المشهد السياسي في المنطقة مثير للشفقة. ففي عدد من الدول العربية يتحرك أهل النخبة مهرولين أو متكاسلين بحثاً عن شيء لا يعرفون بدقة معقولة شيئاً عنه. يبحثون عن"ديموقراطية"لم يمارسوها أو يعرفوها. سمعوا عبر السنين أنها من الكلمات الخطرة التي تؤذي من ينطق بها، أو يكتب عنها، قالوا لهم إن النطق بها والدعوة إليها دليل تخريب وأحياناً دليل خيانة وطن. وقيل لنا، وما زال يتردد على ألسنة المسؤولين وبعض العاملين عندهم أن التركيز على هذه الكلمة، أو الممارسة، جزء من مخطط يهدف إلى التشويش على بقية الأهداف العظام للأمة كالوحدة الوطنية أو القومية والتنمية وبناء القوة المسلحة الرادعة وإرساء القاعدة التعليمية اللازمة للنهضة والتقدم، وقال آخرون إنها ضد الدين. المشهد السياسي مثير للشفقة لأن بسبب هذه الخلفية وخلفيات أخرى تهيمن على ساحة العمل السياسي في المنطقة، بدأت تهبط الآمال المتعلقة بالديموقراطية في العالم العربي في متوالية يعتقد البعض أنها ستؤدي في القريب العاجل إلى نفاد صبر الناس. ونفاد الصبر يعني في حالنا العربية الفريدة أحد أمرين، إما تبني سلوك العنف أو تبني سلوك اليأس والإحباط أو"لا سلوك". أما الأمر الأول فهو أيضاً أمران، فالعنف في أحد صوره هو أن يتمنى الناس سراً أو علناً تدخل العسكر لإعادة الاستقرار ونشر الطمأنينة وتجديد الأمل في التنمية والتقدم والاستقلال الوطني. وفي صورته الثانية، إرهاب وتدمير وعدمية على أساس أن كل ما هو قائم فاسد ويجب استئصاله. أما اليأس فكذلك أمور متعددة، تبدأ بالهجرة والاغتراب وتنتهي بالضياع الأخلاقي وهيمنة الخرافات والإبادة الذاتية، أي اغتيال العقل الجماعي والفردي، مروراً بسلوكيات وممارسات فساد واستبداد وظلم وغياب قانون. ساد التفاؤل بلادنا وعم أركانها كافة حين تحرك أفراد من المواطنين تحت عنوان الإصلاح السياسي. وزاد التفاؤل درجة عندما اجتمع الأفراد وشكلوا جماعات ومنتديات. وزاد درجة أخرى عندما خرجت المئات أو الألوف في تظاهرات. وقع هذا التسلسل في التطور في أكثر من دولة عربية، وفي موقع لا يبعد كثيراً عن الظل الذي وفرته مظلة أميركية بغير ترتيب مسبق في معظم الحالات. وفي أكثر الحالات لم تعتمد القوى المعارضة والمنادية بالإصلاح على هذا الظل، وفي أحيان شعرت أنه يعطل حركتها. حدث هذا في الوقت الذي استطاعت فيه غالبية النظم العربية الحاكمة جر الظل إليها للاحتماء به من تعاظم انتفاضة الإصلاح. وأستطيع الآن، بعدما مرت شهور غير قليلة على انطلاق ما أطلق عليه الأميركيون"ربيع الإصلاح في الشرق الأوسط"، أن أقرر صحة ما تنبأ به معلقون من الأصدقاء حين قالوا إن ظل المظلة الأميركية لن يتسع لكلا الطرفين، أي للطبقة الحاكمة والجماعات"الإصلاحية". وبالفعل رأينا السلطة السياسية تتمدد في مساحة الظل الذي تفئ به المظلة الأميركية، ويتمدد معها أفراد أو جماعات محدودة العدد والتأثير. لا اعتقد أن العائد للديموقراطية خلال الشهور الماضية كان مؤثراً. كان هدف أفراد كثيرين من تشكيل جماعات وتظاهرات، هز صمود أركان أنظمة سياسية مارست بعناد القمع والاستبداد واحتكرت العمل السياسي عقوداً طويلة. وهي خدشت، ولا شك، بعض الجدران وتشققت أخرى وسقط الطلاء الخارجي وانكشفت سوءات وانفضحت خبايا شريرة وتعرى فساد كان متستراً بمناصب أو هالات، ولكن لم يهتز صمود الأركان. تصدعت هيبات ولكن وبسرعة أقيمت مساند أمنية ومادية تشد عودها. المؤكد على كل حال، أن الوعي بالديموقراطية تسرب إلى عدد أكبر من الناس في هذه المنطقة، والمؤكد أيضاً أن أوضاعاً كثيرة لن تعود إلى سابق عهدها. ولكن يبدو أن أموراً ثلاثة اتضحت أكثر من غيرها، وقد يبدو هذا الاتضاح إيجابياً للبعض وسلبياً للبعض الآخر، ولكن في مجمله يجب أن يثير أسئلة مهمة عن مستقبل ما يسمى بحركة الإصلاح أو بمسيرة الديموقراطية في المنطقة العربية. اتضح أولاً أن التخبط القائم داخل أوساط القوى المتحركة والداعية للإصلاح وكذلك داخل أوساط الحكم في الدول التي تشهد هذا التحرك كمصر وسورية وتونس والجزائر ولبنان والمغرب، يعود إلى أن لا أحد في هذه الأوساط أو تلك مارس العمل الديموقراطي من قبل. قد نجد في أوساط النخبة السياسية المصرية حفنة لا أكثر من أفراد مارسوا نوعاً من النشاط الديموقراطي في الأربعينات من القرن الماضي. حتى هؤلاء أظن أنهم فقدوا مهارات اللعبة الديموقراطية وإن لم يفقدوا ربما الحس الديموقراطي. لا أحد في الطبقة السياسية في كل البلدان العربية يعرف جيداً الكثير أو حتى القليل من أصول اللعبة الديموقراطية وقواعدها. بعضهم يعرفها مما يصل إليه من كتب ومجلات غربية أو يشاهده عن بعد أو خلال زياراته لدول غربية أو للهند. ومع ذلك فإن بعض الذين اشتركوا في صياغة بعض أوراق الإصلاح ورفع شعار الليبرالية ما زال يصر على استبعاد هذا الفريق أو تلك الجماعة أو هذا المواطن بتهمة عدم أو قلة الإلمام بقواعد العمل الديموقراطي. المثير للانتباه وأحياناً السخرية أن يصدر هذا التحفظ عن أفراد وجماعات وأحزاب لم تمارس هي نفسها الديموقراطية، وبينها من شارك على نطاق واسع في صنع قواعد وأصول أنظمة استبدادية أو في خدمة حكومات لم تحترم الديموقراطية ورفضت المشاركة الشعبية الواسعة. وما يقال عن رجال ونساء الحزب الحاكم وجماعة السلطة يقال عن كثيرين من أفراد وجماعات وأحزاب القوى المطالبة بالديموقراطية والإصلاح. لا أحد - فرداً كان أم جماعة - مارس يوماً ما العمل الديموقراطي الذي يطالب الآن الآخرين باحترام قواعده وأصوله. نعرف بالتأكيد أن أحزاب الحكم والمعارضة كافة، في مصر على الأقل، لم يصل عظماؤها إلى مناصبهم عبر قواعد أو أصول ديموقراطية، وباقون فيها من دون سند ديموقراطي، ويتعاملون مع مختلف مستويات أحزابهم في غيبة شبه كاملة من الشفافية. اتضح ثانياً أن أحد أهم أسباب البطء الشديد في تقدم حركة الإصلاح وفي سوء أداء الحكومات وأحزابها في التعامل مع قوى المعارضة والتغيير، هو الافتقار لخبرة في العمل السياسي. فالسياسة، بالنسبة الى معظم المسؤولين العرب، تعني فرض الطاعة للسلطة من خلال توزيع المناصب والمنافع الشخصية أو الحرمان منها، أو من خلال القمع والاعتقال. أما السياسة، بمعنى التوافق والتراضي والتفاوض وإقامة التحالفات الانتخابية وتقديم التنازلات وتجنيد أجيال جديدة وتدريبها على العمل السياسي تمهيداً لتولي المسؤولية في المستقبل، فهذه لا يوجد من يتقنها لأنه لا يوجد من مارسها. فموظفو الحزب القائد اتقنوا فن إجراء صفقات مع أفراد يريدون منفعة تجارية أو مكسب غير مشروع أو تكوين ثروات باهظة يجري ترشيحهم في انتخابات مضمونة نتائجها قبل إجرائها. هؤلاء يعتبرون هذه الصفقات"عملاً سياسياً"لأنهم حققوا لرئيس الدولة غالبية عددية في المجلس النيابي، ويجيدون التخلص من قضاة لا ينفذون تعليمات السلطة التنفيذية، ويجيدون استخدام أجهزة الأمن والإعلام الرسمي لترهيب من يصر على عدم التعامل بأسلوب الصفقات ويختار التعامل بقواعد"سياسية"غير متعارف عليها كتشكيل حركة سياسية أو حزب أو التعبير بحرية. تصور مسؤولون كبار في حكومات عدة أنهم بإجادتهم هذه الممارسات أجادوا العمل السياسي. أدى هذا الافتقار إلى الخبرة في العمل السياسي إلى تعثر حركة الإصلاح في أنحاء العالم العربي كافة. لم تفلح الجماعات المتناثرة التي تحاول العمل في سورية ومصر وتونس والبحرين وغيرها في تكوين جبهات أو أهداف سياسية يجمعها"خط فكري أو سياسي". سمعت أصواتاً من داخل المعارضة الإصلاحية تحذر من التشظي بعد أن كانت تحذر من التشرذم. بل ويتردد أنه في التجربة المصرية تحديداً تحاول أطراف سياسية إبعاد أطراف أخرى بحجة أنها"مختلفة"، لا هذه الأطراف ولا تلك تعرض التنازل عن جانب من مواقفها مقابل التوصل إلى حركة موحدة لإصلاح حقيقي. ويزداد الأمر سخفاً عندما تصر أطراف على أن يمثلها أشخاص بعينهم وتضع هذا التمثيل شرطاً تتعطل من دونه حركة الإصلاح أو تتوقف. انتظرت أن يخرج لبنان من أزمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم الانتفاضة الشعبية أقوى سياسياً وديموقراطياً وخاب أملي قبل أن يجف دمعي على صديق احترمت فكره وراح ضحية الحرب السرية داخل المنظومة الدولية لأجهزة الأمن. وكنت أنتظر أن تكسر سورية استحكام سلسلة الأزمات التي تمسك بخناقها فتطلق العنان للحريات وحركات الإصلاح، ولكنني فوجئت بأن الإصلاح الذي انتظره الشعب السوري وقع اختصاره في هدف تحسين صورة رئيس الدولة وتأكيد أهمية الحزب الحاكم. وكنت انتظر أن يكون الحكم في تونس وقد زادت ثقته بنفسه وبنجاحاته الاقتصادية سيدفع بالإصلاح السياسي والحريات إلى آفاق أوسع فيصير نموذجاً، ولم يحدث. واتضح ثالثاً أن الثمن الذي دفعته المنطقة مقابل الانشغال بالإصلاح والتغيير من رصيد حقوقها المتدني وعلى حساب قضاياها تجاوز كل التوقعات. كانت الخشية أن يؤدي الانشغال بالإصلاح إلى تقوقع كل دولة وانعزالها تحت شعار الوطن أولاً. ثم تبين أنه لتخفيف وطأة الضغط الأميركي المصاحب للإصلاح يتعين أن تدفع الدول ثمناً باهظاً من أرصدتها ومصالحها ومكانتها الخارجية. وبالفعل دفعت. أظن أنه من دون هذا الانشغال الشديد من جانب معظم العناصر النشطة بقضية الإصلاح ما كان ممكناً التوصل إلى توقيع هكذا اتفاقية لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل أو أن تشترك قوات مصرية بهكذا صورة في حماية أمن إسرائيل أو أن تباع أرصدة الدول من مصانع وشركات في مناقصات وبشروط مجحفة، وأن تفتح قناة فضائية عربية شاشتها لموفاز ليبرر للعرب ما يفعله بفلسطين وشعبها، وأن يقبل الحكام العرب أن ينتهي وضع غزة إلى ما انتهى إليه بحصار جوي وبحري وبري وانفصال عن الضفة، أو أن يقبلوا بتآكل ما تبقى من فلسطين أمام أعينهم، وأن يساق بأوامر أميركية سفراء من الدول العربية إلى بغداد قرابين لجماعات إرهابية، وان يسود صمت في عواصم العرب بينما أحوال الجاليات العربية في الخارج كافة تنحدر نحو مصير رهيب. التغيير واقع لا محالة. فالمسيرة تحركت ولن تتوقف، وإن تباطأت أحياناً أو تعثرت. ولا سبيل لضمان الوصول إلى خط النهاية إلا بسد الثغرات أو الاختراقات التي تستفيد منها قوى داخلية وخارجية، منتهزة انشغال الوطنيين المخلصين من الحاكمين والمحكومين بقضية واحدة وإهمال قضايا أخرى ليست أقل أهمية. يجب أن يغطي الانشغال القضايا الوطنية كافة. عين على التغيير الديموقراطي وعين على بقية القضايا. كاتب مصري.