تتزامن ذكرى مرور ستة عقود على قصف هيروشيما، التي تحل خلال أيام، مع إسقاط قنابل مماثلة، لكن بالمفرَق، على مناطق مختلفة من العراق ما يطرح مجددا قضية العلاقة بين القوة والأخلاق. فقبل ثلاثة أسابيع من إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونغازاكي أجرت أميركا أول تجربة نووية في التاريخ يوم السادس عشر من تموز يوليو في صحراء نيومكسيكو في الولاياتالمتحدة، ما شكل انعطافا ليس في سيرورة الحرب وحسب وإنما في مسار الإنسانية. وظلت منطقة التفجير منذ ستين عاما منطقة محظورة على العموم، وحتى الصور التي أخذت زمن الحادثة نشرت جزئيا ولم تعرض بالكامل سوى هذه الأيام. وأكيد أن تداعيات هزيمة الألمان واستسلام اليابان في أواخر الحرب العالمية الثانية غطت عليها. أتت التجربة تتويجا لجهود حثيثة قامت بها فرق من العلماء الأميركيين مع علماء ألمان وإيطاليين وأوروبيين شرقيين بدفع من ألبرت أينشتاين الذي هاجر إلى أميركا في الثلاثينات، لكنه لم يشارك مباشرة في صنع القنبلة. وكان المحرك الأساسي لذاك السباق التوجس من كون الجهود الجبارة التي بذلتها ألمانيا النازية لصنع القنبلة النووية جعلتها على قاب قوسين من حسم الحرب. وطالما أن برلين خسرت المعركة فإن اليابان بات هو هدف السلاح الجديد. لكن الأهم أن الأميركيين ضمنوا بامتلاك ذلك السلاح تفوقا مطلقا ونهائيا على خصومهم وحلفائهم في آن معا، إذ لم ينفع امتلاك الروس السلاح النووي ولا الفرنسيين لاحقا بفضل التجارب التي أجروها في الصحراء الجزائرية ولا البريطانيين ولا الصينيين في إزاحة أميركا من عرشها بوصفها القوة الأولى في العالم. وهذا التفوق العسكري والتكنولوجي رتب عليها واجبات أخلاقية تتعلق بالغايات التي ينبغي أن يوجه لها ذلك السلاح وضوابط استخدامه، أو بالأحرى عدم استخدامه. مع ذلك فكر الأميركيون غير مرة خلال حقبة توازن الرعب باللجوء للسلاح النووي أو في الأقل لوَحوا به لأنهم يعتقدون أن عليهم أن يكونوا قوة مهابة، مرهوبة الجانب وليس قوة صديقة تقوم العلاقات معها على التعاون والمصلحة المتبادلة. فهناك قاعدتان تتحكمان بالتعاطي الأميركي في الملف النووي أولاهما ضمان بقاء هذا السلاح حكرا عليها وفي أفضل الأحوال على نادي البلدان النووية الحالية، والثانية إشعار الآخرين دائما بذلك التفوق وما يترتب عليه من إقامة علاقات سياسية واقتصادية غير متكافئة. وهم لا يستخدمون هذا المنطق الإستعلائي مع الدول النامية فقط وإنما مع الحلفاء أيضا، وآخر تجلياته الأزمة الصامتة الأخيرة مع أوروبا في شأن قرارها رفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين والذي كان الأوروبيون التزموه في أعقاب أحداث ساحة"تيان آن مين"أواخر الثمانينات. أثار القرار الأوروبي موجة غضب عارم في الكنغرس بجميع تياراته فهدد وتوعد فيما أشعرت الإدارة الأوروبيين بكونها لن تعترض على أي قرار يتخذه الكنغرس في هذا الإتجاه. وطبعا تراجع الأوروبيون عدا ألمانيا وفرنسا من دون المرور للتنفيذ، فأضاعوا إحدى الفرص المهمة لتكريس سياسة خارجية موحدة ومستقلة، وهذا ما تسعى إليه أميركا لأنها تخشى من بروز قوة منافسة. وتتضاعف الخشية كلما كانت الدولة المعنية تمتلك أو تسعى لامتلاك قوة نووية، وهذا ما يفسر تحاملها المستمر على إيران وتزكيتها للضربة التي وجهتها اسرائيل للمفاعل العراقي"تموز"مطلع الثمانينات. إلا أن ما ألقته القاذفات والبوارج الأميركية على العراق في حربي الخليج الثانية والثالثة من صواريخ وقنابل من جميع الأصناف، بذريعة واهية هي استعداده لامتلاك أسلحة غير تقليدية، فاق أضعاف أضعاف قنبلتي هيروشيما ونغازاكي. وعدا عن كون رؤساء فرق التفتيش وفي مقدمهم هانس بليكس نفوا تلك المزاعم في الإبان فإن ما اقترفه الأميركيون في العراق منذ شن الحرب الأخيرة قبل نحو ثلاثين شهرا شكل، من الزاوية الأخلاقية، كارثة أسوأ من الكارثة التي تسببوا بها لليابان. وسيبقى الإستهتار بالأخلاق في العلاقات الدولية مصدرا للصورة السيئة التي يحملها العرب والمسلمون عن أميركا والتي لن تجدي نفعا جميع الموازنات التي ترصد لتحسينها ما لم تتصالح السياسة مع الحق.