أعترف، لقد أحرقت جملةً من خيرة جلسائي في لحظة من لحظات اليأس والمزاج المرّ... مكتبة بكاملها كوّمتها أمام عيني في أرض الحديقة، ثم أشعلتُ فيها النار، وجلستُ أتأمّل ألسنة اللهيب وهي تأكل الأوراق وتحيلها الى ألسنة صفراء. تندلع الى أعلى، ثمَّ لا تلبث أن تتراخى وتهدأ، ليستحيل كل شيءٍ مسّته الى رماد. أعترف، لقد أحرقت بذلك جزءاً من أيامي، لمسات أصابعي وعينيّ وجسدي على الأوراق، وأحسست بلذع النار على جلدي يترك بصماته الموجعة، وسألت نفسي: لماذا هذه القسوة يا محمد؟ لكنني كنت مقتنعاً بضرورة النار، في تلك اللحظة الحرجة من سوداوية العيش... ليس العيش بل الوجود من حولي. أعترف أحرقت بذلك: التاريخ، والسيرة... الفلسفة والأشعار... العام والخاص... وكل شيء كل شيء... وانتابني إحساس بأنّ ما قمت به، لا يبعد عن أن يكون طوفاناً من النار لا من الماء... وأنني بحاجة ماسّة لمثل هذا الطوفان الناري، يعود بي الى الصِفْر، الى اللحظة المؤسّسة التي ليس قبلها شيء سوى العدم، وأن العدم أفضل من هذه الذاكرة المؤلمة التي أحرقتها ليكون مكانَها رماد... رماد شاسع وعظيم، رماد الخواتم الذي عليه تنبني البدايات. ولستُ في ذلك وحدي أو وحيداً، فقد فعلها قبلي كثيرون على الأرجح، ممن أعرف ومن لا أعرف. كتب فرانز كافكا الى صديقه ماكس: أحرقها يا ماكس أحرقها، ويعني رسائله الخاصة له واعترافاته التي استأذنه ماكس في أن ينشرها، فأجابه أحرقها... وأبو حيّان التوحيدي، وجدّي الشيخ الذي جمّع في شتاء مبكر وحزين من شتاءات طفولتي كل ما كان ورثه عن آبائه وأجداده من كتب ومخطوطات، وما أضافه هو الى جذع هذه المكتبة. يومها كنّا فقراء جداً، ولم يكن لدينا وقود ولا حطب... ولم يكن مال. كنت أرتجف الى جانبه بجسدي الصغير والعليل كورقة في الريح. نظر إليّ، نظر الى المكتبة، نظر الى الموقد، ثمّ كانت بعدها شتويّة الحريق الطويل. يومها كان يقول: العلم هو ما يرسخ في الصدر، وما يبقى خارج الصدر فلا طائل تحته... لكنّ التوحيدي أحرق ما في الصدر وما في خارجه... وكافكا أيضاً... وأنا وقفت بين هؤلاء، وفعلت ما فعلت، في تلك اللحظة الناريّة من سيرتي مع الكتب، وكان لذلك حديث، سأحاول أن أختصره ما أمكن... هذا... ولم يكن ليحصل ما حصل، قبل عشر سنوات من الزمان، أو قبل عشرين، أو في إبّان الصبا والشباب، ذلك أن احراق الكتب التي تخصّني كان يعني لي، تقريباً، إحراق جزءٍ من جسدي الشخصي، بل ربما إحراق جزء من ذاتي وكياني... فأنا، ولأعترف من جديد، كائن كُتُبي من تباشير الصبا ويفاع الشباب... فقد انعجنت أصابعي بالحروف والكلمات، ولامس غبار الكتب القديمة والحديثة أنفي وجرى مع أنفاسي، ولا أبالغ لو قلت إن شَغَفي بالكتب خالط اللحم والدم منّي، حتى ليمكن أن تسمّوني مريض الكتاب... وإنه مرض لا شفاء منه... ومع مرور الأيام، وحين احتشدت عليّ الكتب في منزلي من كل مكان، وتعالت صفوفها من حولي وارتجت حتى لتكاد تقع، وتسدّ المنافذ عليّ... انتابتني الحال الجاحظية، وخِفْتُ من أن أنتهي، كما انتهى أبو عثمان، على ما يروي الرواة، قتيلاً تحت ما انهار عليه من كتب... كتبٍ طالما جَمَعها وصفّها من حوله كأصفى جلسائه، حتى إذا تكاثرت واحتشدت كما يحتشد العوام أو الغوغاء حول صاحبهم، واضطربت... انهارت وقتلت صاحبها... فمات كما يموت فارس تحت سنابك خيله. ومات أيضاً كشهيد بأصابع من أَحَبَّ... حَسَناً... قلتُ إذن إنّه لم يكن ليحصل معي ما حَصَلَ من المحرقة، لو لم يبلغ اليأس بي، والمزاج الأسود مبلغه... كما لو يقتل المرء نفسه، أو يطلق النار على عنقه في فجرٍ حزيراني مّا... ولذلك أسباب، بعضها معروف، وبعضها غامض ومجهول... فحين هيّأني الله، وربتني الدار وآبائي لأكون كائناً كُتُبيّاً، فإن ذلك حسابُهُ في قرانات كثيرة وأقدار جارية، واختياري فيه كاضطراري قائم في المابين... في تلك المنطقة السريّة بين الجبر والتفويض. فهل أنا أردتُ ما جرى في حياتي ليجري ما أريد؟ وآبائي وأجدادي ما علّموني التجارة لأكسب المال الوفير وأدخل في مغامراتي من باب بريق الذهب وشَغَفِ المال، وما علّموني السياسية أو أورثونيها، لأدخلَ مداخلها الوعرة في الحيلة والوسيلة، تقلّباً مع السلطان، وتماوجاً مع طبقات الناس في مواقعهم وكُتَلهم، أو في حزازاتهم وأحابيلهم، أو في الغوغاء أو النُخَب... فالله وأسلافي كوّنوني لأكون الكائن الفرد الوحشيّ في الطبع، والكتبيَّ في المزاج... وهو ما استمر فيّ واستقرّ في صِغَري حتى أمسِ أو البارحة. فأنا أنفُرُ من الناس، وآلَفُ وحدتيّ، وغالباً ما أكون في الجموع وحدي... وفي الشوارع أيضاً والقاعات والمحافل... وهذا جزء من صورتي وقَدَري واختياري... وما هيّأني اللّهُ وآبائي أيضاً لأكونَ أليف السلاح، وعاشق مجد الحروب والمحاربين... فأنا من جبلّتي المبكرة. آنفُ من القتل، وأسدُّ منافذ عينيَّ ونفسي عن الدم حين يسيل في الساحات أو الشوارع... ونقطة دمٍ واحدة، تسيل من عنق عصفور ذبيح، توقعني في الكآبة... وقد برئتُ أو هُيّئَ لي، من شَغَف مجدِ الحروب، وانحلّت عن كتفيَّ شهوةُ النجوم اللامعة... نجومِ الجنرالات وقوّاد الجيوش، بل يعروني نحو العسكر والطواويس ما يشبه استعلاء الطيور الملوّنة الجميلة الطائرة فوق الجيف حتى ولو كُسِيَت بالذهب. لا مجدُ المال مجدي ولا مجدُ السياسة مجدي ولا مجد العسكر مجدي... فأي كائن غريب أنا؟ وأين تكمن هُوّيتي؟ في الكتب... في الكلمة. ويوم قرأتُ قول أبي تمّام الشهير، في فتح عمّورية: "السيف أصدقُ أنباءً من الكُتُبِ/ في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب" تخيّلتُ معادلة حبيب بن أوس الطائي تجري على النسق التالي: ثمّة من جهةٍ: السيف، تقابله الكتب. في معادلة السيف يأتي الجِدُّ، وفي معادلة الكتب يأتي اللعب. وبين السيف والكتب سجال. ما الذي يفصل في هذا السجال بين الاثنين؟ يسأل بيت حبيب، فيجيب: حدّ السيف... فحبيب منحاز للسيف، وعليه تبنى القضيّة المنطقية... عليه تبنى الدول والممالك، وحقوق البشر... وعليه يُبنى الجِدّ... ومثله قول أبي الطيّب: "أَعلى الممالِكِ ما يُبنى على الأَسَلِ/ والموت عند محبيهنَّ كالقبلِ" فكائنات الكُتُب، هي كائنات اللعب... أما كائنات الجِدّ، فأصحاب السيف رمز القوّة. لكن المفارقة تبقى قائمةً من حيث أنّ المتنبي، وكأنّه يردّ على نفسه بنفسه، يفضّل الرأي على شجاعة الشجعان. فما الرأي؟ الرأي ثمرة العقل. وما العقل؟ ملكة المعرفة والتفكّر والتدبّر. وما المعرفة إن لم تكن مخزونة في الكتاب؟... ثمّ إنّ الكتب، وهي أدوات المعرفة وخزائنها قديماً ولحين ابتكار الكمبيوتر والحافظات الآلية للمعلومات والمعرفة... إنّ الكتب كأدوات وخزائن للمعرفة، كَجَسَد للمعرفة، تندمج في روحها، فتصبح الأداة هي الموضوع كما الموضوع الأداة... هذا معنى الكلمة الذي في البدء كان... ... لكنّ هذا التوليد، ربّما لم يكن ليخطر في بال سَدَنة القوّة في التاريخ مِنْ... حتى نيتشه... بكلّ الأحوال، سأبقى كائن الكتب، وساكناً في الكلمات... فكيف أحرقُها اليوم في الحديقة؟ وكيف أحرق نفسي؟ وقلتُ إنّ لي مع الكتاب سيرة. فأول ما شممتُ، على الأرجح، بعد ولادتي في الجبل العالي، مع هواء الجبل، رائحةُ الكتب. كان جدّي الشيخ، يرحمه الله، قد ورثها عن أبيه، وأضاف عليها، عتيقة وجديدة، وفي كل فنّ ومطلب، من كتب الدين والأدب والشعر والسيرة والتاريخ، حتى كتب السحر والطلاسم، ومن المخطوط منها وقد عشّش العَطَن والعثّ في زواياه وحواشيه، حتى الذي أخرجته المطابع طازجاً وغير متآكل... ومن الجدّ الى الحفيد، ولدتُ في مذود الكتب... ولم أنفر منها، كما يحصل لآخرين، قد يولدون في الجدّ فينصرفون الى اللعب، وفي البرّ فينظرون الى البحر، وربما ولدوا في حضن البرّ والتقوى فاختاروا التهتّك واللذّة، وربما في التهتّك فاختاروا البرّ... وهكذا سجمتني ولادتي في أصلي وأدرجتني في ما أورثنيه أسلافي، فتطبّعتُ في أصل طبعي، فأنا يا إخوتي في الإنس والوحشة، كائن كتبني.. ومنذ ما بدأتُ بفكّ الحروب وتهجئة الكلمات، وليكن ذلك في الخامسة من عمري، بدأتُ بمتعة الحواسّ الخمس، ثم تغلغلت النشوةُ بالكلمات الى سويداء النفس ومكنون القلب. عيناي حين تقعان على الكتاب، تحركان يدي فألمسه، لمساً رقيقاً، وأقلّب صفحاته. وربما تطاير منه غبار أو شذى، وعبقت رائحة ما، آخذها مع أنفاسي. ولهذا، يا إخوتي، ومن صغري، أخذتُ الحساسية وكدت أقع في الربو، ولا أزال... ثم أقرأ وأنشد، وأرقص وأُسَطّر وأنام... كتابي قرينُ وسادتي. تركنا مملكة الجدّ في القرية، في أوّل الصبا، وجئنا الى بيروت وكنّا فقراء. وكنت غادرت المعرّي والمتنبي وأبا حيان التوحيدي والشريف الرضي والجاحظ، في كتبهم ينامون، وأخذتُ منهم في دفترٍ صغير احتفظت به في المدينة، شذرات وأبياناً، وفي صدري شغف للأسلاف. قلت كُنّا فقراء... وكان أبي يعطيني، وأنا صبيّ وفتى، مبلغاً زهيداً من المال، أصرفه على حاجاتي... وأكبر حاجاتي كان الكتاب... أجمع مال الأيام الزهيد، يوماً بعد يوم بعد يوم، وأدلف الى حيث المكتبات أو سوق الكتب القديمة، فأشتري جبران أو نعيمة، نحلة أو الريحاني، طه حسين أو الحكيم، كامو أو رمبو... وأعود فرحاً الى المنزل، حيث هيّأتُ الى جانب مخدعي بيتاً للكتب. زاوية من خشب برفوفٍ تعلو حتى السقف، ثم أخذت تتوسّع وتفيض حتى كانَ ما كان. وكان من عادتي، أن آخذ الكتاب، أوّل ما آخذه، فأمسح الغبار عن جبينه، وأسوّي من جروحه أو خدوشه، ثم أغلّفه بغلافٍ أبيض، وأؤرّخ على صفحته الأولى تاريخ دخوله الى مملكتي أو مكتبتي أو... حظيرتي. وكانت لي، ولا تزال حتى الأمس، طقوس في القراءة. إني أقرأ حشداً لا تفاريق. ثلاثة أو أربعة كتب مرةً واحدة لا كتاباً كتاباً... وهي متنوّعة بين شعر وتاريخ وعلم وفن وتسلية في آن... ثم إنني لا أقرأ بحياد. أقرأ بعاطفتي وحسي وعقلي، بجَيَشانِ دمي تجاه ما أقرأ أو فتورِهِ، بالغضب أو بالحبّ... وقلمي بيدي يسجّل على الهوامش وبين السطور فيض وجودي على الكتاب... إنْ خيراً فخير وإنْ شرّاً فشرّ، وربما جرى قلمي على الصفحات بالطرب أو البهجة، وربما جرى بالشرّ أو اللعنة... وهكذا تتسرّب ذاتي المنفعلة على الكتاب، فأنا وهو نتجاسد ونتمازج، وأنا وهو كأوعية متصلة... فلا أنتهي منه إلاّ وفيه جزء من نفسي وفي نفسي جزء منه. فمن يفتح كتبي يفتح أيامي... وأنا أخاف... ... وأخذت تنمو الكتب من حولي وتتراكم، من كل الأزمنة، وباللغات التي أجيدها... من تأبّط شرّاً حتى... سرج بي، ومن الفارابي حتى دريدا، ومن امرئ القيس والشنفري حتى غنسبرغ... ومِن... الى آخر الكتب وآخر الكلمات، يختلط هذا بذاك، وذاك يربض على هذا، والرفوف تمتلئ وتكتظّ، والمنازل التي غيَّرتُ سكناها، تستقبل أول ما تستقبل وفود الكتب... وأنا وراءها قائد جيوشها الغفيرة، وصاحب أمرها وخازن كنوزها ولا أدري الى أين... فإن سيلها طمَى وأمرها عَظُم... حتى بات لا مفرّ لي ولها من أمر مّا... ذلك أنها بدأت منتظمةً في رفوف المكتبات، ثم أخذت تزحف نحو البهو وزواياه ووسطه، وانتقل بعضُها الى الممرات ودخل غرفة الطعام ثم وصل الى غرفة نومي ونام معي بيني وبين زوجتي في السرير، فأنا غريق الكتب وأنا المريض وماذا أفعل؟ هذه الكتب جيوشي وعدتي وسلاحي وإرثي وجُنَّتي ضدّ الأعداء ومنها أستمدّ الرأي الذي هو قبل شجاعة الشجعان وهي سبيلي الى الماضي وسلّمي الى المستقبل، فإلى أين أوصلتني؟ ولماذا خدعتني؟ أنا المهزوم. لقد أذلّوني. أحرقوا لي سمرقند ودمروا لي بغداد وسمموا النهرين وحاصروا دمشق وقهروا فلسطين واجتاحوني في لبنان ودجنوني في المغرب وكبلوني في الخليج وأرهبوني في الجزيرة ونبشوا قبوري وأذلّوا نسائي وجوّعوا أهلي وسرقوا أنهاري واقتلعوا جبالي وغبّشوا شمس صحرائي وامتصوا دم رمالي الأسود. وسألت الكتب ماذا فعلتِ لي وسكتت. وسألت نفسي وخرست. وسألت من حولي ووجموا. قلت اجمعوها فجمعوها. قالوا جميعاً قلت جميعاً. قالوا وأنت؟ قلت وكتبي. قالوا الى أين؟ قلت الى الحديقة. حسبوني أقول الى الحقيقة. قالوا وأين الحقيقة؟ قلتُ الحديقة... نقلوها جميعاً الى هناك، بحروفها وغبارها وآثار جسدي وأصابعي عليها. كوّموها أمامي تلاًّ عالياً من أخمص الأرض حتى أعالي السماء. أشعلتُ في أصلها النار فارتفعت ألسنتها كأبالسة. جلست أنظر الى المحرقة وهي تلسع جسدي. وسألت نفسي: والآن، ماذا أفعل يا الله؟ * شاعر لبناني.