشه، وهو يتكلّم على نفسه، فإنه في عبارته"هواء الأعالي"يرمي الى تصوير حالته السامية أو المتسامية، يرمي الى تصوير نفسه كائناً فوق عصره، أي أعلى من عصره ومن معاصريه. في مقدمة لأحد كتبه عنوانه"هذا هو الإنسان"في ترجمة عن الألمانية لعلي مصباح، منشورات الجمل، 2003، يقول نيتشه:"من يعرف كيف يتنفّس من الهواء الذي يملأ كتاباتي يدرك انه هواء أعالٍ، هواء شديد قاس، وعلى المرء أن يكون مجبولاً على هذا الجو، وإلا فإن الخطر سيكون غير يسير، خطر الإصابة ببرد. الجليد قريب، والوحدة رهيبة، لكن لكم تبدو هادئة كل الأشياء وهي تستلقي في النور، وبأية حرية يتنفّس المرء، وكم من الأشياء يشعر بها المرء تحته. إن الفلسفة كما كنتُ دوماً أفهمها وأعيشها هي الحياة طوعاً في الجليد وفوق الجبال الشاهقة". العيش في الأعالي، حيث الهواء النقي، يستتبع الشعور بالبرد وبالوحدة الرهيبة، إلا أنه يوفّر الشعور بالحرية، حيث تستلقي الأشياء في النور. ومن أصعب ما يعانيه الشخص المبدع، في مكانه العالي أو في حالته السامية، شعوره بوجود تلك الفجوة الكبيرة بينه وبين معايشيه أو معاصريه. هذا الشعور له وجهان: الأول ايجابي حيث السموُّ والتفرُّد، والثاني سلبيٌّ حيث الوحشة وسوء الفهم. ربما لهذا السبب تكلّم نيتشه على عدم التناسب"بين جسامة مهمتي وحقارة معاصريّ". "هواء الأعالي"هو إذاً تعبير عن حالة الابتعاد والسمو التي يحياها كل مبدع في كل عصر، وهو الذي يقيم علاقة من القرابة والتماهي بين المبدعين في مختلف العصور. إنه هواء النخبة، التي تكلّم عليها ابن المقفع في"أدبه الكبير". وهو ذلك الشموخ الذي ألح عليه المتنبي في أشعاره كلها، راثياً - مثل نيتشه - لأحوال معاصريه الذين لا يملكون القدرة على الارتقاء، راتعين - بل هانئين - في حضيض من الجهل والتهالك وراء أسباب العيش العادية أو الحقيرة. لقد ألحّ المتنبي - مثل نيتشه - على مثل هذه المعاني، وباعد كثيراً ما بينه وبين معاصريه، الذين لم يجد فيهم من يُشبهه أو يدانيه. ولشدة ما كان يشعر بالتفوق، لم يتخلّ المتنبي - كما هو معروف - في أشعاره كلها عن إحساسه بالغربة، وبكونه غير مفهوم، أو بالأحرى غير مُنصَف بفتح الصاد. لقد بلغ الأمر بالمتنبي أن نظر الى كل شيء من حوله نظرة ازدراء أو احتقار. انظر مثلاً في بيتيه هذين: "ضاق ذرعاً بأن أضيق به ذَرْ/ عاً زماني واستكرمتني الكِرامُ واقفاً تحت أخمصي قدر نفسي، واقفاً تحت أخمصيَّ الأنامُ". إنه هو الشاعر، وحده القادر على التسامي أكثر فأكثر. إنه لا يزال تحت قدر نفسه، وإن كان الأنام جميعاً تحت أخمصيه. إنه لا يزال - على رغم عُلوّه فوق الأنام - تحت رتبته التي يستحقها، إنه دائماً يستحق الأسمى، فالأسمى. هذه النزعة الدائمة نحو الأعلى نجدُ تصويراً لها - بهذه النسبة أو تلك - عند جميع الشعراء والمفكرين وغيرهم من المعنيين في شؤون الفن والابداع. حتى أن بعضهم - في ذلك - وريث لبعضهم الآخر. وظاهرة الوراثة هذه أشار إليها نيتشه أيضاً، إذ تكلّم على آباء أو أجداد له مجهولين، وقد يكونون موغلين في القدم، مفضلاً علاقته بهم، على علاقته بأنسبائه الأقربين، الذين تربطه بهم روابط قسرية. وكم هو جميل كلام أبي تمام على علاقة"الأدب"التي هي عنده أسمى بكثير من علاقة"النسب". انظر في بيتيه هذين، اللذين قالهما - في ما يُروى - مخاطباً صديقه الشاعر علي بن الجهم: "إن يختلف ماءُ الوصال فماؤنا/ عذبٌ تحدّر من غمام واحد أو يختلف نَسَبٌ يؤلِّف بيننا/ أدبٌ أقمناه مقام الوالد". إنه الهواء النقي، هواء الأعالي، الذي لا تُلوِّثه المصالح، لا تلوِّثه شهوة السلطة. هذا الهواء هو الذي يحيا فيه عبر الزمن أشخاص"مختارون"، يُحبّون الحقيقة، ويبذلون أنفسهم في سبيلها، ويستلذون يأسهم في الوصول اليها. هذا الهواء تتفتح فيه زهور التفرّد والعبقرية. إنه الهواء الذي يحيا فيه المتأمِّلون الراؤون، مُنتشين بأنفسهم وبيأسهم، راثين لعالمٍ يستحيل إصلاحُه.